نظم أحد فنادق مصر القريبة من البحر أخيرا أسبوعا أسماه «أسبوع النوستالجيا» دعى إليه عائلات كانت تمضى إجازاتها الصيفية فيه منذ عقود وتوقفت عن ذلك فى السنوات الأخيرة. يبدو أن الفندق نجح فى محاولته هذه أن يعيد إلى شاطئه ومطعمه بعضا من أجواء يشتاق إليها كثيرون من رواده، فقد روت لى صديقة كانت ضمن زائرين الفندق أنها شعرت أنها فى صور قديمة لمصر، ومازحتها أنا قائلة إن لا شك أنها سمعت فى الخلفية أغنية عبدالحليم حافظ «دقوا الشماسى» التى ترافق أجواء مصر الصيفية كل سنة ابتداء من شهر يونيو.
***
لا أبالغ حين أقول أن عبدالحليم وأجواء المصيف كما كانت تظهر فى الأفلام المصرية، وما يرافقها من صور حقيقية أو متخيلة عن الصيف وأيامه وسهراته واللبس الخاص به، رسختها أفلام وروايات كانت تعبر الحدود إلى سوريا ولبنان وبلاد أخرى، حتى أصبح يتهيأ لمن لا يذهبون إلى المصيف المصرى أنهم أيضا من رواد منطقة «العجمى» الشهيرة.
***
أمضيت أخيرا بعض الوقت مع أسرتى فى مصيف قرب البحر، وكانت هذه المرة الأولى التى أقضى فيها عدة أيام فى مكان لا تتوفر فيه نشاطات كالتى تكون فى المدن الكبيرة، سواء اجتماعية أو ثقافية، مما أجبرنى على تأمل ما حولى بشكل أكثر إمعانا، فلم يكن هناك الكثير لأعمله فى تلك البلدة المترامية على البحر الأبيض المتوسط سوا هوايتى المفضلة: مراقبة الناس، بعد أن وجدت نفسى فى الأوقات الأولى، أى أول يومين أبحث عن أى مهمة أستطيع القيام بها، كنت أحاول أن أنظم يومى ويوم عائلتى حسب مخطط أو برنامج رغم اعتراض العائلة وتذكيرهم لى أن لا نظام فى الإجازات. مع مضى الوقت، وتفاديا للضجر الذى يتسرب إلى دوما فى غياب المهام؛ حيث إننى لست من هواة الاسترخاء عموما، قررت أن مهمتى الأساسية هى محاولة سرد قصص فى خيالى عن من هم حولى ولا أعرفهم، لن أتحدث معهم إنما سوف أحكى قصة كل منهم وفق ما أتخيله.
***
هناك رجل وسيدة فى العقد السادس من عمرهما يقضيان أول إجازة لهما بعيدا عن أولادهما الثلاثة، فيعيدان اكتشاف العلاقة التى تجمعهما بعيدا عن مسئوليات الزواج والعائلة. أراقب محاولاتهما فتح مواضيع متعددة أثناء تناولهما لوجبة الإفطار صباحا. فى الأيام الأولى، وبغض النظر عن الموضوع، يعود الحديث للتركيز على أحد الأبناء، وكأن مركز علاقة الزوجين هو أولادهما. أراقب السيدة، جميلة فى شعرها القصير حول وجهها، أنيقة فى فساتين ملونة تغيرها كل مساء للعشاء مع زوجها، تصغر كل يوم بضع سنوات حتى أراها فى آخر الأسبوع كما كانت فى أول مراحل زواجها من الرجل، الذى يبدو أيضا اليوم، فى آخر يوم لى معهما، أنه بات أشبه بممثلين رأيتهم فى أفلام قديمة، يرتدى سترة صيفية ويضحك بينما ينفث دخان سيجارة وهو يرد على زوجته الجميلة.
***
هناك سيدة سبعينية تقضى معظم النهار تحت الشمسية تقرأ كتبا باللغة الفرنسية، تلتهم كتابا كل يوم ثم تجلس وحدها أمام البحر وقت المغرب تتأمل الأفق. أظن أن باستطاعتها أن تفهم لغة طيور النورس، فهى تهز رأسها وتحرك شفتيها فينصتون إليها. بعد طقسها المسائى، أرى السيدة تأكل عشاءها بتأنى، تجلس على الطاولة نفسها كل مساء، ربما حجزتها سلفتا لفترة إقامتها فى الفندق.
***
هناك أيضا بين النزلاء عائلة أراها كل صباح تفطر فى المطعم، ثم أرى أطفالها الثلاثة يلعبون على الشاطئ. أتخيل أن الأب والأم هما نفس الزوجين الذين وصفتهما سابقا، بعد أن رحل أبناءهما عن البيت. أنا إذا هنا أمام العائلة الشابة والعائلة ذاتها بعد عشرين أو ثلاثين عاما. أنا أمام صندوق الدنيا خاصتى، فى يدى جهاز تحكم بالتلفزيون الحى الذى أراقبه. أقرب الصورة من وجه الأم فأرى عينيها العسليتين وهى فى العشرين ثم فى الستين. أكبر زاوية الرؤية فتختفى التجاعيد من وجه الأب فى الصورتين. هو الرجل الشاب والرجل الآخر أيضا. بين العائلتين حياة كاملة أمضاها الزوجان فى متابعة تفاصيل يومية صغيرة وأحداث كبير أثرت على العائلة.
***
أين الأولاد، الطفلة شابة اليوم تعمل كباحثة فى مختبر طبى متقدم، تلبس معطفا أبيض وتمضى النهار أمام جهاز مكبر تراقب من خلاله تطور خلايا حية. الطفل شاب أنجب زوجته من أسابيع طفلهما الأول، وقرر والداه أن يبعدا قليلا عن زحمة ما بعد الولادة فها هما هنا فى المصيف بينما تنشغل عائلة الزوجة الشابة بتفاصيل المولودة الحفيدة الجديدة.
***
السيدة السبعينية هى إذا الزوجة أيضا، بعد رحيل الرجل، أى بعد نحو خمسة عشر عاما. ها هى هنا فى المصيف ذاته، وسوف يلحق بها أطفالها وأحفادها، صار عددهم أربعة إذ أنجبت ابنتها طفلا منذ سنتين. السيدة فعلا تتحدث مع الأفق، حيث روح زوجها، تنقل له آخر الأخبار، تهمس تعويذة تحمى بها عائلتها، ترسل قبلة إلى زوجها حيث هو، وتقول له إنها أمضت أسبوعا اسمه «نوستالجيا» فى الفندق الذى لطالما أمضيا فيه جزءا من الصيف فى أول حياتهما معا. وتقول له أيضا إن ثمة سيدة تراقبها كل يوم من بعيد، سيدة تشبهها كثيرا، بأطفالها الثلاثة وشعرها البنى أيضا.