عشية جولة جديدة للرئيس السيسى فى محافظة الفيوم، حملت طابعا اقتصاديا كما عهدنا فى جولاته وافتتاحاته للمشروعات شمال البلاد وجنوبها، دعيت إلى برنامج حوارى يتناول أرباح وخسائر شركات القطاع العام. كان من المؤكد أن تلتفت رئاسة تحرير البرنامج إلى تصريحات الرئيس التى أطلقها خلال تلك الجولة، فى معرض تعقيبه على إخفاق الكثير من المشروعات نتيجة سوء إدارتها، وخص بالذكر ما كان منها مملوكا للدولة مستباحا من القائمين على إدارته. التطور الكبير فى شمول الخطاب الاقتصادى الرئاسى والتفاته إلى الأسباب المباشرة الكامنة خلف فشل المشروعات وعدم استدامتها على الرغم من توافر التمويل المطلوب، يدفعنى شخصيا إلى مزيد من التفاؤل بمستقبل الاقتصاد الحقيقى فى مصر.
بينما عُنى برنامج الإصلاح الاقتصادى خلال السنوات الثلاث الماضية بالإصلاح النقدى والمالى فى الأساس، فى محاولة لتحقيق نجاحات سريعة وإيقاف نزيف الخسائر لقيمة العملة المحلية، وقع الاقتصاد الحقيقى ضحية لكثير من التدابير الإصلاحية ذات الأثر المثبط للاستثمار، مثل رفع أسعار الفائدة، ورفع الدعم عن المحروقات، وتحرير أسعار الطاقة، وزيادة الإيرادات الضريبية.. إلى غير ذلك من تدابير انكماشية كانت ضرورية فى سياقها. لذا فقد كان مفهوما حرص القيادة العليا للدولة على افتتاح المشروعات الإنتاجية الجديدة كل يوم، ومطالبة البنك المركزى بدعم المشروعات المتعثرة، وتوفير أسباب إعادة تشغيلها، خلال الأشهر الماضية وبعد أن حظى برنامج الإصلاح الاقتصادى بتقدير خبراء صندوق النقد الدولى (باستثناء برنامج الطروحات العامة بالطبع وكما سبق أن أشرنا فى مقال سابق).
***
لن يشعر المواطن بثمار الإصلاح الاقتصادى إلا إذا انعكست على أحواله المعيشية: على فرص تشغيله، ومستوى دخله، وإنتاجيته، وتدفقات الاستثمار المباشر فى مشروعات الإنتاج الصناعى والزراعى والخدمى التى تساهم بشكل مباشر فى زيادة الناتج المحلى الإجمالى أى فى معدلات النمو الاقتصادى، فضلا عن مشروعات البنية الأساسية التى تحقق له سهولة الانتقال والعمل والسكن ومن ثم تساعد على حسن توزيع ثمار هذا النمو على المواطنين والمحافظات بشىء من العدالة المنشودة.
نعود إلى حديث الرئيس عن إدارة المشروعات وبصفة عامة إدارة الاستثمار والتى لن يتحقق بدونها أى إنجاز اقتصادى حقيقى مهما توافرت له الموارد المالية. يظن البعض أن إنقاذ المشروع (س) أو الشركة (ص) يكمن فى توفير قدر محدد من النقود، لكنهم لو أبحروا قليلا فى أسباب تعثر تلك الشركة لوجدوا أنها أخفقت على الرغم من توافر جميع أسباب النجاح، ومنها طاقة رخيصة، مواد خام وفيرة، تمويل مستمر وإمهال فى سداد الديون دون تكلفة تذكر لرأس المال، مشتريات حكومية مضمونة... لكنها افتقرت إلى أهم عنصرين يمتاز بهما المشروع الخاص الناجح، ألا وهما: المنافسة، والملكية الخاصة.
***
دون منافسة جادة يفقد أى مشروع بل أى كائن حى أسباب التطور وربما أسباب البقاء والاستمرار. ودون خصوصية لملكية عناصر الإنتاج (الأرض ــ رأس المال ــ العمل ــ التنظيم) يفقد المشروع ضوابط «طبيعية» لحمايته من مخاطر السرقة والنهب والفقد والإهمال والإسراف.. إلى غير ذلك من مخاطر تهدد جميع الموارد، وتستنزف الكثير من الأموال الإضافية لتدبير ضوابط «صناعية» لحماية وصيانة كل ما هو مملوك ملكية عامة. لأن الثقافة التى تستبيح تلك الملكيات تحتاج إلى وقت طويل وتعليم متزن حتى يتحول المال العام أعز وأكثر خصوصية على المواطن من ماله الخاص الذى يملكه فى خزائنه. وحيث لا يمكن الرهان على تحول ثورى سريع فى الثقافة، فإن المشروع العام إذا ما أراد المنافسة الجادة مع المشروع الخاص فإنه يدخل حلبة السباق متأخرا شوطا أو عدة أشواط نتيجة فقده لتلك الضوابط الطبيعية التى تحرس المشروع الخاص، ويضطر مدير المشروع العام إلى تعويضها بصورة مصطنعة وأكثر كلفة. لا يعنى هذا أن المشروع الخاص لا تعترضه مخاطر الفساد المختلفة، لكنه أوفر حظا من نظيره المملوك للدولة، لأن أصحابه يضعون عليه قيود وأسباب الحوكمة بما يحقق المحاسبة المستمرة، ويحول دون تعيين عمالة زائدة عن حاجة المشروع، وصرف الأموال فى غير مصارفها المنتجة، بل ويحول دون تكلس وجمود الإدارة بفعل الأيادى المرتعشة التى تجد الإصلاح سببا محتملا للمساءلة فتعزف عنه وتؤثر السلامة!.
