تنحشر المجاميع فى قارب مُتهالك يوشك على الرسوّ فى قاع البحر، لكن أحدا لا يفكر فى التراجُع أو ربما يفكر، لكن التَّوق إلى عيشٍ أكثر رحمة يدفع الخوفَ بعيدا. يغوصُ القاربُ بحمله وتبتلع المياه مَن يستسلمون سريعا علّها بهم أقل قسوة. المأساةُ متكررةٌ والهاربون يلقون المصير المُؤسى مرة بعد مرة مع ذلك لا يرتدعون ــ وقد باتت ظهورهم إلى الحائط ــ عن السعى وراء شِبه حلم.
ثمّة بشرٌ تركوا قراهم إن بقيت لهم قرى، وبيوتهم إن كانت لهم جدران تضمُّهم، ليحتفظوا لأنفسهم وأبنائهم بحقّ الطموح والترقى مِن مرتبة العبيدِ إلى مكانةِ الأحرار.
ثمّة بشرٌ عبروا حدودَ بلادهم، قصدوا أرضَ مصر طمعا فى حياة آمنة وعيش فيه أقل القليل مِن الاحتياجات الآدمية؛ مكان مُغلق يسترهم مِن العيون وإن كان ضيقا كما الكفن، أرغفة خبزٍ لا غموس لها ولا مذاق يتناولونها سدا للجوع، وعمل يوصف فى مجتمعات لا تحب العمل بأنه حقير. أغلب هؤلاء جاءوا مِن أمكنة دكّتها الحروبُ الأهلية وأرهقها سوءُ الأحوال الاقتصادية. حين وصلوا لم يكن أمامهم والحال قد صارت مُفزعة وضاقت مصر بمَن فيها، إلا أن يغادروا مرة أخرى. لا حيلة لهم وسيعيدهم سوءُ الحظِّ مُرحَّلين إلى بلدانهم ليعاودوا الفرار إلى ملجأٍ جديد.
***
لم أقرأ أو أسمع أن واحدا مِن الناجين، مصريا كان أو غير مصرى، سعيدٌ بإنقاذه، نادمٌ على قرار الرحيل. بل منهم مَن قال رغم الفقد ورغم صراع الموت المرير إنه سيعيد الكرّة وسيختار الهربَ مرة أخرى لو أتيحت له الفرصة. لا أرى فى الأمر يأسا فقط بل ثنائية يأسٍ وأملٍ متجاورين. اليأسُ مِن تبدُّل أوضاعِنا بصورة إيجابية والأملُ فى الحصول على حياة أكثر رفقا وسلاما.
ما يضيف إلى الحزن حزنا وإلى البؤس والتعاسة قهرا، عجز غالبية المسئولين عن إبداء التعاطف التلقائى والطبيعى مع الضحايا، والافتقار إلى أبسط المشاعر الإنسانية فى التعامل مع الموقف، وافتقاد اللباقة على المستويات كلها.
رأيت صورا للناجين مِن الغرق مُكدَّسين مُكبَّلين لا يهتم لمأساتهم أحدٌ، ولا يطيب خاطرهم أحدٌ، وأذكر والشىء بالشىء يُذكَر، كيف انقلبت الدنيا لوقوع حادثِ جبل سانت كاترين حيث توفى بعض المتسلقين بعد أن ضلّوا الطريق. أذكر كيف انتقلت فِرقُ طوارئ مُتخصصة فى المساندة النفسية لتقدِّمَ العونَ وتساعدَ الناسَ على تجاوز الصدمة، وكيف انتفض مسئولون واستقلوا الطائرات إلى موقع الحادث ليتابعوا الرعاية التى يلقاها أصحابُ المأساة، أما غرقى رشيد وذووهم المكلومون فلا شىء لهم إلا اللوم والمهانة والتحقير. إنه الحسُّ الطبقى يحكم الدولةَ التى يزعمُ نظامُها ليلَ نهار أن فقراءَ الناس فى عيونه، فإذا كان يعتقد فعلا فيما يقول تكون العيونُ كليلة والبصرُ معطوبا، تحجبه غشاوةُ العقلِ والقلبِ معا.
أيام؛ توقفت قواتُ الإنقاذِ عن مباشرة عملها بعد أيام، واجتمعت الحكومةُ على عجلة بعد أيام، ونفدت الأكياسُ المُخصَّصة لحفظ الجثامين بعد أيام، وتولى الصيادون والأهالى العمل بأيديهم لأيام. الحياةُ حظوظٌ والموتُ حظوظٌ والهربُ منهما أيضا حظوظٌ، لا قاعدة ولا منطق إلا لمن تسعده الحظوظ بصاحب سُلطة يدعمه فى هذه الأيام.
***
هالنى أن تسأل المذيعةُ المتأنقةُ رجلا نجا مِن القارب بينما فقد زوجته وبناته: ما حاولتش تنقذهم أو تِشدُّهم؟ هذه مذيعة تحقق أدنى الدرجات على مقاييس الذكاء والعواطف مُجتمعة، لا تعرف معنى المشاركة ولا تفهم حُسن تقدير مصائب الآخرين. قالت ما قالت والرجل يبكى مُنكَّسَ الرأس كسيره، فكان قُبح المشهد أقوى مِن أى شىء.
ما استطعت وأنا أشاهدها على الشاشة أن أبعد عن مخيلتى صورة مذيعة البى بى سى الأجنبية وهى تتكتَّم دموعَها أمام المشاهد الحيّة لإنقاذ عُمران؛ الطفلُ السورى صاحب الملامح الذاهلة الخارج توا مِن تحت الأنقاض. بكت المذيعةُ ومَسَحت دموعَها ثم بكت مِن جديد وبان أثرُ الدموع فى صوتها. رأيت المذيعة المصرية فى مُقارنة لا راد لها؛ مُتحجِّرة العقل والوجدان، أما على صعيد اللباقة المهنية والاحتراف؛ فصفر ضمن أصفارنا الكثيرة.
***
قبل أسابيع ترك فتى مصرى عائلتَه وغامَر بركوب الأمواج حاملا معه ملف أخيه الذى يعانى مرضا عضالا. وصل إيطاليا يطلب العون والرأفة فعدوه هناك بطلا ونموذجا أخلاقيا يُحتذى فى الشجاعة والتضحية والإصرار، بينما عَدَّه المسئولون عندنا جاحدا. أعلنوا أن مصر أولى بمداواة أبنائها، استنكروا سفره وقالوا إن الأهلَ لم يطلبوا العلاجَ لولدهم المريض وإنهم لو طلبوا لعولج وانتهى الأمر وما كانت هناك حاجة للمخاطرة وتشويه سمعة البلد. ردٌّ لا يحمل فى ظاهره وباطنه سوى الاستهانة والاستخفاف، الاستخفاف بألم الناس ومعاناتهم، وبواقع الحال. يعلم المسئولون تمام العلم أن العلاجَ ترفٌ وأن المستوصفات والمستشفيات هى مقابرٌ لا أكثر ولا أقل، وأن الدواءَ مرتفعُ الثمن وشحيح، وأن اختيار الموتَ أهون لدى بعض الناس مِن المذلَّة. ردُّ المسئولين مُخزٍ، لا لباقة فيه ولا كياسة ولا رشد، بينما فِعلُ الولدِ نبيلٌ، محفوفٌ برهافة الحسّ وروعة التضامُن.
***
ربما تعايشنا منذ زمن مع إخفاقات لا عدد لها لكن التعايش مع بؤس المشاعر وفقر الأحاسيس أمرٌ جدٌّ مُخيف.