لم تتم ممارسة الطناش بشكل أحقر ولا أخطر من الذي تمت ممارسته به في ملف الأموال المنهوبة لإصابة الشعب بحالة من اللخفنة تجعله لا يعرف له رأسا من قدمين، فيتحول من حالة الحلم بعودة المليارات المنهوبة ليتم تقسيمها بالعدل والقسطاس على كافة الناس، إلى حالة الرضا بالفتات الذي يرميه المتصالحون من رموز النظام المباركي البائد مع المصالحين من رموز النظام الإخواني البائخ.
لو كانت جماعة الإخوان جادة حقا في الإصلاح والتطهير وتحقيق أهداف الثورة، لكان أول ملف تنشط فيه منذ توليها الحكم هو ملف الأموال المصرية المنهوبة، والذي لا يبدأ في رأيي بإستردادها، بل يبدأ أولا بالبحث عنها أصلا وتحديد مواقعها ومصادرها وإستجلاء الكاذب من الصادق في كل ما نشر حولها منذ قيام الثورة، وإعلان خارطة طريق واضحة يعرف بها الشعب رأس أمواله المنهوبة من رجليها، خاصة أن واحدا من أبرز الذين عملوا على ملف إسترداد الأموال المنهوبة هو واحد من أهم حلفاء الإخوان، الدكتور محمد محسوب الذي رأس بعد الثورة لجنة شعبية متخصصة في ملف إسترداد الأموال المنهوبة، ولذلك استبشر كثيرون بتعيينه وزيرا للشئون القانونية وظنوا أن هذا هو هدف توليته لهذا المنصب، لكنه بقي في المنصب ورحل عنه وهو محسوب علينا وزيرا، فلم نعرف ماالذي كان يفعله خلال توليه للمنصب سوى دفاعه عن سياسات الإخوان الفاشلة، ولم نعرف لماذا رحل فعلا عن المنصب، ولا ماذا قدم لملف إسترداد الأموال المنهوبة، فهو حتى الآن لم يقدم لنا سوى «تويتات» بائسة تدافع عن الإخوان، وكان أولى به أن يقول للشعب المصري شهادته على ما قام به الإخوان منذ تولوا الحكم في هذا الملف، لكنه لم يفعل، على الأقل حتى الآن.
الإخوان بدورهم لم يقولوا كلاما رسميا عليه القيمة في ملف الأموال المنهوبة، اللهم إلا ما قاله عصام العريان قبل أشهر في فيديو بدائي التصوير تم تسجيله له وهو يقف في الشارع بعد خروجه من دار مناسبات، وتحدث عن دور دولة الإمارات في إخفاء الأموال المصرية المنهوبة، وكان واضحا من طريقة التصوير أنه يعرف أن كلامه يتعرض للتصوير، ولذلك ظن البعض أن كلامه بداية لحملة إستبياع إخوانية ضد الإمارات بعد أن رفضت حكومتها الإفراج عن أعضاء الإخوان الذين تم إعتقالهم في دبي، لكنه سكت بعدها ولم يكرر الكلام في محفل رسمي، ليعود الإخوان لسياسة الطناش في ملف إسترداد الأموال المنهوبة، ثم أخيرا ومنذ أسبوعين أدلى عصام العريان بتصريحات علنية قال فيها أن سبعين في المائة من الأموال المصرية المنهوبة على يد مبارك ورجاله موجودة في بنك أبو ظبي الوطني، وبرغم أن هذا التصريح هو أخطر ما قيل من وجهة نظري حتى الآن حول ملف الأموال المنهوبة، لأنه يسمي بنكا بعينه ويتهمه بتخبئة الأموال المنهوبة، دون أن يبالي بالعواقب القانونية لذلك، إلا أن التصريح لم يلق الإهتمام الإعلامي الذي يليق به، ولم يفكر أحد في أن يقوم بتقديم بلاغ إلى النائب العام يطالبه بالتحقيق في تصريحات عصام العريان ليسأله من أين حصل على معلوماته الخطيرة هذه، ويطلب منه تقديم ما يثبتها، لكي تبدأ الدولة المصرية في إتخاذ كافة الإجراءات القانونية الممكنة لإسترداد أموال المصريين، أو حتى لكي يعرف الشعب المصري الحقيقة بشأنها وينفي عن حكامه شبهة التقصير في إستردادها، لم يحدث شيئ من هذا، ربما لأن الكثيرين أصبحوا يتعاملون مع عصام العريان بوصفه مسئول التصريحات المنفلتة في الإخوان، كأن لديه «شهادة معاملة إندفاع» وبالتالي فمن حقه أن يقول ما شاء في أي وقت يشاء دون أن يسأله أحد عن مصادر معلوماته ولا يحاسبه على أثرها.
نفس حالة الطناش قوبلت بها تصريحات شديدة الخطورة في ملف الأموال المنهوبة أدلى بها المحامي فريد الديب أخيرا في حوار لصحيفة (المصري اليوم) قال فيها بالنص أنه ذهب بعد الثورة إلى عاصم الجوهري مساعد وزير العدل لإدارة الكسب غير المشروع وقال له أن علاء وجمال مبارك نجلي المخلوع يمكن أن يتنازلا عن أموالهما في الخارج، وهي تعادل مليارين ونصف المليار جنيه مصري حصلا عليها من أعمالهما في البيزنس، فرد عليه الجوهري قائلا «لا، تكتب لي هذا التنازل مقابل إيه؟»، وهنا سأله زميلنا عادل الدرجلي سؤالا بديهيا «لماذا يتنازلون عن هذه المبالغ إذا كانت مشروعة؟»، رد الديب متحديا «الآن لن أتنازل، لأن الجوهري قدم بلاغا ضد جمال وعلاء في سويسرا، وقام بصرف مبلغ 65 مليون يورو على هذه القضية من خلال المحامين، فقام السويسريون بالتحفظ على الأموال، وبدأ البحث والتحقيق، وانتهوا إلى أنه لا توجد شبهة غسل أموال، وبدأوا في البحث عن الجريمة المنظمة، وقالوا إن هناك جريمة منظمة وجاءوا فيها بأسماء كبيرة جدا، وللعلم مصر قدمت طلبا للاطلاع على هذه التحريات، فعرض الأمر على المحكمة العليا الاتحادية، التي رفضت الطلب، وقالت «إنتوا همج، ولن نطلعكم على شيء»، فإن الجوهري أطلق علينا عياراً أصابه قبل أن يصيبنا». ثم قال الديب أن علاء وجمال غير الأموال التي يملكانها في الخارج، يملكان 150 مليون جنيه في البنوك المصرية وهي ما يتم سداد الأموال للتصالح في القضايا منها، وعندما سأله محرر المصري اليوم «هل يمكن أن تعود أموال جمال وعلاء الموجودة في الخارج؟»، أجابه فريد الديب متحديا «لا لن تعود».
هكذا يكشف الديب في تصريحاته مدى البجاحة والوقاحة التي يتعامل بها نجلا مبارك مع البلد الذي قاما مع أبيهما وشركائهم بمص دمائه على مدى ثلاثة عقود كاملة، بدأ بهما الأمر بعد قيام الثورة وهما مستعدين للتضحية بمبلغ ضخم من أجل الخروج من السجن، ويعلم الله كم يشكل هذا المبلغ من الحجم الكامل لثروتهما، لكنهما وبعد أن أدركا عشوائية إدارة ملف الأموال المنهوبة من قبل الرجل الذي اختاره المجلس العسكري لأداء هذه المهمة الصعبة، قررا البلطجة والإحتفاظ بهذه الأموال وإعلان ذلك في تحدٍ سافر، كأنهما كسبا هذه الأموال بكدهما وعرقهما، ولم يقوما بكسبها بإستغلال نفوذ والدهما السياسي والرزالة على خلق الله بمشاركتهم في أرباحهم لكي لا ينقطع أكل عيشهم في مصر، فماذا فعل الإخوان لمقاومة ذلك منذ تولوا الحكم؟، وإذا كانوا قد صدعونا بإمتلاكهم قدرا كبيرا من الكفاءات الإقتصادية والقانونية والمحاسبية يكفي لأستاذية العالم، فلماذا لم يشكلوا فريقا من هؤلاء يقوم بتقييم ما تم في ملف إسترداد الأموال المنهوبة تحت إدارة المستشار عاصم الجوهري، إما لكي يدينوا الرجل ومساعديه ويحاسبوهم، أو لكي يبرئوهم مما نسبه إليهم فريد الديب، وهي خطوة لو تمت يمكن بعدها أن نلوم من يظن أن هناك تواطئا لتغييب الأموال المصرية المنهوبة يشترك فيه الإخوان أنفسهم، وهو ظن بعضه إثم، لكن إزالته لن تكون إلا بأن يرى الناس جدية من الإخوان في مخاصمة الطناش وإيضاح الحقيقة للناس.
لا أدري إذا كنت قد تابعت ما ينشر الآن حول العروض التي يقدمها رجل الأعمال الهارب حسين سالم إلى النيابة العامة لتسوية موقفه المالي، والتي نشرت الصحف قبل أيام أنها انتهت بإتفاق يتنازل فيه حسين سالم عن 75% من كافة أملاكه وممتلكاته وأمواله داخل مصر لصالح الدولة وأن يتنازل عن 55% من ممتلكاته بالخارج هو وزوجته ونجليه خالد وماجدة وأزواجهم وأولادهم البالغين والقُصّر لصالح مصر، ما أضحكني عند قراءة تفاصيل الخبر ما ورد فيه عن أن جلسة المفاوضات استمرت قرابة ست ساعات متصلة، أدري أن الخبر يتحدث عن جلسة الإتفاق النهائي بالطبع، وليس عن جلسات التفاوض التي استمرت شهورا، ومع ذلك فقد وجدت أن من مضحكات مصر المبكيات التي تحدث عنها أبو الطيب المتنبي أن تظل تنهب بلدا لمدة ثلاثين عاما لمجرد كونك صديق لرئيسه وشريك له في تجارة السلاح والغاز، ثم تقوم بالتفاوض على مدى أسابيع حول ما يمكن أن ترده للبلد الذي نهبته، وتتوصل إلى الإتفاق شبه النهائي خلال ست ساعات، بالطبع عندما تقرأ التفاصيل ستدرك أن شبح تجربة علاء وجمال مبارك حاضرة في ثنايا الإتفاق مع حسين سالم، فحكومة الإخوان أصبحت تتعامل بمنطق «كل اللي يجيبه ربنا كويس وأهو أحسن مما فيش»، وهو منطق وارد من الناحية السياسية، شريطة أن لا تتخذ فيه قرارا منفردا، لأنك لا تتفاوض على نفقة الست خالتك، بل تتفاوض على أموال شعب، وبالتالي من حق هذا الشعب أن يعرف لماذا أخذت هذا القرار، لكي تطمئن نفسه إليه، فيدرك أنك لم تفرط في حقوق الوطن، ويفهم أين هو التقصير الذي حدث وجعلنا نعتبر أن مجرد إسترداد نسبة من الأموال أحسن مما فيش، والأهم أن يجد إجابة على أسئلة خطيرة يمكن أن تفسر لنا الكثير في ملف إسترداد الأموال المنهوبة، وعلى رأسها سؤالان كتبت عنهما كثيرا في الأشهر التي تلت الثورة، ولم يصادفني إلا الطناش أولهما «من قام بتهريب حسين سالم في 31 يناير 2011 قبل أن يتمكن أي من رموز النظام السابق من الهروب، ولماذا لم يتم التحقيق بشكل رسمي في القصة التي نشرها الأستاذ محمد حسنين هيكل وأشار إليها أكثر من مرة حول الكم الضخم من الأموال الذي صحبه حسين سالم معه على الطائرة، وهي قصة كان يمكن لحسين سالم أن يقوم بإتخاذ إجراء قانوني ضد هيكل لكي يجبره على تكذيبها لكنه لم يفعل؟»، وثانيهما «من سمح ليوسف بطرس غالي بالهروب في نفس التوقيت وهو يحمل معه كل أسرار الملفات المالية لحسني مبارك ونظامه؟»، فهل سعى الإخوان للبحث عن إجابتين على هذين السؤالين ولو حتى من باب الرغبة في المكايدة السياسية للمجلس العسكري الذي يهمهم الآن أن يظهروا مدى تواطئه مع النظام السابق في ملف استرداد الأموال المنهوبة، ألم يكن ذلك أفضل لهم من اللجوء إلى الأكاذيب التي يقومون بترديدها لأنصارهم في لقاءات الأسر الإخوانية وعلى صفحات الفيس بوك حول ما يتعرض له محمد مرسي من حرب مع الدولة العميقة، مع أنه لم يظهر أي أمارة على خوضه أي حرب شريفة في ملف الأموال المنهوبة.
لكي لا يبدو لك كلامي متحاملا على مرسي، خذ عندك ما هو أخطر وأضل، وهو هذه المرة لا يأتي من أحد معارضي الإخوان الشرسين أو من أحد فلول النظام السابق، بل يأتي من رجل مشهود له بالوطنية والمواقف المشرفة هو السفير إبراهيم يسري الذي اختبرنا الله في محبتنا له عندما جعله يختار رئاسة ذلك الكيان الوهمي المضحك المسمى بجبهة الضمير، والذي أجرى في هذه الصحيفة حوارا مع الزميلتين داليا العقاد وريهام سعود قال فيه «لديّ مستندات موثقة عن قيام أحد السفراء في الخارج بتهريب أموال قدرت بنحو 8 مليارات جنيه على دفعات لصالح عائلة حسني مبارك قبل الثورة، والمثير أن عملية نقل الأموال تمت لصالح ميزانية إحدى السفارات المصرية بالخارج، ثم تمت إعادة ضخها في حساب عائلة مبارك الخاص في أحد البنوك، وأرسلت ما لديّ من دلائل إلى وزير الخارجية، وسبب عدم إرسالي المستندات للنائب العام هو منح وزارة الخارجية الفرصة لبحث الأمر وكشفه حتى لا تتم الإساءة لهذا الجهاز الحساس». نعرف الآن أن وزارة الخارجية نفت رسميا ما قاله إبراهيم يسري، وبات عليه أن يثبت كذبها أو يعترف بخطئه، وحتى يحدث هذا أو ذاك، أرجو أن تلاحظ معي كيف أن السفير يسري الذي يفترض أن إيمانه بالضمير يقتضي إيمانه بالمسئولية السياسية للحاكم عن وقوع أي تقصير من مرؤوسيه، ومع ذلك فقد اختار في حواره أن يتحدث عن وزير الخارجية كأنه يقود جزيرة منعزلة في جهاز الدولة لا يجب أن نسأل مرسي عنها، مع أنه كان أيام مبارك يقوم بتحميل مبارك مسئولية كل ما يجري تحته من فساد وإهمال، لكن الأمر مختلف مع مرسي، فعندما يتم تهريب هذا الرقم الضخم من الأموال ويكون هناك مستندات توثق ذلك ونقوم بإبلاغ أحد كبار المسئولين الذين عينهم منذ فترة، ولا يتم إتخاذ أي إجراء لمواجهة هذه الفضيحة، فإن مرسي عندها لا يكون حاكما يستحق أن نثور ضده ونتهمه بالتواطؤ والتقصير على تأخره في إسترداد أموال الشعب المنهوبة.
قبل أن أختم هذا التقليب الطويل للمواجع دعني أذكرك أن سؤال «فين فلوسنا يا مرسي؟» الذي بدأت به حديثي، لا يقتصر فقط على أموال الشعب التي نهبتها عصابة مبارك، بل يتضمن سؤالا عن الأموال التي وعد مرسي بأن يحصل عليها من الخارج إذا انتخبناه رئيسا، ثم لما نجح أصبح يتحاشى الحديث عن وعوده حتى نسيها الناس، ولذلك دعني أنعش ذاكرتك بكلام كتبته في هذه الصحيفة بتاريخ 9 مايو 2012 وكان مرسي لا يزال مرشحا رئاسيا وقتها يخوض الجولة الأولى من الإنتخابات، قلت فيه بالنص « التصريح الثاني الذي نتعه الدكتور مرسي نشرته صحيفة الأخبار ولم يتم تكذيبه على الأقل حتى الآن، حيث قال أنه حصل على تعهدات مكتوبة من جهات دولية بأنه سيحصل على 200 مليار دولار في حالة فوزه، وأنا لن أسأله من هي هذه الجهات الدولية وهل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين من بينها؟، ولا ماهي ميزانية جماعة الإخوان أصلا ومن يراقبها وكيف وإلى متى تظل سرية الإقتصاد بعد أن صارت صاحبة الأغلبية في البلاد؟، و الأهم من كل ذلك أين هي صور تلك التعهدات الكتابية؟، ولا ماهي الضمانات التي تجعلنا نصدقه لكي لا يتكرر ماحدث عندما صدقنا على سبيل المثال لا الحصر جماعته حين قالت أنها لن ترشح أبدا مرشحا إخوانيا للرئاسة، فقط سأسأله: عشان خاطر مصر التي سيضرها كثيرا أن يستبد بها تيار واحد، تاخد كام من المليارات دي بس تخلع؟». من المهم أن تعلم هنا أن التصريح الذي كنت أتحدث عنه لم تنشره فقط صحيفة الأخبار لكي تتحمل وحدها مسئوليته، بل تم ضمه إلى الملف الإنتخابي الدعائي الذي قدمه محمد مرسي في الجولة الثانية من الإنتخابات مما يجعله مسئولا عنه، ويجعله مطالبا بأن يوفي بتعهده أو يعترف بشيئ من إثنين: إما فشله في الوفاء به أو كذبه عندما أصدر ذلك التعهد أصلا.
طيب لا يبقى بعد كل هذا إلا أن نسأل: يا دكتور مرسي، لا أنت استعدت أموال الشعب المنهوبة، ولا أنت أعلنت خريطة طريق واضحة تضمن إستردادها ولو بعد سنين، ولا أنت وفيت بوعودك وجلبت لمصر المليارات التي تعهدت بإحضارها، فبأي أمارة إذن يحسبونك علينا رئيسا؟.