عرف قدماء المصريين معدن النحاس واستخدموه فى صناعة أنابيب لتوصيل مياه الشرب، ولصرف المياه والفضلات، حيث عثر الأثريون على ألف وثلاثمائة قدم من الأنابيب النحاسية فى معبد هرم أبى صير الأسرة الخامسة (2750ــ2625 ق.م)، كما عثر على أنابيب مشابهة فى آثار قصر كنوسوس بجزيرة كريت (1700ــ1400 ق.م.).
وبمعرفة الإنسان طرق استخلاص النحاس وغيره من الفلزات من خاماتها ظهرت حرف ومهن جديدة، وظهرت طبقة أصحاب المناجم وصهر الخامات والنحاسين. وفى عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، استخدم النحاس فى سك العملات، كما استخدم فى صناعة أوانى الطعام وأدوات الزينة. ولوقت ما استخدم النحاس على مدى واسع فى طلاء قاع السفن الخشبية!. (دكتور حسن بخيت).
فى شهر سبتمبر من العام 1935 تأسست فى مدينة الإسكندرية، وتحديدا فى منطقة حجر النواتية، شركة مصانع النحاس المصرية برأسمال مشترك بلغ 54 ألف جنيه، أغلبه لعائلتى «هرش» (سيجموند وإدوين هرش) وعائلة «موصيرى» (فيلكس نسيم وهنرى موصيرى).
وقد تم فصل منطقة «حجر النواتية» عام 1960 لتصبح شياخة مستقلة عن قسم شرطة «المنتزه» وأضيفت إلى قسم شرطة «الرمل» لتصبح إحدى شياخاته المستقلة، واختلفت الروايات حول سبب تسمية «حجر النواتية» بهذا الاسم، لكن الراجح لدى المؤرخين وروايات الأهالى أن هذا مرجعه احتواء المنطقة على كميات كبيرة من الأحجار الثقيلة الممتزجة بمعدن الرصاص، والتى كان يطلبها «النواتية» (أى البحارة والمراكبية) لاستخدامها كثقل يساعد على إرساء السفن والمراكب (عوضا عن الهلب المستخدم فى الوقت الحالى).
وعند تأسيس شركة مصانع النحاس المصرية كان الغرض الأساسى الذى صدر به الترخيص هو درفلة النحاس الأصفر والأحمر لعمل الألواح والأقراص المستخدمة فى صناعة الأوانى المنزلية. وقد بدأت الشركة نشاطها على مساحة فدان واحد ثم توسعت بعد ذلك وأنشأت العديد من الصناعات، حيث أضيف لنشاط الشركة لاحقا صناعة منتجات الألومنيوم وبعض الصناعات الحديدية واستمرت الشركة فى إنشاء الوحدات والمصانع فى مجال الحديد والنحاس والألومنيوم وكانت من أولى الشركات المنتجة لحديد التسليح والألومنيوم والمبخرات فى جمهورية مصر العربية. والشركة تتبع فى الوقت الراهن الشركة القابضة للصناعات المعدنية، وقد اندمجت فيها الشركة العامة للمعادن بحلوان، وهى تواجه حاليا الكثير من التحديات أهمها ندرة وارتفاع تكلفة خردة النحاس.
***
تتواجد خامات النحاس فى مصر مختلطة بخامات الزنك والرصاص بمناطق مختلفة جنوب الصحراء الشرقية فى محافظة البحر الأحمر، وأهم تلك المناطق هى منطقة «أم سميوكى» التى تقع جنوب غرب مـدينة مرسى علـم بحوالـى (150 كم) وإلى الجنوب الغربى من ميناء أبوغصون بنحو (90 كم) ويتواجد الخام فيها على هيئة عـدسات ذات أبعاد متوسطة. كذلك يتواجد خام النحاس فى مصر فى منطقة «أبـو سويـل» التى تقـع شرق مـدينة أسـوان، ويتواجد الخام فيها على هيئة عـدسات ذات أبعـاد متوسطة. كذلك يتواجد خام النحاس فى صخور البريدوتيت المتمعدن (Peridotite) فى منطقة «جابر وعكارم» التى تقع فى وسط الصحراء الشرقية على بعد نحو 130 كم شرق أسوان و 24 كم جنوب جبل حمر عكارم.
ويستخرج النحاس عرضا عند تعدين المعادن الأخرى وهو يدخل فى عدد من السبائك المفيدة، والمستعملة على نطاق واسع، وتتفاوت نسبه فى هذه السبائك تفاوتا كبيرا حيث يخلط مع بعض المعادن الأخرى مثل الزنك والقصدير والنيكل لصناعة سبائك ذات صفات وخصائص متعددة تستخدم فى المجالات الصناعية المختلفة.
وإذ يتميز معدن النحاس بقدرته العالية على إعادة التدوير والاستخدام فإن الكثير من صناعات سبائك وأسلاك النحاس تتم باستخدام خردة النحاس وليس اعتمادا على تعدينه، والصناعات النحاسية فى مصر تعتمد على خردة النحاس كمصدر أساس فى التصنيع، لا على تعدين الخام. الأمر الذى شاعت بسببه سرقة الكابلات النحاسية لخطوط الهاتف خاصة فى المناطق الجديدة، وحدا بوزارة الاتصالات إلى التحول إلى كابلات الفايبر. كذلك تسبب النقص الشديد فى خردة النحاس إلى ارتفاع سعر الطن إلى ما يصل إلى 200 ألف جنيه، وإلى وضع الحكومة قيودا على تصديرها فى صورتها الخام، الأمر الذى يتم التحايل عليه بصناعة تماثيل وبارات من النحاس يتم صهره بمجرد وصوله إلى مقصده المصدر إليه، أو حتى تهريب النحاس داخل شحنات تصدير أخرى. وهذا يعد أهم التحديات التى تواجه صناعة النحاس فى مصر، خاصة مع عدم تعظيم فرص تعدينه بتخفيض تكاليف التعدين، وزيادة العائد على الخام المصنع.
