بعض الأماكن لها زبائنها الذين لا يتركونها ولا يستريحون لغيرها. كازينوهات قديمة ومقاهٍ يجلس عليها البشر أنفسهم كل يوم، لا يسأمون منها ولا تسأم منهم. فى بعض الأحيان يكون لكل زبون مقعد مفضل وزاوية يسكن إليها ولا يبارحها، حتى تُعرَف به ويُعرَفُ بها، فإذا غاب عنها كان غيابه علامة على عدم وجوده فى المكان.
عادة ما يحفظ النادل طلبات كل زبون من زبائنه المستديمين، ويُحضره إليه دون أن يُكبّده مَشقة النداء والتلويح. يأتى بالطلب تلو الآخر متأكدا من دقة معلوماته التى اختزنها على مدى أشهر وربما سنين، لم ينقطع فيها زبونه عن المجىء.
تصبح العلاقة بين الزبون والنادل فى أغلب الأوقات علاقة ود وارتياح، الزبون متأكد من أن طلباته سوف تجاب على أكمل وجه، والنادل متأكد من أن الزبون لن يشاكسه أو يماطله أو يدعى متأففا رداءة الطلبات أو يرفع صوته غاضبا. يأمن الطرفان كل منهما للآخر ويستريح إلى حضوره فى المكان، ولا مانع من أن يتبادل معه كلمات قصرت أو طالت عن الأحوال العامة، وأحيانا ومع ازدياد الألفة والتعود؛ قد تصبح العائلة والأمور الخاصة موضعا للحديث والسؤال.
•••
ربما يغيب الزبون على غير عادته فيبادره النادل عند ظهوره بعبارات الترحيب والرغبة فى الاطمئنان، فإذا غاب النادل راح الزبون يتساءل عن سر الغياب وربما تعكرت جلسته وفضل الذهاب. أدى جاك نيكلسون فى فيلمه «as good as it gets» دور كاتب معروف اعتاد الجلوس فى مطعم مُحدد، فى ساعة مُحددة، يتناول فيها طعاما محددا، تقدمه له نادلة بعينها. ذات يوم غابت النادلة لظروف قهرية فانصرف دون أن يمارس طقوسه، وحين تكرر غيابها لم يكن منه إلا أن توجه إلى بيتها طالبا منها الحضور لخدمته وتقديم أطباقه المفضلة. كان دور نيكلسون فى الفيلم لشخص مصاب بعلة نفسية تدفعه إلى الالتصاق بالأشياء التى يفعلها بحذافيرها دون أن يجرؤ على تغيير أى تفصيلة بسيطة. كثيرون؛، ومنهم مشاهير مِن المُبدعين، يفضلون أن يتبعوا قواعد ثابتة وأن يتعاملوا مع الأشخاص ذاتهم، وأن يكتفوا بعلاقات أرسوها منذ زمن بعيد متجنبين أى تغيير، يعقدون صلات راسخة بالبشر والأماكن والأشياء ويحاولون الإبقاء عليها ما أمكن. لا يعانى هؤلاء من اضطراب ما، ربما هم فقط يشعرون بالأمان فى ظل التكرار الذى لا يحتاج إلى بذل مجهود جديد، وفى ظل عدم اضطرارهم إلى التعامل مع مجهول أيا كان، يكفون أنفسهم شرا محتملا.
•••
ما زالت بعض الكازينوهات القديمة تحظى بزبائنها الدائمين فى أحياء منها مصر الجديدة، ورغم انتشار سلاسل المقاهى والمطاعم العالمية هنا وهناك، وتطور الخدمة وكذلك تنوع قائمة المأكولات والمشروبات، يتمسك قدامى المستهلكين بأماكنهم فى عناد، وربما لو تركوها إلى الأحدث والأكثر رفاهة لأغلقت أبوابها وصارت خرائب، أو بيعت فورا إلى من يهدمها ويرفع مكانها فرعا لسلسلة مشهورة، تجذب زينتها وأضواؤها أضعافا من الشاربين والآكلين.
•••
لأسابيع اعتدت أن أذهب لأداء عمل كتابىّ فى مكان اخترته بعد أن اختبرت هدوءه مقارنة بأماكن أخرى؛ لا يتمكن المرء من سماع صوته فيها لفرط الصخب. انتقيت مقعدا فى أقصى زاوية، ورحت أتجه إليه كل يوم دون تفكير. بعد قليل أدركت أن ثمة مقاعد أخرى خالية، وأنها تتمتع بالمواصفات التى أريد. رحت أنتقل بين مقعد والذى يليه على مدى بضعة أيام، ثم لم ألبث أن عدت إلى مقعدى القديم. شعرت أننى أبذل جهدا باختيار آخر فقررت أن أوفر جهدى للعمل. فى فترات متناثرة من الراحة، راقبت الأشخاص الموجودين فى المكان. كانوا هم أنفسهم كل يوم، فى المقاعد نفسها، وكان النادل يأتيهم بالطلبات دون أن يسألهم إلا فيما ندر.