جعلوه ألمانيا.. عن المستشرق النمساوى ألويس شبرنجر الذى لم يكن فذًا ولا كان صاحب أكبر انتقاد لسلطة علم الحديث - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جعلوه ألمانيا.. عن المستشرق النمساوى ألويس شبرنجر الذى لم يكن فذًا ولا كان صاحب أكبر انتقاد لسلطة علم الحديث

نشر فى : الجمعة 30 نوفمبر 2018 - 11:35 م | آخر تحديث : الجمعة 30 نوفمبر 2018 - 11:35 م

فى كلمته بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوى فى التاسع عشر من نوفمبر الحالى، أحال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب فى سياق دفاعه عن سنة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلوم الحديث ــ إلى «المستشرق الألمانى» ألويس شبرنجر. مؤكدا على دقة علوم الحديث خاصة علم الإسناد أو علم الرجال الذى يتتبع تاريخيا رواة الأحاديث النبوية، وقد استشهد الدكتور الطيب بشبرنجر قائلا: «وقد شهد بذلك الأفذاذ من علماء أوروبا ممن توفروا على دراسة السنة النبوية، حتى قال المستشرق الألمانى ألويس شبرنجر إن الدنيا كلها لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين، فقد درس بفضل علم الرجال الذى صمموه حياة نصف مليون رجل...».
وفى معرض مناقشته للكلمة، التقط الدكتور أحمد عبدربه فى تعليق له على صفحات الشروق (نشر فى ٢٥ نوفمبر ٢٠١٨) استشهاد الإمام الأكبر بشبرنجر واصفا إياه «بالمفاجئ والمربك» وخاطب الدكتور الطيب قائلا: «المستغرب يا فضيلة الإمام أن سيادتكم أوردتم هذا النص فى سياق التأكيد على منهاجية وصدق علم الحديث، ولكن فات سيادتكم أن ألويس شبرنجر تحديدا هو أولا ابن نفس الصحوة الإسلامية فى شبه الجزيرة الهندية التى سبق أن وجهتم إليها أشد أنواع النقد والاتهام الذى جاء إليها معجبا ومشدودا ثم باحثا ومنقبا وناقدا، وأنه ثانيا ــ وهو الأهم ــ صاحب أكبر انتقاد لسلطة علم الحديث كما أسماها حرفا حيث دعا أولا إلى فهم الأحاديث النبوية باعتبارها معبرة فقط عن روح عصرها (عصر الرسول محمد)، ودعا ثانيا إلى عدم الاعتماد الأعمى على الأحاديث النبوية موضحا ــ بحسب رأيه ــ تناقضات بعضها البعض، منتهيا إلى أن سلطة علم الحديث مرفوضة ويجب تحديها فى ضوء التطورات المعاصرة...» ثم أحال هو الدكتور الطيب إلى ما أسماه «بعض الكتابات الدقيقة» عن شبرنجر، داعيا إلى تصحيح الاستشهاد بشبرنجر لكونه «يناقض منطق الخطبة» المدافع عن علوم الحديث.
لست معنيا فى ملاحظاتى التالية بالاشتباك علميا مع مجمل كلمة الإمام الأكبر بما حوته من دفاع عن سنة الرسول وعلم الإسناد الذى يشكل عماد رواية الأحاديث النبوية، فالمسألة بعيدة عن مجال تخصصى فى العلوم السياسية، كما أننى لم أقم بقراءات منظمة فى علوم الحديث أو فى القضايا الفقهية المرتبطة بالعلاقة بين القرآن والسنة ودور عوامل الزمان والمكان فى فهمهما لكى يكون لدى ما يصح منهجيا عرضه على الناس. لست معنيا، ثانيا، بالاشتباك مع السياق السياسى الذى جاءت به كلمة الدكتور الطيب ويحمل الكثير من مضامين الصراع بين نزوع السلطة التنفيذية للأمر من أعلى بما تسميه «التجديد الدينى» وسعيها لاستغلال الأزهر بهذا الاتجاه (علما بأن ما تعنيه السلطة التنفيذية بالتجديد الدينى يظل غائم المعالم، وتحيط به العديد من الشكوك المشروعة لكون عملية تجديد أو تحديث أو عصرنة فهم الدين فى مصر ليس لها أن تفرض على المؤسسة الدينية الرسمية، وبين رفض الإمام الأكبر للاستغلال السياسى للأزهر ودفاعه عن استقلاليته (وهما رفض ودفاع أتعاطف معهما مثلما أنأى بالأزهر الشريف عن أن تكال له الاتهامات المرسلة بعدم مواجهة الفكر المتطرف ودعاته). لست معنيا، ثالثا، بالاشتباك مع جوهر تعليق الدكتور عبدربه على الكلمة وهو اتسم بالاحترام والابتعاد عن التسييس.
فقط يعنينى فى «الكلمة والتعليق» تحليل الاستشهاد والاستشهاد المضاد «بالمستشرق الألمانى» ألويس شبرنجر، وكذلك الإحالات إلى دراسات المستشرقين الغربيين عن الدين الإسلامى وسيرة الرسول وسنته وأحاديثه وتأويلها على هذا النحو أو ذاك ثم توظيفها للتدليل على صحة رؤية معينة لأمر من أمور الدين أو لدحضها. فالاستشهاد والاستشهاد المضاد والإحالات، جميعها اتسمت بنواقص علمية خطيرة هى غياب الدقة والاجتزاء وتضخيم أهمية المستشهد بهم والمحال إليهم والوقوع فى شرك تنصيب الغرب ومستشرقيه «مرجعية عليا» لها وحدها دون غيرها حسم الجدال الدائر بيننا حول أمور الدين وعلاقتها بزماننا ومكاننا وأحوال دنيانا. تحليلى للنواقص تلك لا ينتقص أبدا من قدر صاحب الكلمة أو من تقدير صاحب التعليق، ولا أحصنه بادعاء متهافت باحتكار الحقيقة ضد انتقادات مشروعة قد ترد عليه، وغاية التحليل الوحيدة هى الانخراط فى نقاش عام حول شرك تنصيب الغرب كمرجعية عليا.
***
بداية وفيما خص غياب الدقة، لم يكن ألويس شبرنجر (١٨١٣ــ١٨٩٣) «ألمانيا» بل نمساويا (ولد فى بلدة نازاريت ــ أو الناصرة باللغة العربية – بمنطقة التيرول الواقعة بجنوب غرب جمهورية النمسا الحالية) وكان من رعايا الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية المتحدثين باللغة الألمانية ودرس الفلسفة والطب والاستشراق بجامعة فيينا وعمل على إجادة اللغات اللاتينية واليونانية القديمة والعبرية والعربية والفارسية أملا فى الالتحاق بالخدمة الدبلوماسية للإمبراطورية غير أن أمله خاب ولم يقبل كدبلوماسى بسبب تواضع خلفيته الأسرية. فى ١٨٤٢، وبعد التنقل لسنوات بين أكثر من مدينة أوروبية ونشر أكثر من بحث عن «لغات وشعوب الشرق»، غادر شبرنجر إلى الهند. غير أنه لم يأتها «معجبا بالصحوة الإسلامية ثم باحثا فيها»، بل وصلها لإعداد أطروحته للدكتوراه عن «الخدمة الطبية لشركة الهند الشرقية» وسرعان ما أسقط الأطروحة من حساباته والتحق مستغلا معارفه اللغوية بالإدارة الاستعمارية البريطانية فى الهند، تحديدا بإدارة التعليم الاستعمارية. كان شبرنجر إذا نمساويا ومستشرقا عمل فى خدمة الاستعمار البريطانى فى الهند فى أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، علما بأنه جال فى السنوات الأولى من خمسينيات القرن التاسع عشر على مصر وسوريا والعراق وعمان جمعا للمخطوطات العربية النادرة. وعندما غادر «الشرق» فى ١٨٥٦ عاد إلى أوروبا والتحق كأستاذ بجامعة برن السويسرية وبها درس الأدب العربى ومعارف اللغة العربية والأوردية بين ١٨٦١ و١٨٨١ قبل أن يقضى سنوات عمره الأخيرة فى ألمانيا ومنها واصل كتاباته عن الشرق ودينه ولغاته.
***
أما فيما خص اجتزاء أفكار شبرنجر عن السنة النبوية وعلوم الحديث بعيدا عن السياق العام لكتاباته، لم يكن المستشرق النمساوى موضوعيا فى تعاطيه مع تاريخ الإسلام ودور الرسول الكريم ولم تصدر إشارته إلى علم الإسناد (علم الرجال) الذى درست بفضله حياة «نصف مليون رجل» عن انبهار بالقدرات العلمية التى أظهرها المسلمون فى تتبع رواة الأحاديث. كانت الإشارة مجرد تقرير لواقع تاريخى (عدد الرواة) لم يرتب عليه إشادة «بمنهجية علم الإسناد» ولم يمنعه من البحث فى تناقضات الأحاديث المروية، بل والتشكيك من وجهة نظره فى السنة النبوية. أما تاريخ الإسلام ودور الرسول الكريم، وشبرنجر تناولهما فى كتاب صدر باللغة الإنجليزية فى ١٨٥١ وعنون «حياة محمد من مصادر أولية» وفى النسخة الألمانية من «حياة محمد» التى اتسعت لتشمل ثلاثة أجزاء تدرس الحركات الدينية قبل الرسول وتعالج طفولته وشبابه وسيرته فى المدينة المنورة وعودته إلى مكة المكرمة وفى كتاب صدر بالألمانية وعنون «محمد والقرآن» وفى أبحاث أخرى، فأحاطهما الرجل باختزال لأسباب ظهور الإسلام فى المقتضيات الاقتصادية لسكان الجزيرة العربية وبتصوير ظالم للرسول كباحث عن سلطة وبصنوف أخرى من التشكيك الفاسد فى شخصيته ودوره يعف قلمى عن ذكرها. من جهة أخرى، لم يكن شبرنجر غير موظف استعمارى غلب «الاستعلاء الأبيض» على مقاربته للتراث العلمى للشعوب العربية والإسلامية وقلل من شأن الحركات الدينية التى كانت الهند تعج بها فى القرن التاسع عشر ولم ير فى الشرق ما يستأهل الدراسة المنتظمة من قبل الأوروبيين سوى لغاته. فى دراسة قصيرة له عن «المكتبات الشرقية» (نشرت فى ١٨٥٣)، ذكر المستشرق المستشهد به أن «المعارف الشرقية لا تقدم ما يتعين التوقف أمامه» إن فى الفن والعلوم أو فى الفلك والطب والحساب وتاريخ الطبيعة أو فى الفلسفة والشعر ورأى فى الاستعمار البريطانى للهند سبيل الخلاص الوحيد للشرقيين من التأخر وطريق الاقتراب من المعارف والعلوم الحديثة التى تنشرها بريطانيا (تاج أوروبا المتلألئ كما كان يصفها). ولم يرد أثناء عمله فى إدارة التعليم الاستعمارية أن تحوى المناهج من الشرق غير لغاته، ولم يعرف عنه الاهتمام بتدريس اجتهادات الحركات الدينية التى عاصرها أثناء تواجده فى الهند. فقط الاجتزاء وتجاهل السياق العام لكتابات ألويس شبرنجر هما ما ورطا الإمام الأكبر فى الاستشهاد بمستشرق لم ينصف الإسلام أو رسوله ولم تكن إشارته إلى علم الإسناد بإشارة الأوروبى المنبهر، وهما أيضا ما ورطا الدكتور عبدربه فى اعتبار موظف استعمارى ومنافح عن استعمار الأوروبيين لكل بلاد الشرق (نشر شبرنجر فى ١٨٨١ دراسة عن ضرورة استعمار ألمانيا للعراق لتخليص أرض بابل القديمة من التخلف) وحامل للاستعلاء الأبيض ابنا للصحوة الإسلامية فى شبه الجزيرة الهندية فى القرن التاسع عشر.
***

أما تضخيم أهمية المستشهد بهم من المستشرقين والمحال إليه من دراساتهم ومن الدراسات عنهم، فتدلل عليه إشارة الإمام الأكبر لشبرنجر كأحد «الأفذاذ من علماء أوروبا» وتوصيف الدكتور عبدربه له «كصاحب أكبر انتقاد لسلطة علم الحديث» والأمران بهما من المبالغة غير المنضبطة ما يستدعى التفنيد. لم يكن الدكتور الطيب ليخلع على شبرنجر صفات التميز العلمى، إن كان قد أدرك ابتعاد المستشرق النمساوى عن الموضوعية فى تناول تاريخ الإسلام ودور الرسول الكريم أو عرف أن المحدثين من المستشرقين الأوروبيين توافقوا فقط على أهمية دراساته للغات الشرقية. وبالمثل، لم يكن وصف «صاحب أكبر انتقاد لسلطة علم الحديث» ليجرى على قلم صاحبه إن كان قد عاد إلى كتاب المستشرق المجرى ايجانتس جولدتسير (١٨٥٠ــ١٩٢١) المعنون «الدراسات المحمدية» (تحديدا الجزء الثانى والذى نشر بين ١٨٨٩ و١٨٩٠) وبه اعتبر أن «القراءة التاريخية» للأحاديث النبوية توضح كونها تتعلق بالقرنين الثانى والثالث الهجرى ويستحيل الدفع بارتباطها بالقرن الأول الهجرى وينبغى لذلك من وجهة نظره التشكيك فى مصداقيتها وفى صحة روايات الرواة. فى خواتيم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت دراسات جولدتسير وبجانبها دراسات المستشرق الألمانى تيودور نولدكه (١٨٣٦ــ١٩٣٠) هى التى قدمت «الانتقاد الجذرى» لسلطة علم الحديث ولم يزل المحدثون من المستشرقين الأوروبيين يعودون إليها عند تناول السيرة النبوية. فكيف لمن قام استشهاده المضاد على تضخيم أهمية المستشرق المستشهد به وتجاهل السياق العام لكتاباته وموضعه فى الدراسات الاستشراقية فى القرن التاسع عشر أن يطلب من صاحب الاستشهاد الأساسى أن يتراجع عنه، أنى له ذلك والتطابق بين الاستشهادين لجهة المبالغة غير المنضبطة والإحالة غير الدقيقة يكاد يكون تاما؟
ومن وراء تضخيم أهمية المستشهد بهم من المستشرقين الأوروبيين يتبدى شرك تنصيب الغرب كمرجعية عليا واجبة الاستدعاء من قبل شعوب «الشرق» عندما تتجادل فى أمور دينها وعلاقته بدنياها. وفى الشرك تتبدى أزمة «الدونية الحضارية» التى نعانى منها نحن شعوب المستعمرات السابقة، وتورطنا خانعين فى تقديس مريض للغرب الذى نصوره كقبلة العلم والحداثة والعقلانية الوحيدة، وننزع غير واعين إلى وضع علمائه ومفكريه وباحثيه فى مقام الأفذاذ وأصحاب السلطات الأكبر حتى حين تغيب الموضوعية عن كتاباتهم أو يعتريها استعلاء المستعمرين وانتقاصهم الدائم من قدر معارفنا وتراثنا وثقافتنا واجتهاداتنا للانعتاق من التأخر الذى يظل إرث الاستعمار أحد مسبباته الكبرى.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات