كاراكاز - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كاراكاز

نشر فى : السبت 31 مارس 2012 - 9:35 ص | آخر تحديث : السبت 31 مارس 2012 - 9:35 ص

يدرس طلبة الطب والفنون الجميلة نسب الجسد البشرى النموذجية؛ الأطراف إلى الجذع، حجم الرأس وطول العنق، المفاصل وأماكنها. قبل أن يصنع النحات تمثالا يقوم بتشكيل الهيكل الأساسى الذى سوف يبنى عليه عمله، يسميه الفنانون: كاراكاز.. يُعتَبَر الكاراكاز البنية الأولى التى تقبل فيما بعد كل الإضافات.

 

فى الكاراكاز المعتاد لأى شخص علامات ثابتة؛ لنا جميعا ركب ما بين الحوض والقدم، وأنوف تتوسط العينين، ومع أننا نتمتع بكثير من التفاصيل المشتركة، لكن الحركات التى نأتى بها، والأوضاع التى تتخذها أجسادنا وملامحنا، تجعل لكل منا لغة جسدية مختلفة عن الآخرين.

 

قد ينقل لنا الكاراكاز انطباعات أولية عن صاحبه، فى المأثورات الشعبية يقولون إن كل قصير ماكر، وأن السمين طيب القلب، ومن العلماء من ربط قديما شخصية الفرد ببنيته، لكن تلك المعلومات تبقى فى إطار علمى غير دقيق، على الجانب الآخر، تُعطى إيماءات الجسد والوجه بيانات أصدق عن صاحبها.

 

يرى العلماء أن التواصل الإنسانى يتم فى معظمه عن طريق لفتات لا علاقة لها باللغة المنطوقة، هناك نبرة الصوت، وشكل الخطوة أثناء السير، وضع الأكتاف، نظرة العينين، طريقة الجلوس وحركة اليدين، جميعها مفردات تنبئنا عن انفعالات وأحاسيس ومزاج الآخرين.

 

حين يظهر قائد أمام الجماهير فإن الكاريزما التلقائية التى تنبعث منه، وتكسبه القدرة على جذبهم إليه، تتأثر كثيرا بلغة جسده، بعض الحركات تترك أثرها على المستقبلين، فتجعلهم يتقبلون المتحدث أو ينصرفون عنه.

 

قد توحى الوقفة المترهلة ونبرة الصوت الضعيفة، بالتراخى، وبالعجز عن اتخاذ القرارات اللازمة. على الجانب الآخر هناك طَلَّةٌ توحى بالثقة، وبقدرة صاحبها على الفعل: وقفة يلوح فيها الظهر معتدلا، صوت هادئ واثق، حركات محسوبة دون انفعالات زائدة، أو باردة.

 

ربما لا يمكن التحكم فى الكاراكاز أو البنية التى وُلِدَ الشخص بها، لكن الإشارات الأخرى التى تصدر عن الجسد يمكن السيطرة عليها، واستخدامها فى التأثير على الآخرين.

 

 كان لكل من عبد الناصر والسادات لغة جسدية تختلف عن الآخر، وأسلوب متفرد شديد الخصوصية، وقد ترك كلاهما أيضا أثرا كبيرا فى الناس، ولا ينسى من شاهد خطاباتهما الشهيرة طريقتى الإلقاء المتميزتين، حتى أن البعض يحفظ نصوص العبارات التى أدلى بها الرئيسان السابقان، ويكررها بطريقة الأداء ذاتها.

 

 لا يختلف مِن الناس نفرٌ كثيرٌ على وصف نظرة عبد الناصر بالصارمة، وانفعالات السادات بالمبالغة، كلا الرئيسين كان قادرا على جذب مستمعيه واستبقائهم إذ ما تحدث، وكلاهما كان قادرا على التأثير والإقناع.

 

●●●

 

لغة جسد الرئيس السابق ونظراته وحركة يده الشهيرة البطيئة، التى كانت تُلَوِّحُ فى الفراغ فى سنوات حكمه الأخيرة، أوحت لمتابعيه ومشاهديه دائما بأنه منفصل عن الواقع وأنه بعيد، حتى بعد أن زالت عنه السلطة، وظهر نائما على الفراش أثناء محاكمته، ظل يعطى الناس انطباعا بأنه لا يراهم، لا يرى أحدا سواه، تصل من إيماءاته رسائل متتالية بعدم الاكتراث، والترفع عن كل ما يجرى حوله.

 

 رئيس الوزراء الموصوف بالقادم من الميدان، فشل فى إقناع الميدان نفسه، بعد أن ظهر بذاك الصوت الهادئ الخفيض ذى النبرة الرتيبة، والرأس المَحنِيّ، والنظرة الباهتة، التائهة فى أغلب الأوقات، وحركة اليد المتمهلة، ظهر بلغة جسد لم تملأ الفراغ، لغة لا تعبر عن قيادة بل اتباع.

 

ربما تكون لغة الجسد خادعة لمن لم يتدرب على فك شفرتها، ولا يعتمد الأمر على المُرسِل، فقط بل وعلى المُستَقبِل أيضا، قد ترسل إشارتك فتجد مَن يفهمها باعتبارها مزاحا، ومَن يأخذها على محمل الجد والخطورة.. لا يرتبط الأمر بالبيئة والخبرات والتجارب السابقة فقط، فالصغار مثلا لا يملكون مثل هذا المخزون، لكن لغة الجسد أوضح ما تكون لديهم، تدرك الأم مزاج طفلتها أو طفلها دون كلمات، ربما من لفتة رأس أو حركة يد، من انقباضة عضلات أو تقطيبة ملامح، تعرف مقدمات الغضب والخوف والانبساط. مِن الأطفال الصغار مَن يرتعب ويبكى حين يعلو صوت المتحادثين بجانبه، متصورا أن تلك النبرة العالية هى صيغة تهديد وأنه هو المقصود بها، بينما هناك طفل يضحك حين تزجره أمه أو تشيح بوجهها عنه، والسبب أنه يستقبل حركتها على أنها هزل ومداعبة.

 

من المدهش أنه إذا حدث تناقض بين ما يلفظه الشخص وما ينقله جسده من إيحاءات، فإن الآخرين يميلون إلى تصديق لغة الجسد، كم من مرة ضبطت نفسك متيقنا من كذب حديث ما، ليس عن معلومات تملكها، بل لأن محدثك يبدو كاذبا مراوغا؟.

 

يأتى التأثير إما عن صدق حقيقى أو عن إجادة لفنون التمثيل. لا أنسى نظرة زكى رستم التى كنت أرتعب منها طفلة ومازلت، فقد ظلت تمثل لى إنذارا بخطر وشيك، تقول نظرته إن ثمة أمرا خفيا وأن حدثا جللا قادمٌ فى الطريق، لا أنسى أيضا إيماءات يوسف وهبى المتعالية الساخرة، وخيلاء عبد الوهاب رافعا رأسه وواضعا قدما فوق أخرى، أغلب عظماء التمثيل نقلوا مفاتيح الشخصيات فى أدوارهم الفنية معتمدين على لغة الجسد قبل الحوار.

 

●●●

 

يقال إنه حين يكون الشخص فى موقف تفاوض أو فى محل تقييم من آخرين، فإن نجاحه فى المفاوضات وفى الفوز بإجماع الناس يُبنَى بشكل كبير ليس على كلماته، بل لغة جسده وإشاراته. أظن أنه لم يظهر لدينا حتى الآن مرشح رئاسى يملك كاريزما واضحة، ولا حتى لغة جسد ولسان ملائمة، لتحقيق شعبية عريضة بين الجماهير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات