إِشبَاع - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إِشبَاع

نشر فى : الجمعة 31 مايو 2019 - 8:05 م | آخر تحديث : الجمعة 31 مايو 2019 - 8:05 م

"شَبعت"؛ الردّ المعتاد لطفلٍ، إزاء أمرٍ يُصدِره أحد الكبار للإسراع بإنهاءِ الطعام، وفي العادة لا يكون هذا الردُّ مَقبولًا. يتجادل الطرفان، وقد تنشب مَعركة؛ تُستنفَذ خلالها مُحاولاتُ الإقناع، وتنتقل إلى ألوان شَتَّى مِن القَسر والإجبار، ويطولُ الجدلُ وربما يستغرقُ ساعات. شَبعت هو الردُّ الحاسم والحدُّ الفاصل، وفي أغلب الأحيان ينتصر الطفلُ الشبعان.

***
لا يقف الشعورُ بالشبع والسعي إلى الإشباع حدَّ الأمعاء؛ فالمشاعر والعواطفُ تُعلن هي الأخرى عن حاجتِها، وإشباع الحواسّ المُرهفةِ وإدراك الجمالِ لمِن أعمق الاحتياجات. قد ننسى في غمرةِ مآسينا ما نهوى، ونُغفِله لصالح ما نتصوَّره أكثرَ جديَّةً وأهميةً، ثم إذا بالمَتروك يورثنا فراغًا موحشًا، ويخصمُ مِن رصيدنا في الحياة.

***
الشِبَع في القواميس ما ضدّ الجوعِ، والفاعل شَبْعان، وشَبْعى، وشَبْعانةٌ، والجمع شَباعى. يقول الشاعر العربيّ القديم: فبِتْنا شَباعى آمِنِينَ من الرَّدَى .. وبالأَمْنِ قِدْمًا تَطْمَئِنُّ المَضاجِعُ؛ والقصد أن المآربَ الأساسيةَ قد توفَّرت، وجَلَبَت إلى القلوبِ الأمانَ والطُمأنينةَ، ومِن ثم أتى النومُ بلا خوفٍ أو قلق. أشبع الرجلُ الثوبَ بمعنى رواه صبغًا، وأشبع الأرضَ أي أغدق عليها الماءَ، وبالمثل يُقال أشبع المرءُ نهمَه إلى المَعرفةِ إذا أفاضَ في طلبها وتحصيلها؛ بما عادل ظمأَه لها وجاوزَه.

***
يَشي الإشباع بالوفرةِ، لكن الوفرةَ تعود بعضَ الأحيانِ بالسَلبِ لا بالإيجاب؛ كثيرًا ما نُعلِن في مَللٍ أنَّا قد شبعنا مِن الكلام حول أمرٍ ما؛ أي كرهناه وسأمنا تكرارَ الحديث فيه. قد يصبح الإشباع كذلك مؤلمًا، مؤذيًا للواقع عليه؛ يُقال مثلًا: ”أشبعته ضربًا“ أي ضربته ضربًا شديدًا، و”أشبعه الناسُ سُخريةً واستهزاءً“؛ أي بالغوا في إهانته.

***
شعور الشخص بأن صورته عند الآخرين طيبة وأنه محبوب؛ يجلب لنفسه في العادة شبعًا ورضاءَ، لكن ثمَّة مَن لا يتحقَّق له الإشباع المَطلوب إلا بإثارة آهاتِ الإعجاب، وعلامات الانبهار، ولا ينفك يبحث عنها في العيون.

***
بعضُ الناس يكتفون بصورتِهم عند أنفُسهم؛ لا يهتمّون بما دونها، ولا يعبأون كيف يراهُم مُحيطُهم. النرجَسيُّون بطبعِهم عاشقون لمُفردات وجودِهم؛ ذواتهم هي المرآةُ التي يعترفون بها ويصدّقونها حصرًا، ولا يطيقون أن يمسَّها أحد أو يعبث بالهالة المرسومة حولها؛ وإلا انهار كاملُ البناء. ثمَّة آلةٌ داخلية لدى كل نرجسيّ، تعمل في تَواصُل لإنتاج مشاعر الزَهو والتباهي والولعِ بالذات، فتحقّق له الشبعَ والاكتفاء، بغضِّ النظر عن اعتراف الآخرين بأهميته وعظمَته.

***
لم أُصدّق في صِغَري ولا أزال؛ المَوروث القديم الذي يصِم مَن شبع بعد جوع بالشُحّ والتقتير، بل وينأى به عن كَرَم العَطاء وتقديم الخير. التعميمُ في العادة مُجحِف، والإجحافُ في حقّ ملايين؛ وربما مليارات البشر الذين يعانون غياب العدالةِ في أنحاءِ الأرض. وَصمٌ يُجافي المنَطِق، حكمٌ مُسبَق ومُطلق؛ تخاصمه مَبادئُ المساواة في الفُرَص بين الناس، ويعوزه حقُّ الاختيار وتحديد الطريق.

***
استيفاءُ الاحتياجاتِ الأساسيّة وإشباعها؛ غريزةٌ قد لا تلتزم بقيود. الجائع سوف يأكلُ ولو اضطُرَّ لكسر القانون، والمُهدَّد سوف يسعى لتأمين نفسِه وحياتِه مهمًا كانت الكُلفة؛ يقول الناسُ في المأثور الشعبيّ الأصيل: ”يا روح ما بعدك روح“، وأظنّ مَن عاش الضيمَ واختبر بؤسًا كهذا، لا يحب أن يراه غيره، ولا أن يعانيه مَخلوق.

***
الفرحةُ تُشبِع وكثيرًا ما تُغني عن رغبةِ التهامِ الطعام. السعيد ينشغل بسعادتِه عن الجوع، وربما عن كلّ ما يؤرقه، أما التعيس فلا بد له مِن مَصدرِ إلهاءٍ؛ وما أفضلَ مِن تناوُل الطعامِ إلهاءً إذا كان في الإمكان، وإذا باتت في مُتناوَل اليدّ وفرةٌ مِما لَذَّ وطاب. بعضُ الناسِ لا يُقعدهم عن الولائم حزنٌ أو ضيق، ولا تثنيهم فرحةٌ عن ملئ الأفواه؛ يأسون فيبثّون همومَهم في الصحون، ويدفنون أوجاعَهم على الموائدِ، ثم يطربون فرحًا؛ فإذا بهم يحتفلون بمزيدٍ مِن الطعام.

***
اكتسبت الدهونُ المُشبعة سُمعةً خَبيثة؛ فكثيرها يكاد يكون قاتلًا، وقليلُها أيضًا ضار، مع ذلك لا تنفكُّ الأطعمةُ التي تحويها تجذب أغلبَ الناس، ولا يهتم الآكلون لما تصنع في أجسادِهم، فالمذاقُ مُشبِع مُثير، والإشباع إحساسٌ لحظيٌّ بالاكتمال.

***
تقع بلدة شبعا على الحدود السورية اللبنانية، ويُعتَقَد أنّ اسمَها مُستمَد مِن مُفردة قديمةٌ، تعكِس في أحدِ مَعانيها الشّبعَ وكثرةَ إنتاجِ الغلال. مزارع شبعا مَنطقة مُتنازع عليها؛ تمتدُّ ما بين أرض لبنان وهضبةِ الجولان، وقد أصبحت بحلول عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين مَنطقةً مُحتلةً مِن قِبل الكيان الصهيونيّ، ولاحقًا نفَّذت فيها المُقاومةُ عملياتٍ ناجحةٍ ضدَّ قواتِ الاحتلال.
***

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات