ستار حديدي جديد.. عن خطاب خطير لرئيسة المفوضية الأوروبية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:49 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ستار حديدي جديد.. عن خطاب خطير لرئيسة المفوضية الأوروبية

نشر فى : الجمعة 31 مارس 2023 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 31 مارس 2023 - 8:38 م

 

الخميس الماضي وقبل زيارتها رفقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين للمشاركة في أعمال القمة الأوروبية - الصينية الرابعة والعشرين (قمة سنوية)، ألقت السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، في مقر مركز السياسة الأوروبية (مركز أبحاث مستقل يعنى بقضايا أوروبا والشئون الدولية) ببروكسل ما أسمته "خطابا تأسيسيا" بشأن الصين ومستقبل علاقات الأوروبيين معها.

 

https://www.youtube.com/watch?v=jvG02YLrCzU

بعد إشارات افتتاحية إلى ضرورة صياغة سياسة أوروبية موحدة تجاه الصين، عددت السيدة فون دير لاين في نقاط محددة ملامح هذه السياسة.

 1) استعادة التوازن الغائب عن العلاقات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية مع العملاق الآسيوي: انتقدت رئيسة المفوضية استفادة الصين من استثمارات أوروبية ضخمة دون التزامها بالمعاملة بالمثل، وكون صادراتها إلى الاتحاد تتجاوز وارداتها منه حجما وتنوعا وتكتسب من ثم بفعل الحجم والتنوع هذين مواقع تأثير بالغة الخطورة فيما خص استقرار وسريان حياة المجتمعات الأوروبية (على النحو الذي صار جليا حين تعطلت أو تراجعت صادرات الصين في بدايات جائحة كوفيد ١٩ في ٢٠٢٠)، وكون "سيطرة رأسمالية الدولة" على الحياة الاقتصادية في الصين تتسبب في غياب الشفافية والمنافسة العادلة وتضع العديد من المحاذير على الحكومات والشركات الأوروبية.

 

غير أن السيدة فون دير لاين لم تقترح لضبط اختلالات عميقة كهذه ولتحقيق التوازن المنشود سوى خفض استثمارات الأوروبيين (دون تناول لآليات وأدوات محددة)، وتقييد بعض صادراتهم التكنولوجية إلى الصين لضمان الحفاظ على شيء من التفوق المعرفي والصناعي، وإعادة التفاوض بشأن الاتفاق الاستثماري المبرم بين الطرفين في ٢٠٢٠.

 

٢) حماية الاتحاد الأوروبي، خاصة بلدانه الصغيرة، من الوقوع في فخ التبعية الاقتصادية والتجارية للصين: جاء حديث رئيسة المفوضية، والتي شغلت قبل سنوات منصب وزيرة الدفاع في ألمانيا، عنيفا لفظيا، ومتشابها إلى حد بعيد مع الأحاديث الرائجة اليوم للمسؤولين الأوروبيين عن "كارثة" الاعتماد على إمدادات الطاقة القادمة من روسيا وصعوبة التخلص من تداعياتها الاقتصادية وانعكاساتها السياسية التي تعاني منها بلدان الاتحاد وتقيد مواجهتها للحرب الروسية على أوكرانيا.

 

سيطر، على الخطاب، الخوف من "ضغوط صينية محتملة" على الاتحاد الذي تستورد بلدانه الكثير من العملاق الآسيوي. ووضعت فون دير لاين تلك "الضغوط" في سياق واحد مع ما أسمته "الابتزاز الروسي" الموظف لإمدادات الغاز الطبيعي والبترول كوسيلة للضغط على الأوروبيين بهدف التأثير على قراراتهم في السياسة الخارجية في البدايات وصولا إلى إخضاعهم للرغبات الروسية في النهايات. أشارت رئيسة المفوضية إلى خطر صادرات التكنولوجيا الصينية (شبكات ٥ج التي تمدها شركة هاواوي نموذجا)، وكذلك إلى خطر استحواذ الصين عبر شركاتها التي تتداخل بها ملكية الدولة مع الملكية الخاصة (رأسمالية الدولة) على مرافق أوروبية حيوية كالموانئ ومحطات توليد الكهرباء ومشروعات الطاقة المتجددة وخطوط السكك الحديدية والطيران (شراء الصينيين لحصص مؤثرة من أسهم شركات إدارة الموانئ في عديد المدن الساحلية الأوروبية مثالا).

 

ثم طالبت السيدة فون دير لاين، وهي وكما يشي اسم عائلتها ذات أصول أرستقراطية ومحسوبة سياسيا على اليمين المحافظ حيث تنتمي إلى الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، حكومات دول الاتحاد بعدم السماح بنشوء "تبعية مضرة" لصادرات وتكنولوجيا واستثمارات الصين على غرار تبعية ما قبل حرب أوكرانيا للطاقة القادمة من روسيا، خاصة بعد أن صار تحالف البلدين، كما شددت، حقيقة استراتيجية يصعب تجاهلها.

 

غير أن رئيسة المفوضية لم تقترح، هنا أيضا، آليات أو أدوات محددة لتقليص الاعتماد على الصين، وتركت طرحها غائما في مساحات حمائية قد تعني في المستقبل القريب توجه الاتحاد الأوروبي إما إلى فرض تعريفات جمركية مرتفعة على بعض صادرات الصين أو إلى فرض حظر على بعض منتجاتها التكنولوجية أو إلى منع استثماراتها في بعض المرافق الحيوية أو إلى خليط من كل ذلك. وقد جاء وقع مطالب رئيسة المفوضية أقرب ما يكون إلى لغة التهديدات التي اعتادت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إطلاقها باتجاه الصين من جهة، وتماثل من جهة أخرى في الرؤية والهدف مع خليط السياسات والقيود الحمائية التي تفرضها (أو تسعى إلى فرضها) الولايات المتحدة اليوم على بعض المنتجات والشركات الصينية المتعاملة في السوق الأمريكية (مساعي الكونجرس مؤخرا لحظر تطبيق تيك توك مثالا).

 

بل أن فون دير لاين، وفي اندفاعها نحو توظيف لغة عنيفة، لم تنتبه إلى التناقض الصارخ بين المطالبة بتقليص صادرات وتكنولوجيا الصين في الأسواق الأوروبية واستثماراتها في المرافق الحيوية وبين انتقادها للعملاق الآسيوي في بداية خطابها بسبب تواضع استثماراته في القارة العجوز.

• • •

٣) أوروبا كقوة عظمى في عالم متعدد الأقطاب: في خطابها بشأن الصين، أكدت رئيسة المفوضية عزم الاتحاد تثبيت دعائم دوره العالمي ومد شبكات علاقاته الاقتصادية والتجارية والسياسية والأمنية في مختلف الاتجاهات في إطار تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة لا يعني التطابق الكامل بين السياسات الأمريكية والسياسات الأوروبية إن تجاه القوتين المناوئتين الصين وروسيا أو فيما خص قضايا التجارة والأمن والسلم والتغير المناخي والطاقة المتجددة والتحول الأخضر في عموم المعمورة. وفيما خص الصين ومن أجل التدليل على التمايز بين الحليفين الغربيين، ذهبت فون دير لاين إلى أن الولايات المتحدة تعمل على "فك الارتباط" (decoupling)بين اقتصادها والاقتصاد الصيني كتوجه استراتيجي بعيد المدى يشمل المعرفة والتكنولوجيا والمنتجات والخدمات والاستثمارات، بينما يتمثل الهدف الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي في "تحجيم الخطر" (de-risking) الذي ينتج عن علاقات اقتصادية وتجارية واستثمارية ضخمة ومتشعبة مع الصين.

 

ولتحجيم الخطر في علاقة الأوروبيين بالصين، يتعين عليهم وفقا لرئيسة مفوضيتهم، أولا، رفع معدلات التنسيق الاستراتيجي والتكتيكي بين مؤسسات الاتحاد وحكومات الدول الأعضاء لكي تواجه مجتمعة سياسات "فرق تسد" الصينية التي تستهدف صناعة الفرقة واستعداء بعض الدول على البعض الآخر.

 

ثانيا، يتعين على أوروبا صياغة سياسة متكاملة "للأمن الاقتصادي" تتضمن فرض قيود على الاستثمار في قطاعات معينة في الصين ومنع نقل التكنولوجيا إليها (تحديدا المجالات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والصناعات التكنولوجية فائقة التطور كصناعة أشباه المحولات) بحيث يعطل التنامي المطرد للقدرات الصينية، وتشمل أيضا التقليص المتدرج للصادرات الصينية في الأسواق الأوروبية إن باستبدالها بصادرات بلدان أخرى (آسيوية وإفريقية) أو بالتخلي عنها كالمواد الخام التي تأتي إلى أوروبا من الصين وتستخدم في عديد الصناعات التكنولوجية والتقليدية (النحاس والنيكل والسيليكون كأمثلة) وتزول الحاجة إليها ما أن تصير الصناعة الأوروبية صناعة خضراء.

 

ثالثا، يتعين على الأوروبيين صياغة رؤية متكاملة وموحدة لموقفهم إزاء قضايا العالم المعاصر، رؤية تتماشى مع تفضيل الاتحاد للتجارة الحرة ولإحلال الأمن والسلم ورفض العنف والحروب، وتنتظم وفقا لها علاقاتهم الخارجية إن مع القوى العظمى الأخرى أو مع البلدان متوسطة أو محدودة الأهمية الاستراتيجية والسياسية. وفي هذا السياق، أكدت فون دير لاين على أن موقف الصين المتحالف مع روسيا على الرغم من حرب الأخيرة على أوكرانيا يؤثر على العلاقات بينها وبين الاتحاد الأوروبي الذي تستقر تدريجيا في أروقة حكوماته وأحزابه وفي الفضاء العام نظرة سلبية إلى العملاق الآسيوي بكونه لم يعد القوة العظمى التي تنافسه وتنافس الولايات المتحدة في التكنولوجيا والاقتصاد والتجارة وحسب، بل صار قوة تهديد وخطر وصراع مع الغرب في عالم متعدد الأقطاب.

 

• • •

لم يكن في لغة ومضامين "الخطاب التأسيسي" لرئيسة المفوضية بشأن الصين سوى الدليل الدامغ على أن أوروبا تسارع الخطى للالتحاق بالولايات المتحدة في مقاربة العملاق الآسيوي من داخل خانات حرب باردة تستدعي أمريكيا "فك الارتباط" وأوروبيا "تحجيم الخطر"، وتستهدف أمريكيا إضعاف الصين، وأوروبيا تجنب الوقوع في فخ التبعية لتكنولوجيتها وصادراتها واستثماراتها في المرافق الحيوية، وتستند أمريكيا إلى استمرار وضعية القوة العظمى المتفوقة على كل منافسيها وأوروبيا إلى الوعي بمكانة الاتحاد كقوة عظمى متحالفة مع الولايات المتحدة ومتصارعة مع الصين وروسيا في عالم متعدد الأقطاب.

 

يذكر خطاب فون دير لاين بلغته العنيفة ومضامينه الصراعية (تقييد نقل التكنولوجيا هنا وفرض سياسات حمائية هناك) ومقولاته عن الهوية الأوروبية والتحالف الغربي في مواجهة التحالف الصيني-الروسي، يذكر بخطاب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في مارس ١٩٤٦ عن الستار الحديدي الذي كان إيذانا ببداية الحرب الباردة بين القطب الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق والقطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة. فهل يكون خطاب فون دير لاين في مارس ٢٠٢٣ إيذانا ببداية حرب باردة جديدة في عالم متعدد الأقطاب؟

 

أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات