لا أريد تكرار ما ذكرته عدة مرات من أن البحث الاجتماعى فى مجتمعنا فقير، وأدى فقره إلى إضعاف القدرة على وضع سياسات، وهندسة البدائل، وتبنى الحلول أو حتى فهم ما يحدث. فى ظاهرة التطرف، التى هى بنت المجتمع، لا توجد لدينا الدراسات التشريحية التى تتجاوز «السرديات» التى تتردد، فى حين أن المجتمع الأكاديمى الغربى النشط بطبعه، وضع مئات الدراسات، التى يعود إليها الباحثون لدينا، ويصبح أكثرهم براعة هو من يجيد الترجمة، وتوظيف المادة المترجمة. قد يكون هذا حالنا فى كثير من الدراسات الاجتماعية، ولكن فى ظاهرة التطرف، التى ينبغى أن نمتلك نحن مفاتيحها يصبح الاعتماد على الخارج فيها شيئا مخجلا.
منذ أيام قرأت تقريرا ممتعا وضعه مركز «التحذير الدولى» فى لندن حول أسباب انخراط الشباب السورى فى التطرف، بناء على دراسة ميدانية شملت عينة بحثية، وشهادات من شباب، واستطلاع رأى المجتمعات المحلية التى وقعت تحت براثن الإرهاب.
دوافع الشباب للانضمام لجماعات التطرف متعددة. منها الرغبة فى الحصول على دخل، بعد تحطم الاقتصاد، وارتفاع معدلات البطالة فى بعض المناطق إلى 90%، حيث لجأ الشباب إلى العمل ــ بمعنى من المعانى ــ فى صفوف الميليشيات، والتنقل أحيانا بينها. تدفع جبهة النصرة للشاب ما بين ثلاثمائة وأربعمائة دولار شهريا، بينما يدفع الجيش السورى الحر نحو مائة دولار فقط. ونظرا لأن أحوال اللاجئين فى دول الجوار ليست على ما يرام، فإن هناك من الشباب من فضل البقاء، والتحايل على الوضع الجديد حتى يعيش، ومن ذلك حمل السلاح.
ومن بين الأسباب ــ التى لم تكن الايديولوجيا حاضرة فيها ــ الشعور بالرغبة فى الانتقام لمقتل أحد أفراد الأسرة، وتحطم شبكات الأمان الاجتماعى التى كانت فى المجتمع، وانهيار المعنى والرمز. وأشارت الدراسة إلى أن «داعش» لم تتمتع بدعم أو شرعية فى المناطق التى سيطرت عليها، ولكن انخراط بعض الشباب فى صفوفها جاء نتيجة غياب البديل بالمعنى الاجتماعى والاقتصادى، وهو ما يلفت الانتباه إلى أزمة النظام السياسى. وعلى الصعيد الاجتماعى، لم يجد الشاب فرصة للتعلم، اكتساب الخبرات، والحراك الاجتماعى. فقد قوضت التنظيمات المسلحة مثل «داعش» فرص التنمية البشرية، مما انعكس سلبا على الواقع الاقتصادى حيث ألغت الكثير من جوانب النظام التعليمى، واعاقت المنظمات المدنية عن الحركة، وفرضت قيودا اجتماعية قاسية حرمت المجتمعات من ايجاد الشبكات الاجتماعية التى تسمح بالحراك، وإيجاد الفرص الاقتصادية.
فى التقرير معلومات مكثفة، لكنه ينتهى إلى الحديث عن عوامل المقاومة التى ينبغى أن تتوفر فى المجتمعات مثل ايجاد فرص اقتصادية، تعليم جيد، مجتمع مدنى يوفر مسارات العمل والمشاركة، جذب الشباب فى أنشطة عامة ذات طبيعة تنموية، وثقافية، وتسوية للمشكلات بأسلوب الحوار لا العنف.
لا أريد الاستفاضة فى تناول التقرير، اكتفى برءوس أقلام، فقط أريد القول إننا نحتاج إلى التخلص من ترسانة الأحاديث العامة الفضفاضة التى تطلق فى كل مناسبة، نريد دراسات اجتماعية جادة.