هناك معارك لو يعرف أصحابها مآلها فى النهاية لما انشغلوا بها، وجمعوا حولهم المنافقين، وخاضوا مواجهات مؤلمة مع الخصوم. مشروع توريث جمال مبارك انتهى بجرة قلم وضعته فى السجن، هو ومن كان يسانده، ومشروع «أخونة الدولة» الذى أحزن بسببه الإخوان المسلمون الأقارب السلفيين، وأشعلوا غضب الخصوم السياسيين ينتهى كذلك بجرة قلم. فى ذلك درس وعبرة. الوزراء الجدد يراجعون الملفات، والخطوط الحمراء توضع تحت الأسماء التى زرعت قسرا فى الجسم الإدارى، ومسألة الإحلال والتبديل لا تحتاج سوى إلى توقيع يُذيل قرارا بإلغاء انتداب، أو نقل لجهة أخرى، الخ. الدولة ليست غنيمة حرب أو محل نزاع على ملكية. الذين فُرضوا على المؤسسات العامة غادروها فى صمت، أو امتنعوا عن الذهاب لأماكن عملهم. ونتذكر أن البعض منهم واجه أثناء تسلمه العمل احتجاجا عارما، ولم يستطع البقاء أو ممارسة عمله بشكل طبيعى رغم أنه كان يرتكن إلى تأييد نظام، حتى لو كان مائلا. اللحى المنافقة التى ظهرت فجأة بكثافة فى المؤسسات الحكومية تلاشت، وأولئك الذين اعتمد عليهم الإخوان المسلمون فى شغل المواقع القيادية فى الأماكن التى لا يوجد أحد من «الأهل والعشيرة» جاهز لتسلمها مثل المؤسسات الصحفية القومية غيروا توجهاتهم، وبعضهم يصرخ لسنا إخوانيا، ويقود معركته الأخيرة للبقاء. نسوا ما فعلوه، وكتبوه، ولكن الذاكرة البيروقراطية يقظة، وفى كل مؤسسة روايات وحكايات.
الدروس فيما يحدث كثيرة أبرزها أن جهاز الدولة لا يستطيع أحد الاستيلاء عليه أو تطويعه. وإلا لما تراجعت الناصرية عندما قاومها السادات، ولم يجد مبارك من يدافع عنه، ولم تدر البيروقراطية ظهرها للإخوان بعد أن تماشت معها مؤقتا. جهاز الدولة له «ذاتية»، تصورات ومصالح، يدافع عنها، وتقاليد توارثها يسير عليها، ويقف فى وجه من يسعى لتهديدها. لم يفهم الإخوان المسلمون طبيعة هذا الجهاز، وسعوا إلى إنشاء كيان مواز له. قال ذلك «جهاد حداد» فى ندوة عُقدت فى البرلمان الأوروبى فى مطلع مايو الماضى، مما أثار الاستغراب والدهشة، كيف يعادى الإخوان المسلمون جهازا إداريا قوامه سبعة ملايين شخص، ويسعون إلى إنشاء كيان مواز له من الإخوان والموالين.
هاجس التمكين شغل الإخوان، فأتوا بالموالين والمحاسيب، محدودى القدرات والكفاءات، فى المواقع القيادية لإثبات الوجود، والهيمنة والسيطرة، وفاتهم أن قابليتهم للحكم محدودة، والشرعية ليست أشخاصا يملأون فراغات إدارية، أو يقبضون على موارد المؤسسات العامة، لكن الحكم رؤية وكفاءة، إمكانيات وقدرات، وتقبل ورضاء الناس. الإمساك بالرزمانة أو الدفاتر ليس كافيا لتقرير حقوق لا يرضاها المتعاملون، والمقيمون فى «رابعة العدوية» الباحثون عن «الشرعية» يغفلون حقيقة أساسية أن الشرعية هى رضاء الناس، وليست فقط قرارات توقع، أو إطار دستورى غير متفق عليه، وإلا لما سقطت أنظمة كانت لديها الهيمنة القانونية والإدارية على مقدرات الدولة.
الدرس الذى تمخضت عنه معركة أخونة الدولة قاس، مرده أن المعركة التى عادى الإخوان بسببها الخصوم والأصدقاء على مدى شهور يمكن أن تنتهى فى أيام. المواطن تفتحت مداركه، ولم يعد يرضخ لحكم القبيلة السياسية التى تحرمه من تولى موقع هو أهل له. انتهى عصر الهبوط بالبارشوت باسم الولاء أو الدين أوحتى محاربة الإخوان!