ضَحِكَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضَحِكَة

نشر فى : الجمعة 31 ديسمبر 2021 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 31 ديسمبر 2021 - 10:15 م

 

ضحكةٌ مكتومة انطلقت من فمِ امرأةٍ في منتصَف العمر، فأفرزت مثلَها على يمينها ويسارها، وسَرت العدوى كأنها أصابع الدومينو ما إن يسقط أحدها حتى يليه الآخر. ظهر الاستنكار على بعضِ الوجوه وتلاه استياءٌ عميقٌ، وكادت مشاجرة أن تنشب. ليس في الضَحكِ على العمومِ ما يُشين، إلا أن هذا تحديدًا جاء في سُرادقِ عزاءٍ، والناسُ مُتدثّرين بالسوادِ، وفيهم مَن استغرقه البكاءُ على الراحل.
***
حفظنا صغارًا أن الضحكَ بلا سبب قلةُ أدب؛ إذ عادة ما يُؤخَذ على مَحمَلٍ مُهين ويُفسَّر في إطارِ اللا مُبالاة وغياب الاحترام، والحق أن التأملَ في القول المأثور عن قُرب قد يُزعزِع ثباتَه، ففي مُعظم الأحيان إن لم يكن كلّها، ثمَّة سببٌ؛ لكنه خافٍ على الحاضرين، وإذا غابت المعرفةُ فتحت بابَ الشكّ، ودفعت إلى النفسِ بالظنون.
***
على كل حال، الضحكُ أنواعٌ لا نهاية لها؛ هناك ضحكةٌ صافيةٌ بلا شوائب، وأخرى ماكرةٌ مُنطوية على مَكيدةٍ تُحاك أو شركٍ يُدبَّر في الخفاءِ، وساخرةٌ قوامُها استهزاءٌ واستخفاف، ومَريرةٌ تحمل في طياتِها وجعًا أكيدًا، وقاسيةٌ يتبدَّى فيها عمقُ المُفارقة؛ إذ غالبُ الضحكِ دليلٌ على رقَّة الحاشيةِ، والاستثناء أن يكون مرآةً تعكس الغلظةَ وعنفَ المشاعر، أما الضحكة المفتعلة؛ فأداة يضعها الواحد على شفتيه وفي أحباله الصوتية وفمه، ليؤدي بها وظيفة.
***
إذ وُصفِت ضحكةٌ بأنها رقيعةٌ، كان المراد ذمَّ صاحبها أو صاحبتها؛ فالرقيع هو السمج الأحمق، وإذا وُصِفَت بأنها خليعةٌ ماجنةٌ فإشارة للفساد والتهتك وقلة الحياء. للضحكة أيضًا ألوان؛ فإذا جاءت صفراءَ كشفت ما أُضمِر من سوءِ نية، وإذا جاءت سوداءَ نمَّت عن شرٍّ عميق الجذور مُتمكِّن.
***
بين الضحكةِ والابتسامةِ مسافاتُ حركةٍ وصَوْت؛ تتضمنهما الأولى وتخلو منهما الثانيةُ، ولا عجب في تأكيد الأطباءِ أن الضحكَ مثلُه مثل مُزاولةِ الرياضةِ بانتظام؛ يقوي القلبَ ويحميه ويُمَتعه بالصحةِ أطولَ مدة مُمكِنة، والمعلومُ أن الضحكَ جَهدٌ تبذله أيضًا عضلاتُ الوجه والصدر، وفي هذا له مِن الفوائد الكثير، ولا بد أن حالَ الضاحكِ عاملٌ مهمٌ من عوامل التأثير؛ فضحكةٌ بريئةٌ مِن القلب لها مردود إيجابيّ على مُطلِقها، بينما ضحكةٌ خبيثةٌ تأتي بالنقيض، وإذا قيل قد ضَحَكَت لفلان الأيام؛ فالمعنى أنها طابت واستجابت؛ بدَّدت مصاعبَه، وخفَّفت ألمَه، ونفحته مِن عطاياها.
***
إذا رُويَ أن فلانًا ضحكَ على ذقن عِلان؛ فالمعنى أنه خدعه مِن وسع وغشَّه، وربما استغلَّ طيبتَه وسذاجتَه، لكن استدراكًا يأتي ليُخفف من وَقع الخديعةِ؛ فمَن يضحكُ أخيرًا يضحكُ كثيرًا، والقصد أن العبرةَ بالخواتيم لا بالبداياتِ، وأن حُسنَ التدبير يقود إلى الغلَبةِ في النهاية، وإذا تناقل الناسُ عن شخصٍ أنه صار مَضحَكَةً؛ فإشارة لتكرارِ الضحكِ عليه وليس معه، والشاهد أنه تحوَّل إلى مَوْضِع استهانةٍ دائمةٍ مِن الآخرين، يتوقعون منه ما يثير شهيتَهم لمناوشته، ويتأهبون ما طلَّ عليهم لنوبةٍ من الهزلِ والتهريج.
***
تقوم العروض المسرحية في قسمها الأعظم على الكوميديا، وعادة ما يُستخدَم تعبير "الضحك للركب" للإعلان والتسويق، والهدفُ أن يُدللَ على مِقدار الضحكِ الهائل الذي يُوعَد به الجُمهور؛ فيجتذبه إلى المقاعد.
***
عرفنا منذ سني الطفولة صورةَ البقرةِ الأشهر؛ علامة تجارية لنوعٍ من الجبنِ سادَ في وقته، ثم توارت شُهرتُه لفترة في ظلّ منافسةٍ مُتصاعِدة، ولم يلبث أن عادَ إلى بؤرة الضوءِ؛ فإذا الضحكةُ المألوفةُ تطُلُّ مِن الإعلاناتِ واللافتاتِ، ومعها شعار جديد قديم: ضحكتك بالدنيا. لا أهتم كثيرًا للأجبانِ لكني أحبَبت استخدامَ الشِعار؛ فالضحكةُ تساوي الكثيرَ وغيابُها دليلُ اعتلال.
***
قد يضحك المرءُ إلى أن تدمع عيناه، فيكون قد وصل بدمعِه إلى درجةٍ عاليةٍ من الإشباع، والفعلُ هنا مُنزَّه عن كلّ غرض؛ فالضحكةُ تأتي تلقائيًا وبلا ترتيب، لا تُستجلَبُ غصبًا، ولا تُحمَّل بتعقيداتِ الحياة أو تُبَثُّ رسائلُ في غير مَوضعها.
***
وأخيرًا؛ ثمَّة ضحكٌ كالبكاء، أثره أشدُّ وطأةً من النحيبِ والعويل، يُوَلِّده بؤسُ الحال وضِعتُها، وفيه القول الصادق: شرُّ البليةِ ما يُضحك. كثرت البلايا وكثرت معها الضحكات، فلا عنت فرحًا ولا وشت برضاءٍ، إنما أبرزت عجزًا لا يجد له بعض الأحيان سوى الضحكةِ مخرجًا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات