كَـلِمَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَـلِمَة

نشر فى : الجمعة 30 ديسمبر 2022 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 30 ديسمبر 2022 - 7:50 م
أدرت المذياعَ في طريقي إلى العمل صباحًا، فتوقف عند قناة لا أعرفها. انبعث صوتان لرجل وامرأة يقدمان برنامجًا خفيفًا، يتحاوران سويًا كأنهما يجلسان على مقهى، وينضمُّ إليهما بين الحين والآخر مُستمِع أو مُستمِعة فيُلقي بمُداخلةٍ عابرة. مرَّت دقيقتان وأنا أحاول التماسُك والصمود، ثم انهارت دفاعاتي فأغلقت المذياع واكتفيت بالدندنة.
• • •
لا ينسى من تابع البرنامجَ الإذاعيَّ "كلمتين وبس"، ذاك الإلقاءَ المُمَيَّز والحضور المُتألق للعظيم الراحِل فؤاد المهندس. كانت الكلمتان دائمًا مِن صَميم المَوضوع المُختار؛ مُختصرتان مُكثَّفتان، هدفهما واضحٌ لا خلاف عليه. يقطع الإذاعيون اليومَ أشواطًا من الكَّلام؛ يُسهِبون ويَستطردون، يطرحون الفكرةَ نفسَها ويكررونها عشرات المرَّات، فتتوه منهم بين استخفافٍ واستظرافٍ وضحكاتٍ مَمجوجة لا محلَّ لها؛ لينتهي المُستمِع إلى خواء.
• • •
الكلمة في معاجم اللغة العربية اسمٌ يدلُّ على مَوصوف، الفعل تكلَّم والفاعل هو المُتكَلِّم، وإذا قيل "أخذ كلمتين في أجنابه"؛ فقد تعرَّض للتوبيخ بسبب خطأ ارتكبه، وإذا قيل "كلمة وردُّ غطائها"؛ فإشارة إلى حديثٍ يحققُ المُرادَ باقتضابٍ واختصارٍ، ولا يدع مجالًا للتَوَدُّد والتَجَمُّل بتفاصيل زائدة، أما إذا ألقى المرءُ كلمةً في جَمعٍ من الناس؛ فكناية عن خطابٍ كامل، ولا تكون العبرة حينها بقِصَره أو طولِه، فرُبَّ فقرة مُحكمَة الصياغة، تَعدل في وقعها مئاتِ الصفحات؛ إذ الكلمةُ الواحدةُ بناءٌ قائمٌ بذاتِه، لا يُستهانُ به ما حَسُن واستقام.
• • •
كثيرًا ما تدور في الرأس تلك الكلمةُ التي نُقِلَت عن الحُسَين حينما طلب منه أن يبايع يزيد بن معاوية فأبي، فقيل له تهوينًا من أمر البَيعة: إن هي إلا كلمة، والمعنى أنها لا تُلزِمه ولا تُجبِره، فلينطقها ويكفي نفسَه شرًّا مُستطيرًا. ردَّ الحُسَين دفاعًا عن قيمةِ الكَّلمةِ ومكانتِها بخطابٍ مُهيبٍ استهلَّه بالسؤال: أتعرف ما معنى الكلمة؟ ثم استفاض في توصيف الكلمةِ كأعظم ما يكون؛ إلى أن وصلَ إلى قولةٍ ما أجدرها اليوم بالتأمُّل والتدبُّر: "بالكلمةِ تنزاح الغُمَّة.. الكَّلمةُ نورٌ دليلٌ تتبعه الأمَّة.. عيسى ما كان سوى كَلمة.. أضاء الدنيا بالكلماتِ وعلَّمها للصيادين فصاروا يَهدون العالم.. الكَّلمةُ زَلزَلت الظالم.. الكَّلمةُ حِصن الحرية.. إن الكلمةَ مسئولية". قضي الحسَين نحبَه ودامت كلمتُه حيَّةً مُتوهجة.
• • •
إذا وُصِفَ شخصٌ بأن كلمتَه واحدة؛ فالمُراد أنه لا يتراجع عن مَوقِف اتخذه، فإذا قال صَدَقَ وأوفى وكانت كلمته عهدًا مَقطوعًا، لا يستَوجِب شهودًا ولا توثيقًا. يقفز إلى الذهن في هذا السياق مشهدٌ ضاحكٌ للمُمَثل الراحل عبد الفتاح القُصري وهو يؤكد بصرامة: "أنا كلمتي ما تنزلش الأرض أبدًا"؛ وحين تزجره زوجُه يعود راضخًا: "تنزل المرة دي". المشهد من فيلم "ابن حميدو"، الذي أنتج في خمسينيات القرنِ الماضي، وقد تحوَّل الحوارُ السابقُ إلى أيقونةٍ يُعاد استخدامُها في المَواقِف الشبيهة.
• • •
خلال فترةِ الدراسةِ الجامعيةِ، شاركت في مَجلة طلابية توصف بالمعارضة وعنوانها "كلمة". كانت المَجلةُ تُكتَب وتُطبَع بالجهود الذاتية، فتُوزَّع سرًا وتتناقلها الأيدي بحِرص؛ لكنها كثيرًا ما تتعرَّض للمُصادَرة، ويُواجه القائمون عليها بعضَ المتاعب. كانت لها رغم ضآلة الحجم وضيق نطاق التوزيع؛ قيمةٌ مَوضوعِية، تؤكد وجودَ صورةٍ من صور الرَّفض والمُقاوَمة. توالت الأيامُ وإذا بالكلمة تفقد معناها على مُختلَف المُستويات، وتصبح مَمْجوجةً تافهةً، لا تستحقُّ مَجلةً ولا منبرًا.
• • •
ثمَّة كَلمةٌ على انفراد؛ لا يُحبَّذ أن يسمعَها الآخرون، وكَلمةٌ في سِرّك؛ يُرجى ألا تُفشي بها لأحد، وكلمة بائخة؛ أي قولةٍ صدرت في غير وقتِها ومَوضِعها فسبَّبت الضيقَ والحَرَج، وكلمةٌ أخيرةٌ تنهي مسألةً طال النقاشُ حولَها، وكلمةُ سِرّ تفتح لحاملها ما انغلق، وأخيرًا ثمَّة كلمةٌ عليا؛ تسود وتجُبُّ ما دونها.
• • •
حضرت ضِمن فعالياتٍ مُتعدّدة أُقيمَت للاحتفاءِ بيومِ اللغةِ العربية؛ ندوةً شارك فيها من يُعدون من أعلام الحقل اللغوي بحكم تعريفاتِهم ومناصبهم. جلس بعضُهم إلى المنصَّة، وبدأ رئيسُ الجلسةِ بكلمَةِ ترحيبٍ مُوجَّهة للحضور، تخلَّلها تكريمٌ لمسئولين قيل إنهم يخدمون اللغةَ بوسائل شتّى. تابعت الأسماءَ والحيثياتِ، فلم أستوعب السَّببَ الذي من أجله يُكَرَّم هؤلاءُ الأشخاص؛ إذ هم منتمون إلى جهات يُناط بها حمايةُ الُّلغة عبر سن القوانين والتشريعات؛ لكنهم يغضُّون أبصارَهم عن واجباتِهم ويتجاهلون أدوارَهم عدا المَظهريّ منها، بل ويتركون قانونَ حماية اللغةِ العربيةِ قابعًا في الأدراج، تمرُّ عليه الأعوامُ، فلا يجد من بينهم حاميًا ولا نصيرًا. لم تكُن الكلمةُ التي أُلقيت في محلّها، فمُسوّغات المَنحِ والمَدحِ بدت مُفتعلةً زائفة، والغرضُ أن يُعطى التقديرُ لغير مُستحقيه.
• • •
أشرفُ المَقال ما وُصِفَ بأنه كلمةُ حقّ في وجهِ سُلطانٍ جائر؛ فصاحبها لا يُذعِن لخَوفٍ ولا يصمت خشية الأذى، لا تسكته الرهبةُ ولا تُخرِس المَطامع لسانه. إن نطقَ أفصح وإن كتبَ بيَّن ووضَّح؛ ولو رأي السيفَ على مَرمى البصر، ترفعه يدُّ الجلاد. أعذارُ الصامتين غزيرةٌ ودوافع الخاضعين جمَّةٌ وفيرة، والكلمةُ قد أمسَت سلاحًا مَعطوبًا، وشاهدًا على رِدَّة أصابت الأقلامَ والأفهام، وأفضَت بالناسِ إلي ذُل وهوان.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات