قل لي بالله عليك، هل سمعت في الفترة الماضية عن محاولات لحرق مسرح في شارع برودواي الشهير في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية؟، هل قرأت عن سيل من البلاغات ينهمر على القضاء الأمريكي يطالب بوقف مسرحية تسيئ إلى المسيحية؟، هل رأيت على الإنترنت فيديو كليب لمتظاهر يحتج على عرض مسرحية تزدري الكاثوليكية وهو يمسك بمطواة يهدد بها ممثلي المسرحية بأنه سيقوم بطعنهم في مؤخراتهم قبل أن ينظر إلى الكاميرات ويقول «آي جيف ماي سيلف تو جيسس كرايزد يا سنز أوف بيتشز».

أنا شخصيا لم أسمع عن شيئ من ذلك أو غيره حدث في مواجهة مسرحية (شهادة مريم العذراء) التي عُرضت بنيويورك بدءا من الشهر الماضي والتي يقدم فيها كاتبها الأيرلندي كولم توبلين رؤية مختلفة لحادث صلب السيد المسيح، بطريقة وصفها المعارضون للمسرحية بأنها «كفرية وصادمة وجارحة لمشاعر المؤمنين الكاثوليك»، ومع ذلك فإنني طيلة رحلة عمل إلى نيويورك دامت شهرا كاملا، لم أسمع عن ردود أفعال عنيفة أو جنونية تعرضت لها المسرحية المسيئة للمسيحية، كنت قد حددت المسرحيات التي سأذهب لمشاهدتها خلال إقامتي، ولم تكن تلك المسرحية من بينها، برغم أن عددا من الأصدقاء نصحني بمشاهدتها بعد أن حدثوني عن وجود مطالبات بإيقافها، لكنني بعد أن قرأت عددا من عروضها النقدية لم أجد نفسي مهتما بمتابعتها، ثم وجدت قبل سفري صديقا أمريكيا يخبرني أن المسرحية ستغلق بعد ثلاثة أيام، أخذت أسئلتي تتلاحق عليه «لماذا هذا القرار المفاجئ؟، لقد شاهدت حملة إعلانية مكثقة كانت توحي بأن المسرحية ستستمر على الأقل حتى نهاية موسم الصيف؟، هل تلقى فريق العمل تهديدات بالقتل تجبرهم على إغلاق المسرحية؟، كيف لم أقرأ عن ذلك في الصحف، وما هو سبب إغلاق مسرحية بدأت منذ أسبوعين فقط؟»، فقال لي «شاهد المسرحية بنفسك وستعرف».

أخذت أبحث عن معلومات أكثر عن سر إغلاق المسرحية، فقرأت عن مظاهرة أقيمت أمام مسرح والتر كير الذي تُعرض عليه في ليلة إفتتاحها، شارك فيها طبقا لصحيفة صنداي تايمز خمسون متظاهرا فقط، رفعوا لافتات تقول «أوقفوا الكفر بحق إلهنا الآن ـ تقربوا إلى الله بالإحتجاج على هذا الكفر»، المظاهرة نظمتها مؤسستان كاثوليكيتان في ولاية بنسلفانيا سبق أن قادتا الإحتجاجات على فيلم (شفرة دافينشي) بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ترفض قرارات دعم الإجهاض وتوزيع حبوب منع الحمل على طالبات المدارس الثانوية، كانت تلك المظاهرة الوحيدة ضد المسرحية، وقد انفضت بعد ساعات من إقامتها، ولم يعلق فريق المسرحية عليها، بل أصدروا بيانا يؤكد إحترامهم لحق المعترضين في التعبير عن آرائهم ويطلبون منهم حضور المسرحية التي وصفوها بأنها ستدافع عن نفسها ضد أي إتهامات.   

لم أجد فيما قرأته تفسيرا لسر إغلاق المسرحية المبكر برغم كل ما يقال عن تجاوزها لكل الخطوط الحمراء، وهو ما جعل بعض النقاد يتوقعون لها نجاحا تجاريا بسبب الجدل الذي ستثيره، لكن النجاح التجاري لم يتحقق برغم الإحتفاء النقدي بالمسرحية وبرغم حملة الدعاية الضخمة وهو ما أدى إلى خسائر مادية للمنتجين جعلتهم يتخذون قرار إغلاق المسرحية بعد 27 عرض تجريبي و16 ليلة عرض رسمية فقط، وهو رقم يعتبر مخجلا لأي مسرحية حتى لو كانت تعرض خارج برودواي، فما بالك بمسرحية تُعرض على واحد من أكبر مسارح برودواي. زاد الطين بلة أنه عندما تم في مطلع مايو إعلان ترشيحات «توني أواردز» أشهر جوائز المسرح في العالم، وتم ترشيح المسرحية لجوائز أفضل مسرحية وأفضل نص وأفضل ممثلة، لم يحدث أي إنتعاش في الإيرادات يدفع المنتجين للتراجع عن موعد الإغلاق المبكر للمسرحية، وهو ما جعلني أشك أكثر في أسباب الإغلاق وأحرص على الذهاب لحجز تذكرة قبل إغلاق المسرحية.

عندما اقتربت من المسرح وجدت تجمهرا حاشدا أمامه، فتوقعت أن يكون تجمهرا لمظاهرة تبارك إغلاق المسرحية أو تحتج على إغلاقها دون حساب ولا عقاب، ضحكت وأنا أسأل نفسي ساخرا: متى سيبدأ تساقط كسر الرخام بالقرب مني، لكني مع إقترابي من الحشد لم أسمع حتى أصوات هتافات ولم أر لافتات مرفوعة، ليتضح أن المتجمهرين ليسوا سوى رواد المسرح الذين أقبلوا على المسرح عندما سمعوا بخبر قرب إغلاقها. بعد أن لحقت بالعافية آخر تذكرة في عرض الغد، سألت موظف شباك التذاكر عن صحة أنباء قرب الإغلاق، فرد عليّ بحزن «للأسف هذا صحيح»، قربت رأسي من الشباك وسألته «هل تلقيتم تهديدات بتفجير المسرح، أرجوك صارحني ولا تقلق فقد اشتريت التذكرة فعلا ولا أنوي إعادتها، أنا فقط أسأل لأني كاتب من مصر وأريد أن أفهم سر إغلاق المسرحية»، سحب الرجل تنهيدة عميقة وقال لي «هل تعتقد لو كان هناك تهديدات أننا سنعرض أحدا من الجمهور للخطر وحتى لو كنا أغبياء وقررنا ذلك هل تعتقد أن أحدا سيسمح لنا بأن نفعل ذلك»، قلت له «إذن لماذا الإغلاق المبكر»، رد عليّ بأسى «ليس سوى الحظ السيئ»، ثم قال بجدية «أرجو ألا تتأخر على موعد بدء المسرحية لأننا لا نسمح بالدخول المتأخر للجمهور أيا كانت المبررات».

لم يبدُ لي أن هناك تشديدات أمنية بالقرب من المسرح يومها، ولا في اليوم التالي الذي حضرت فيه المسرحية، ولم أتعرض للتفتيش في مدخل المسرح، برغم أني كنت أحمل كيسا بلاستيكيا أسود به كتب قديمة لم أقاوم إغراء شرائها وأنا ذاهب إلى المسرح، مع أن تفتيش الحقائب أمر متعارف عليه في مسارح برودواي خصوصا وقد كنا على بعد أسبوعين فقط من تفجيرات ماراثون بوسطن المؤسفة. كنت قد وصلت إلى المسرح قبل نصف ساعة من موعد بدئها، كان الكرسي الذي وجدته في الطابق العلوي من المسرح (الميزانين)، اندهشت عندما رأيت من موقعي في الأعلى عددا كبيرا من جمهور الصالة يصعد على خشبة المسرح، فظننت أنه جزء من جمهور غاضب قرر أن يصعد إلى الخشبة لتحطيم الديكور، لكني لم أجد المشهد ملفتا لأحد غيري، دققت النظر فوجدت أن الجمهور يتناوب الصعود على الخشبة ليطوف بتمثال لمريم العذراء تم نصبه في وسط المسرح، سألت جاري العجوز الوقور عما يحدث فقال لي أنهم منذ قليل أعلنوا للجمهور أنه يمكن لمن أراد أن يصعد لتفقد ديكور المسرحية، على أن لا يطيل البقاء على خشبة المسرح ويترك الفرصة لغيره، ثم أضاف مازحا «بالطبع هذه خدمة مقدمة فقط للأغنياء القادرين على دفع ثمن التذاكر الغالية ولن نستطيع نحن فقراء الميزانين أن نستفيد من هذه الخدمة».

 شجعتني مودته على أن أسأله عن ديانته، فقد كنت راغبا في معرفة طبيعة الجمهور الراغب في حضور العرض بعد كل ما كتب عنه، بدت على وجهه تقطيبة وأجاب عن سؤالي بسؤال «من أي بلد أنت ياعزيزي»، قلت «من مصر»، وقبل أن أشرح له سر سؤالي بادرني بقوله «ليس مستحبا هنا أن تسأل الناس عن ديانتهم فهذا أمر شخصي جدا»، شرحت له سر سؤالي فقال لي « حسنا، دعني أقل لك أنني كنت كاثوليكيا»، قلت متسائلا «كنت؟»، قال ضاحكا «لست متأكدا بعد ما إذا كنت قد فقدت إيماني كاملا أم لا»، شجعني لطفه على مزيد من الفهم فسألته «قرأت في صحيفة وول ستريت جورنال نقدا للمسرحية يصفها كاتبه بإنها إنجيل الكافرين بالكاثوليكية ويقول أنه إذا كنت من الذين يعتقدون أن المسيحية أم الشرور في العالم ستعجبك هذه المسرحية مارأيك في كلام كهذا؟»، قال وهو يهز رأسه «لا أستغرب أن أقرأ ذلك في صحيفة يملكها أحمق مثل روبرت ميردوخ، لم أعد متدينا كما كنت من قبل، لكني لا أعتقد أن المسيحية هي أم الشرور في العالم، ولا أعتقد أن الإسلام أو اليهودية أو أي دين هو أساس الشرور في العالم، صدقني الغباء هو أساس الشرور في العالم كله، بماذا ستستفيد البشرية منك لو كنت ملحدا وغبيا في نفس الوقت»، أخذت أهز رأسي معجبا بكلامه وأنا أهنئ نفسي على حظي السعيد غالبا فيمن أجاورهم في العروض الفنية ومقاعد الطائرات، قلت له «عندما قرأت عن إغلاق المسرحية مبكرا ظننت أن هناك حملات من الكنيسة الكاثوليكية ضدها لكني فوجئت أن السبب هو تدني الإقبال عليها ثم عندما جئت بالأمس وجدت المسرح ممتلئا وها هو اليوم أيضا ممتلئ عن آخره»، قال «هذا بفعل الغباء الذي كنت أحدثك عنه، هل ترى الجالسين إلى جواري، سمعتهم يقولون أنهم جاؤوا إلى المسرحية بعد أن قرأوا عن حملات تطالب بمقاطعتها»، ثم ضحك وأضاف «هل تعلم أن ما شجعني على المجيئ من ولاية كونيتكيت لمشاهدة المسرحية أن أحد أصدقائنا أرسل إلى زوجتي المتدينة جدا بريدا إلكترونيا للمشاركة في حملات لمقاطعة المسرحية وإرسال رسائل إلى منتجيها للإحتجاج عليها»، قلت مداعبا «هل أفترض أنك جئت إلى هنا بدون علم زوجتك؟»، قال وقد أضاءت ضحكة وجهه «قد أكون شجاعا لكي أجازف بإغضاب الرب مني، لكني لست أحمق لأجازف بإغضاب زوجتي».

توقف حديثنا عندما بدأت أنوار المسرح في الإظلام التدريجي، وخلت الخشبة من كل من عليها، بدأ عمال الديكور بإزاحة الصندوق الزجاجي الذي كان يحوي تمثال السيدة العذراء ليظهر أنه كان يخفي تحته بركة ماء صغيرة تصب فيها حنفية ينزل منها إلى داخل البركة «سرسوب» ماء، كان ديكور المسرحية يمزج بين قطع أثاث قديمة وأخرى معاصرة، بدا أن وراء هذا المزج فلسفة من المخرجة ديبورا وارنر، تأكدت عندما دخلت بطلة العرض فيونا شو وهي ترتدي جلبابا نسائيا قديما ترتدي تحته بنطلون جينز رمادي اللون، بدأت البطلة في ترتيب مقاعد حول طاولة عرفنا من كلامها أنها طاولة العشاء الأخير الذي تناوله السيد المسيح مع حوارييه، ضحك الجمهور بشدة عندما قالت تعليقات تسخر من الحواريين الذين لم تحب صحبتهم كأم لإبنها، ثم بدأت تقوم بتنظيف أحد الكراسي وهي تقول أنها تنظفه من أجل إبنها الذي سيعود في أسرع وقت، لأنها لا تصدق أبدا أنه مات، برغم أنها رأته بعينيها وهو يصلب لكنها لم تتحمل المشهد فتركت الجمع المحتشد حوله وعادت إلى بيتها، لاحظت أن مؤلف المسرحية حرص على أن يصوغ حوارها بلغة معاصرة سهلة، بدليل أن مشاهدا إنجليزيته عادية جدا مثلي لم يجد صعوبة في متابعة الحوار الذي كان به الكثير من الجمل والعبارات الصادمة للرواية الكاثوليكية لصلب المسيح، بل وحتى للرواية الإسلامية لتعرض المسيح للصلب، لكن أكثر ما وجدته صادما جدا، هو ما حدث عندما اقتربت البطلة من بركة المياه وقامت بخلع البنطلون الجينز، فظننت أنها ستقوم بتدلية قدميها في البركة، لكني فوجئت بها تخلع ملابسها كاملة وتنزل زلط ملط إلى بركة الماء، رجعت إلى الخلف مذهولا ثم نظرت حولي فلم أجد أن أحدا لفت إنتباهه ما حدث، حتى جاري العجوز نظر إليّ مستغربا حركتي المفاجئة، ثم عاد لمتابعة الشاشة الضخمة التي تحتل جدار المسرح والتي ظهر عليها ظلالٌ متحركة للبطلة وهي تعوم داخل الماء، بعد قليل خرجت البطلة من بركة الماء، وأخذت تواصل حديثها وهي تُجفف نفسها، ثم أخذت ترتدي ملابسها وهي تواصل الحكي، كنت طيلة ذلك أتوقع أن أسمع صرخة من أحد الحاضرين يحتج على ما حدث، لكن المسرح ظل صامتا يستمع إلى البطلة وهي تواصل حكي مونولوجها الطويل الذي تحكي فيه رؤية السيدة العذراء لما حدث لإبنها الذي اشتاقت إليه، وهو مونولوج استمر لمدة ساعة ونصف دون توقف، وانتهى بعبارة قالتها الممثلة بألم شديد «هل كان الأمر يستحق كل ذلك؟».

إنطفأت الأنوار، وضج المسرح بالتصفيق، ثم خرجت البطلة ثانية لكي تتلقى تحية الجمهور الذي ظل يصفق لها لأكثر من عشرة دقائق على أدائها الذي مهما اختلفت مع مضمون المسرحية لا يمكن أن تنكر أنه كان فذا ومدهشا ومتباينا بين السخرية المريرة التي تثير ضحك الجمهور وبين الحزن المؤلم الذي جعل كثيرا من المحيطين بي تعلو أصوات بكائهم تعاطفا مع حزن السيدة العذراء وهي تصف تعرض إبنها للأذى. ونحن نخرج من المسرح كان الجمهور قد تحول إلى حلقات نقاشية صغيرة تتحدث عن المسرحية، حرصت على سؤال جاري العجوز عن رأيه، فقال «وجدتها مثيرة للإهتمام لكن لا أعتقد أنها كانت تستحق كل هذه الضجة، مشكلتي مع الكاثوليكية كانت أعمق مما ذكرته المسرحية»، ثم قال مبتسما «لقد لاحظت كيف تراجعت إلى الخلف مصدوما عندما شاهدت البطلة تخلع ملابسها وتنزل لتستحم»، قلت «يبدو أنني الوحيد الذي صدمه الأمر»، سألني « ألا يسمحون في بلادكم بمشاهد عارية؟»، قلت له «طبعا لا، لكن الأمر ليس متعلقا بالعري نفسه، المسألة أن هذه هي السيدة مريم العذراء، لا أعتقد أن صدمتي مما حدث أمر غريب»، قال لي «لست وحدك في ذلك، الكاثوليك مصدومون جدا ومستاؤون من الأمر، في رأيي أن صناع المسرحية أضافوا المشهد كنوع من التحدي لم أجد له مبررا، ربما ظنوا أن ذلك سيحدث ضجيجا يجعل الناس يقبلون على المسرحية»، ثم قال لي بعد أن خفض صوته قليلا وقد كست وجهه نبرات عابثة وقال «كان يجب أن يختاروا ممثلة أكثر جمالا في حالة كهذه».

فور أن عدت إلى البيت بدأت أجمع معلومات أكثر عن طبيعة الإحتجاجات التي مورست ضد المسرحية، فوجدت أن الحملات المنظمة لمهاجمتها اقتصرت على المواقع الإلكترونية للمؤسستين الكاثوليكيتين اللتين التي حرصتا في حملتيهما على تأكيد أن مهاجمة فريق المسرحية للكاثوليكية وإهانة معتقداتها، لا يمكن فصله عن الهوية الجنسية لأبرز أضلاع مثلث العمل، فالمؤلف كولم توبلين أعلن شذوذه الجنسي، وكتب من قبل مهاجما موقف الكنيسة الكاثوليكية من الشذوذ، وبطلة المسرحية فيونا شو سحاقية وتفتخر. مؤلف المسرحية الذي يقيم في نيويورك ويدرس الأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا لم يعلق على حملات الهجوم التي طالته، معلنا أنه يعتبر نفسه كاثوليكيا مرتدا، وقائلا أنه استلهم عمله من أعمال فنية لتيتان وتينتوريتو عن صلب المسيح شاهدها خلال زيارته لإيطاليا، فبدأ كتابة الفكرة في رواية قصيرة من تسعين صفحة، ثم قام بتحويلها إلى مسرحية مونودراما، والمدهش أن المسرحية عرضت من قبل في دبلن بأيرلندا عام 2011 ولكن ببطلة مختلفة ومخرج مختلف، دون أن تحدث أي ردود فعل غاضبة ضدها في مكان يعتبره البعض معقلا للكاثوليكيين المتعصبين، بل إن كبار قادة الكنيسة قرروا أن يتجاهلوا المسرحية، فلم تقم حتى مظاهرة رمزية ضدها، وربما لذلك استمر عرضها لمدة ثلاثة أسابيع فقط وتوقفت.