المنافسة الجادة والحادة ليست سببا فقط فى خلق واستدامة مشروعات عملاقة مثل مايكروسوفت، وأبل، وجنرال موتورز، وإكسون موبيل.. بل كانت سببا فى خلق ميزة نسبية استثنائية لقوى عظمى لم تكن لتطور قدراتها الصناعية والتكنولوجية لولا انخراطها فى حربين عالميتين كانتا تجسيدا ــ متطرفا بالتأكيد ــ لحالة المنافسة التى أطلق عليها سباق التسلح. بل إن الإنسان لا يقر فى رحم أمه كأول سبب لخلقه وبقائه، لولا منافسة شديدة بين ملايين النِطاف التى يخرج من بينها منتصرا حائزا للسبق فى تلقيح البويضة.
من غير المنصف أيضا أن يكافح المشروع الخاص فى منافسة ضارية مع الدولة! فالمشروع الخاص جزء من الدولة له فيها ما لغيره من الحقوق وعليه ما عليهم من الالتزامات تجاهها، والدولة كما سبق أن ذكرت فى غير موضع هى مدير فاشل للأموال، ليس ذلك بخاف على أحد، بل إن فلسفة القانون 203 لسنة 1992 المنظم لقطاع الأعمال العام تقوم على تلك العقيدة التى ابتكرت عددا من أسباب فصل ملكية شركات القطاع عن إدارتها، وخلق حوافز للإدارة الناجحة للمال العام، وتوحيد جهات الرقابة عليه منعا لتعارض المصالح وتداخل الاختصاصات. لكن تطبيق القانون عبر السنين وكثير من مواءمات فرضها الواقع الاجتماعى والسياسى والأمنى انحرف عن فلسفته وبعض نصوصه، وأصبح من الحتمى إعادة النظر فى القانون لتحقيق تلك الفلسفة على نحو ما أراد الشارع فى بداية تسعينيات القرن الماضى.
الإدارة الحكيمة للاستثمارات تبدأ من دراسة جدواها الاقتصادية والاجتماعية، مع وضع فروض تلك الدراسة موضع الاهتمام والعناية بحيث تضمن الحكومة ومجموعتها الاقتصادية قدرا مناسبا من استقرارها وصمودها على الأقل خلال الفترة اللازمة لبدء المشروع وانطلاقه. من فروض الدراسة مثلا أسعار الطاقة للمشروعات الصناعية، أسعار الفائدة الدائنة، أسعار الصرف، الضريبة الجمركية على الصادرات والواردات... ثم تبحث الإدارة الحكيمة للمشروع عن بدائل التمويل المحققة لجدوى الدراسة وضوابط إدارة المخاطر التى تعترض المشروع وفى مقدمتها المخاطر السوقية والتشغيلية دون تقليل من أهمية مخاطر الائتمان. أما إذا كان المشروع الاستثمارى المطلوب هو مجرد ضخ لأموال فى ثقوب سوداء تلتهم الأخضر واليابس فى صورة رواتب ومكافآت وحوافز ومنتجات لا يحتاجها السوق المحلى ولا العالمى، ودون أدنى اعتبار للتكاليف التى تفقد أى مشروع تنافسيته اللازمة لوجوده واستمراره (كما أسلفنا)، فإن خسارة تلك الأموال ومضاعفاتها عبر الزمن هو المصير المنطقى الوحيد للمشروع، خاصة إذا تحول إلى أيقونة وطنية بفعل أصحاب الرؤى والمصالح الضيقة! وكأن مشروعا لا يفشل أبدا حتى وإن اختلفت جميع الظروف وفقد جدواه الاقتصادية بشكل ملفت.
التخصيص الأمثل للموارد هو أيضا من أهم مقومات الإدارة الناجحة للمشروعات، ولا يكون تدخل الدولة حميدا إلا فى المشروعات التى يعزف عنها القطاع الخاص، وفى مقدمتها مشروعات البنية الأساسية، وتلك الأخيرة أيضا أصبحت شديدة الجاذبية للمال الخاص فى صورة مشروعات الشراكة بين القطاعين العام والخاص Public Private Partnership PPP. هنا كانت دعوة السيد رئيس الجمهورية إلى مشاركة القطاع الخاص فى المشروعات الناجحة للقوات المسلحة، على الرغم مما لها من طابع استراتيجى فى جانب كبير منها، شديدة الاتساق مع أهداف التنمية المستدامة التى تفضل «تكامل» مشروعات الدولة مع القطاع الخاص عن «منافستها» وتفسح مجالا لاستمرار قطاع الأعمال العام أيضا محققا لذات الأهداف، معمقا لأسباب وشروط الشراكة مع المستثمر الخاص.