قلت ذلك للشاب المتحمس فغضب جدا، وأنا حاولت إمتصاص غضبه قليلا ثم قلت له مجددا "أقسم بالله أنني سأجيبك عما تسألني عنه، لكن إشهد لي أولا أنك ناقص".
كان الشاب قد أتى ليسألني عن فيديو انتشر بكثافة على شبكة الإنترنت كان قد تم تسجيله قبل سنوات بأحدث كاميرات التجسس التي كان جهاز أمن الدولة اللعين ينفق أموال المصريين عليها طيلة عقود، ويظهر في الفيديو الذي لا يدري أحد متى تم تسجيله واحد من أشرس وأشرف رموز معارضة نظام مبارك المخلوع وهو يقضي لحظات خاصة مع سيدة لا نعلمها، يبدو أن الفيديو كان قد تم إستخدامه من قبل لتهديد ذلك المعارض وإبتزازه، لكنه لم يُجدِ نفعا.
ولذلك قرر أحد بقايا النظام البائد أن يقوم بنشر الفيديو الآن على الإنترنت لتوجيه ضربة إنتقامية تصورها ساحقة ماحقة لذلك المعارض، ربما لأنه يعلم أن كثيرا ممن سيشاهدون ذلك الفيديو لن ينتبهوا إلى أن الجريمة الحقيقية ليست مايفعله المعارض، ولكن الجريمة الحقيقية أن يتم التجسس عليه بذلك الشكل القذر، وأن يتم إنفاق أموال دافعي الضرائب في فضح الناس والتفتيش عن أنصافهم السفلية.
قلت للشاب بعد أن هدأت ثائرته : ياصديقي من نصّبك أنت أو غيرك قاضيا لتصدر حكما على شخص يتم تصويره سرا مع سيدة قد تكون زوجته في السر أو العلن، وحتى لو كانت عشيقته أو نزوة من نزواته، لماذا لا تطلب له الستر وتسأل نفسك: هل جارت خطيئته تلك عليك أم أنها كانت خطيئة تخصه هو لوحده، وهل أنت كاملٌ لكي تظن أن الحق في هذه الدنيا لا يكون إلا بصحبة الكاملين، ستقول لي أعرف أنه لا يوجد كامل في هذه الدنيا فالكمال لله وحده، سأقول لك: لكنك لم تتذكر ذلك وأنت تصب سياط غضبك على الرجل.
بل فعلت مثل أولئك الكاذبين الذين يظهرون في برامج التلفزيون ليتخفوا خلف إبتسامات تواضع زائفة وهم يقولون "طبعا لسنا كاملين فالكمال لله وحده"، قبل أن ينهالوا على حياة الآخرين الخاصة طعنا وتجريحا، ياصديقي أنا لا يشغلني من أخطاء الناس إلا ماكان منها يجور على حقوق الآخرين، ألم يكن يحكمنا من يدعي الكمال ويزعم أنه رجل حمار شغل لا أخطاء بشرية له.
وأخذت أجهزة أمنه تجرنا للحديث عن إرتداء إبنة ذلك المعارض للمايوه وعن شرب ذلك المعارض للخمر وعن شرب ذلك للحشيش، وانجرف كثير منا كالبلهاء للإنشغال بنواقص بشرية لم تمس وطنهم في شيئ، بينما تركوا مدعي الكمال يواصل العربدة بجرائمه في حق الوطن التي كانت أولى بإنشغالهم وغضبهم، صدقني لم أكن سأغضب لو كان ذلك الحاكم صاحب نزوات خاصة طالما أقام العدل بين الناس وأعطى كل ذي حق حقه وجعل مصر تحتل مكانها اللائق بين الأمم.
ياصديقي عندما يأتيك شخص ليحدثك عن خطأ فلان من الكتاب أو خطيئة علان من المعارضين قل له أنك لا تعرف الحق بالرجال بل تعرف الحق بالحق، قل له أنك لن تجد شخصا كاملا في التاريخ بأكمله، وأن كل عظماء البشرية كان لهم نواقص شخصية بعضها مخيف، كنت في بداية عهدي بالقراءة التاريخية أجزع عندما أعرف تلك النواقص وأتصور أنها مفبركة ومنسوبة إليهم زورا لتشويههم، قبل أن أدرك أن الشخصية التاريخية الكاملة لا توجد فقط إلا في الأفلام التاريخية المصرية ومسلسلات القضاء في الإسلام.
حتى أصبحت لا أثق في أية شخصية يُسَوِّقها المؤرخون على أنها كانت ملائكية لا تمتلك نواقص شخصية، لا أنسى صدمتي عندما قرأت وأنا طالب في الجامعة حوارا أجراه الدكتور عمرو عبد السميع مع المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق عن منهجه في تدريس التاريخ قال فيه "عندما أدرس التاريخ أول ما أفعله أن أصدم طلبتي فأقول لهم مثلا هل تعرفون أن مصطفى كامل كان يقترض من محمد فريد ولا يرد ما اقترض، وأن محمد فريد كان على علاقة بسيدة عندما سافر إلى فرنسا، وكذلك سعد زغلول كان محاميا شهيرا ولكنه كان يلعب القمار وخسر أموالا كثيرة، كما خسر عزبة، ولكن هذا لا يقلل من قدره كزعيم سياسي.
فهذه هي طبيعة التاريخ البشري، فهو ليس تاريخ ملائكة أو تاريخ أناس جاءت من المريخ، وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه المؤرخون في مصر بتغليب هذه الصور النمطية لبطل التاريخ أو خائن التاريخ، وما أريد أن أظهره لتلاميذي من خلال هذه الصدمات أن أبطال التاريخ هم في النهاية بشر وليسوا ملائكة، لهم إنتصاراتهم وإحباطاتهم، فوراتهم وإنكسارهم، نبالتهم وخطاياهم".
إستمع الشاب إلى كلامي مليا ثم قال لي: كلام جميل ولكن ماذا عن فلان، لن أتحدث عن حياته الشخصية ولكن هل تتخيل أنه قال كذا في برنامج كذا، هل يمكن السكوت على سقطة كهذه؟، قلت له "سأجيبك ولكن بشرط أن تشهد لي أولا أنك ناقص"، قال لي مبتسما "أعرف أنك تريد أن تستفزني بجملتك هذه لكي تجعلني أغضب وأتوقف عن مناقشتك"، قلت له "والله أبدا، كل مافي الأمر أنني منذ زمن بعيد قررت أن أتحدث عن نواقص الآخرين وأخطائهم وعثراتهم، إلا مع من يشهد على نفسه أولا بأنه ناقص، والفضل في ذلك لشاعر العربية العظيم إبن الرومي الذي قرأت له بيتين من الشعر يقول فيهما: أعيّرتَني بالنّقصِ، والنّقصُ شاملٌ.. ومن ذا الذي يُعطى الكمالَ فيَكمُلُ .. فأشهدُ أنِّيَ ناقصٌ، غيرَ أنّني.. إذا قِيسَ بي قومٌ كَثيرٌ قُلِّلوا".
إشهد أنك ناقص ياصديقي، ثم تعال لتحدثني عن الكمال الذي هو كما تعلم لله وحده.
(من كتاب فتح بطن التاريخ ـ يصدر قريبا عن دار الشروق)