ما فهمته بعد سؤال أصدقاء بعضهم متخصص وبعضهم متابع، أنه لم تقم حملات إعلامية قوية ضد المسرحية أو معها، وحتى المظاهرة التي قامت ضدها لم تهتم الصحافة الأمريكية بتغطيتها أًصلا، وكانت الصحف الإنجليزية أكثر إهتماما بنشر أخبارها، ليُترك التعليق على المسرحية لنقاد المسرح فقط ليقولوا رأيهم فيها سلبا وإيجابا، بالإضافة إلى التغطيات الفنية العادية التي شملت حوارات صحفية مع مؤلفها ومخرجتها وممثلتها التي تشتهر في أمريكا بأدوارها في أفلام هاري بوتر ومسلسل «ترو بلود»، وبالتالي لا يمكن إطلاقا القول أن حملات الهجوم التي ثارت ضد المسرحية هي التي جعلتها تفشل هذا الفشل الذريع، ما حدث ببساطة أن الناس لم تهتم بما قدمته المسرحية فلم تحقق نسبة مشاهدة عالية، مما سبب نزيفا ماليا للمنتجين جعلهم يقررون وقفها فورا، لتصبح المسرحية دليلا إضافيا على أن مغازلة المشاعر الدينية سواءا بالتملق أو بالهجوم لا يمكن أن يكون سببا للنجاح التجاري في مسارح برودواي، وهو ما قرأت عنه موضوعا في صحيفة وول ستريت جورنال الشهيرة اهتم بتغطية الموضوع من زاوية إقتصادية، تحدثت فيه كاتبته سارة بوليام عن فشل أكثر من تجربة قامت بمغازلة مشاعر المتفرجين الدينية، وهو ما جعلها تختار لموضوعها عنوانا جاب من الآخر: «الله لا يضمن لك النجاح التجاري في برودواي».

أنهيت قراءة كل هذا وأنا أسأل نفسي: ما الذي كان سيحدث لو قرر مركز ثقافي في مدينة مغمورة في نيوزيلندا مثلا أن يقدم مسرحية يتعرض فيها لأي شخصية نسائية في تاريخ الإسلام أيا كانت درجة أهميتها؟، كيف كانت سفارات نيوزيلندا في العالم ستتحول إلى ساحات حرب تحتل مواقع الصدارة في نشرات الأخبار وعناوين الصحف؟، هل تحول الكاثوليك فجأة إلى عقلاء يدركون أن الصمت على من يسيئ إلى دينك أفضل من منحه الشهرة التي يبحث عنها؟، أم أن وجود قوانين صارمة لحرية التعبير هو الذي منع المتعصبين منهم أن يتجاوزوا في إعلان رفضهم لما يسيئ إلى دينهم؟، أم أنهم أدركوا أن تلك الرواية التي تحولت إلى مسرحية وربما تتحول إلى فيلم لن تنهي إيمان ملايين الكاثوليك بعقيدتهم أو حماسهم لنشرها؟، وإلى متى سيظل عالمنا المتخلف مبتلى بالأغبياء من المتدينين والأغبياء من الملحدين الذين يتصورون أن هناك من يمكن أن يلغي فكرة ما من الوجود ليقوم بتمشية الكون على مزاجه سواءا بإتجاه التدين أو وبإتجاه الإلحاد؟، والسؤال الأهم والأعمق من كل ذلك لماذا لم نر على شبكة الإنترنت أبدا فيديو يظهر فيه متظاهر غيور على كاثوليكيته وهو يقف أمام المسرحية فاتحا مطواة يهدد بها ممثليها بأنه سيقوم بطعنهم في مؤخراتهم وهو ينظر إلى الكاميرات قائلا بمنتهى الحماس «آي جيف ماي سيلف تو جيسس كرايزد يا سنز أوف بيتشز»؟.