***
وتتوقع شركة «ماتماتش» الألمانية المتخصصة فى مجال بناء وتحليل قواعد بيانات المعادن أن تصل السوق العالمية للنحاس ما يقرب من 172 مليار دولار فى عام 2023، مشيرة إلى أن الطلب على المعدن فى زيادة مضطردة مع تعدد استخداماته. وترجع «مليسا ألبيك» المدير التنفيذى للشركة زيادة الطلب على النحاس فى السنوات القادمة إلى ستة أسباب هى:
الاستدامة: حيث إن ثلثى كمية النحاس المنتجة منذ عام 1900 مازالت تستخدم حتى يومنا هذا، فإن عددا قليلا من الموارد يمكن تدويره بهذه الكفاءة، ومن ثم يصبح النحاس من أكفأ الموارد حفاظا على البيئة وثرواتها الطبيعية، وتحقيقا للاستدامة. ولأن أهداف التنمية المستدامة تقع على قمة أولويات العالم اليوم، فإن المزيد من المصنعين سوف يلجأون إلى معدن النحاس بصورة أكثر كثافة، لإحلاله قدر المستطاع محل المنتجات البلاستيكية والورقية. كذلك فإن معدن النحاس مهم جدا فى عمليات إعادة تدوير معادن أخرى مثل الذهب والفضة والنيكل. كل عام يتم إعادة تدوير 8.5 مليون طن من النحاس.
المركبات الكهربائية: وفقا لتقرير صادر عن جمعية النحاس الدولية، فإن عدد المركبات الكهربائية وتلك التى تعمل بالكهرباء والوقود معا سوف يصل إلى 27 مليون مركبة بحلول عام 2027. بالمقارنة بمحركات الحرق الداخلى فإن المركبات التى تعمل بالبطاريات تستهلك ما يزيد عن 130 رطلا من النحاس، ومن ثم فمن المتوقع أن يصل استخدام تلك المركبات من النحاس إلى نحو 600 ألف طن تضاف إلى حجم الاستهلاك العالمى من المعدن بحلول عام 2027.
الفقر المائى: فمع انتشار أزمة نقص المياه الصالحة للشرب والفقر والمائى وانتشار الجفاف والتلوث لمصادر المياه. ومع زيادة معدلات النمو السكانى، وتطور ظاهرة الاحتباس الحرارى وتداعى شبكات البنية الأساسية فى البلدان الفقيرة فإن الحاجة إلى وسيلة آمنة قابلة للتدوير لنقل المياه النظيفة سوف تصبح كبيرة، وسوف يرتفع الطلب على معدن النحاس لهذا الغرض.
الاتجاه نحو كهربة مصادر الطاقة: وفقا لدراسة أصدرتها وكالة الطاقة العالمية عام 2017 فإن مزيدا من القطاعات تتجه من الاعتماد على الوقود الأحفورى كمصدر للطاقة إلى الاعتماد على الكهرباء. المحصلة هى ملايين من الأجهزة والمركبات والمبردات والمكيفات... التى تحتاج إلى مصدر للطاقة الكهربائية، مع نقل وتوزيع جانب كبير من تلك الطاقة عبر موصلات وأسلاك نحاسية.
اعتبارات الصحة العامة: رغم زيادة متوسطات الأعمار، وتحسن توقعات الحياة عند الميلاد، إلا أن التحديات الناتجة عن مقاومة الأجسام للمضادات الحيوية تدفع العاملين فى مجال الرعاية الصحية نحو العمل بجهد أكبر للحد من مخاطر العدوى العامة. معدن النحاس بطبيعته مقاوم للميكروبات، مما يجعله مادة مثالية للاستخدام فى المناطق العامة كالمستشفيات، والمدارس، والنوادى.. تتوقع أسواق بلومبرج زيادة الطلب على النحاس بسبب اعتبارات الصحة العامة بمقدار مليون طن سنويا خلال العشرين عاما القادمة!
المعمار الأخضر: بالقدر الذى تتحول به مجالات الطاقة وصناعة المركبات نحو النحاس لتخفيض الأثر البيئى الضار، فإن المعمار يتحول بدوره نحو مزيد من الاعتماد على هذا المعدن العجيب!. فى أمريكا الشمالية يستخدم النحاس فى دهانات وديكورات المبانى. النحاس المقاوم للتآكل يساعد البنايات على مقاومة أحوال الطقس السيئة.
بقى أن ننتبه إلى ضرورة الاهتمام بفرص تعدين النحاس، وتوفير الدعم المطلوب لصناعاته، ومنع تصدير خام النحاس وخردته غير المصنعة أو المكتسبة لقيمة مضافة، مع الالتفات إلى طرق التحايل والتهريب، التى تحرم الصناعة الوطنية من مواكبة احتياجات الطلب المتزايد فى الحاضر والمستقبل.