أجلس مع صديقتى على الكنبة فى بيتها نشرب القهوة، فتمر الساعات ولا تنتهى الأحاديث. فى ذاكرتى مشهد يتكرر، وكأن مخرجا يابانيا صنع فيلما بأكمله عن صديقتين على كنبتين متعامدتين فى موقعهما فى غرفة الجلوس، تمر عليهما شمس نهار بأكمله ثم تغيب فتمد إحداهما يدها لتشعل النور، ثم تمر السنوات فلا يتغير فى الصديقتين شيئا سوى بعض من ملامحهما بفعل السنين، وتجارب الحياة.
أجلس مع صديقى فى شمس الخريف محاولة أن أبقى حديثنا خفيفا على قلبه وقلبى، أعرف أنه يشاركنى قلقى وفرحى حسب تغير الأحداث فى حياتى، ولا أحتاج إلى استخدام الكثير من الكلمات كى أشرح له ما أمر به، فلصديقى جهاز استشعار يلتقط ذبذبات مزاجى حتى وإن مرت أسابيع دون أن نلتقى، فأراه يتصل بى فى يوم ثقيل على قلبى، ويسألنى أسئلة محددة عن موضوع يشغلنى دون أى يضيع وقته فى المقدمات.
***
هناك صداقات عابرة للسنين، عابرة للأزمنة وللأماكن، عابرة للأحداث وللقصص، صداقات خيوطها السحرية ملونة بألوان الأحداث، التى شهدتها سنوات الصداقة من أفراح وأحزان وسعادة ومشاكل عززت جميعها من العلاقة. تربطنى بهؤلاء الأصدقاء مشاهد كثيرة مزركشة تجعل من صداقتنا لحاف أتغطى به وقت الشتاء. هناك أشخاص لا نعرف كيف تسللوا إلى داخلنا فلازمونا، شهدوا قصص حبنا ووقفوا معنا حين فقدنا من نحب. هناك أشخاص مكانهم الطبيعى هو فى حياتنا، أمامنا على الكرسى المواجه لنا قرب الشباك. قد نصمت لفترات، لكن ذلك لا يدفعنا للوقوف وإخلاء الكرسى، فالصمت هو امتداد لحديث مستمر.
هؤلاء الأصدقاء لا عمر لهم، لا يهم إن كانوا من عمرنا أو أكبر أو أصغر، هم فى حياتنا كعمود الأساس فى أى بناء، نستطيع أن نعيد تصميم الغرف وأماكنها، لكننا لا نقترب من العواميد الأساسية للبناء، فهى تمسك العمارة بأكملها وإن ذهبت ذهب البناء. هم أشخاص لا أستطيع، صدقا، أن أعطيهم عمرا، لأن قربهم منى إنسانيا وروحيا وعاطفيا يخلط عليّ الأمور. هم أصدقاء مع حنان زيادة، هم شركاء فى التفكير وفى النقاش لكن مع عمق إنسانى، يظهر لى أحيانا فى شعور لدى أنهم يريدون أن يحمونى حتى ولو أخفوا نيتهم. هم أصدقاء أتمنى لو أننى كنت قد تعرفت عليهم من قبل حتى لو أن صداقتنا باتت اليوم طويلة العمر فقد مضت عليها سنوات عديدة.
***
أفكر أحيانا بمن أحب فأبتسم لأننى، وبمجرد استرجاع وجوههم فى ذاكرتى، أكاد أسمع رنات أصواتهم حتى فى غيابهم، أشعر بنظراتهم التى تلمس وجهى قبل أن تلمس كلماتهم قلبى. أتساءل أحيانا على من سوف أتكئ إن رحلوا؟ فأسارع بطرد الفكرة من عقلى: أريدهم أن يبقوا هنا، معى، ليمسكوا بيدى دون أن أطلب.
من أحب لا أريده أن يشيخ حتى لو كبر، لا أريده أن يهرم حتى لو تقدم فى العمر، أريد لمن أحب أن يبقى كما أتخيله فى صباه أو كما أراه الآن، دون أن تأخذه الحياة إلى سنوات الشتاء. لا بأس فى أن يظل من أحب فى مرحلة الخريف، إنما لا أريد لهم أن يذهبوا أبعد من ذلك. تماما كما أفكر فى والدى ووالدتى فأراهم وهم فى عمرى الآن، مشغولين بالحياة وبالعائلة وفى كامل صحتهم وقدرتهم على العطاء وعلى الاحتمال. لا أحتمل رؤية تجاعيد جديدة على وجوههم، حتى لو أقنعت نفسى أن التجاعيد تأتى من كثرة المشاعر وليس من عدد السنوات.
للأمانة، أنا لا أعرف أن أحدد موقفى من الغياب، أو بالأحرى لا أعرف أن أتعامل مع فكرة الرحيل الأبدى، أكاد أجزم بأننى لا أمتلك من القدرات العاطفية والعقلية ما يساعدنى على استيعاب أن شخصا أحبه يمكن أن يذهب دونما عودة، فعلى الرغم من أننى فقدت أشخاصا أحبهم فى السنوات الماضية، فإننى تعاملت مع الموضوع من خلال تجاهلى لفكرة أن الموت غيبهم، فبقيت أشتاق لهم حين أمر فى شارعهم، أو أسأل نفسى لماذا لم أرهم منذ فترة طويلة حين تظهر أمامى صورهم.
***
أخاف جدا من الغياب، أخاف من مواجهة الفراغ الذى قد يتركه أحدهم فى فضائى إن رحل. وأكثر ما أخاف منه اليوم وأنا أنضج، وفى مرحلة عمرية بدأ فيها بعض من أعرفهم بالرحيل، هو فكرة أن الحياة تستمر، حياة الآخرين، حياة أناس كثيرين من حولى، لكن ليس حياة من أحب إن رحل. لا قدرة عندى على فلسفة ما بعد الرحيل، ولا رغبة عندى على إضفاء منطق على موت من أحب بحجة أن هذه هى سنة الحياة، أو أننا أتينا إلى هذه الدنيا على شرط تقبل أننا سوف نرحل عنها. صداقاتى لا عمر لها، ولا تاريخ تنتهى فيه صلاحيتها. أريد لمن أحب أن يبقى، وأريد ليومى على الكنبة عند صديقتى أن يتكرر حتى نصبح كلتانا غير قادرتين على الحركة، فنجلس نتذكر أيام كثيرة على نفس الكنية ونقول «كانت أيام«...، أريد لشمس الخريف أن تغطينى كل سنة فى نفس الحديقة مع صديقى الذى لا عمر له، لينظر إلىّ بعينيه الدافئتين كشمس تلك الأيام ويقول:«وبعدين يا تمارا؟ هتعملوا إيه؟».