لم تكن مشكلتي مع الرئيس المسلوت محمد مرسي أنه كان معتقلا سياسيا أو «رئيس رد سجون» كما كان البعض يطلقون عليه تقليلا من شأنه، مع أن الإعتقال السياسي شرف وليس تهمة، مشكلتي الحقيقية مع مرسي أنه لم يكتسب من تجربة الإعتقال السياسي حساسية ضد الظلم تجعله يرده فورا عمن تم إعتقالهم في عهده. وأنك لم تشعر بأنه استفاد شيئا من السجن كالذي استفاده الرؤساء رد السجون الذين غيروا تاريخ شعوبهم بما استفادوه من تجربة السجن.
أشهر هؤلاء الرؤساء الذين خرجوا من السجن إلى القصر كان الزعيم نيلسون مانديلا الذي ربما كان أشد من تحتاج مصر إلى حكمته وخبرته في تجربة المصالحة الوطنية مع أنها لم تكن مثالية للغاية لكنها تظل أفضل بكثير من الهم الذي نعيشه، أعجبني تعليق قرأته للإعلامية اللبنانية الشهيرة جزيل خوري تقول فيه أن مصر أحوج ما تكون إلى استلهام تجربة نيلسون مانديلا في تحقيق العدل في مجتمع كان قائما على الظلم والتفرقة العنصرية، وقد استبشرت خيرا عندما شاهدت مؤتمرا صحفيا للدكتور مصطفى حجازي المستشار السياسي للرئيس المؤقت عدلي منصور تحدث فيه عن أهمية العدالة الإنتقالية كركيزة للتغيير وأشار إلى تجربة جنوب أفريقيا ضمن تجارب الدول التي اهتمت بهذه التجربة. أعرف الدكتور مصطفى جيدا وتشرفت بصداقته منذ سنين طويلة، وهو رجل لا يجيد تشخيص أوجاع مصر فقط بل يمتلك رؤية شاملة يمكن أن تكون بداية لعلاج هذه الأوجاع وليس فقط لتسكينها، وما يجعلني أثق أكثر فيه أنه لن يقبل أن يكون «المستشار الذي لا يُستشار» كما جرت العادة دائما في مصر المبتلاة بالمستبدين، وأثق أنه سيكون صادقا مع الناس وصريحا معهم لو شعر أن ما يقوله من رؤى لا يؤخذ به ويجد من يعوقه داخل جهاز الدولة الذي أثق أنه سيحارب بشراسة أي إصلاح أو تطوير.
وحتى يرزقنا الله برئيس بحجم عبقرية وإنسانية نيلسون مانديلا، من المهم أن نقول أن نيلسون مانديلا لم يأت من فراغ، لن أكرر ما تعرفه عن تاريخ الرجل، يكفي فقط أن أشير إلى تفصيلة شديدة الدلالة شاهدتها العام الماضي عندما زرت المتحف البريطاني الذي أقام معرضا عن الأديب الأكبر ويليام شكسبير وأثره العالمي، وكان أكثر ما أثار اهتمام الناس في المعرض نسخة ما من كتاب الأعمال الكاملة لوليم شكسبير، لم تكن متكوبة بخط شكسبير ولم تكن نسخة أثرية، بل كانت قيمتها التي تستحق الإهتمام الخاص بها، أنها نسخة الأعمال الكاملة لشكسبير التي وصلت مهربة إلى زنزانة زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا قبل 35 عاما، وقام مانديلا بوضع حواشي وهوامش عليها في سجن روبن آيلاند، ليس هو وحده بل و32 آخرون من رفاق مانديلا المسجونين معه والذين تداولوا الكتاب فيما بينهم سرا، لدرجة أنه أطلق عليه إسم «إنجيل روبن آيلاند».
الفقرة التي توقف عندها مانديلا ليكتب تعليقا طويلا كانت من مسرحية (يوليوس قيصر) وبالتحديد من المشهد الثاني في الفصل الثاني، عندما أخذت زوجة يوليوس قيصر تناشده ألا يذهب إلى حيث سيلقى حتفه في مجلس الشيوخ، فقال لها «الجبناء يموتون مرارا قبل موعد موتهم، أما الشجعان فلا يذوقون طعم الموت إلا مرة واحدة، من بين كل ماسمعته مؤخرا من أعاجيب أكثر ما أثار دهشتي هو إضطرار الرجال للخوف من الموت. الموت نهاية حتمية. وسيأتي عندما يحين موعده» ـ
لم تكن قراءة مانديلا لشكسبير قراءة عابرة، فقد لعب شكسبير دورا مهما في المناقشات السياسية بين رفاق السجن الذين خرجوا منه ليحكموا جنوب أفريقيا فيما بعد ويغيروا تاريخها، لدرجة أن كاتب سيرة مانديلا يقول أن أكثر مالعب دورا مهما في السجن كنص لم يكن الإنجيل أو أي من الكتب المقدسة بل كان شكسبير. مانديلا نفسه قال في حوار معه: بشكل ما شعرت أن شكبير كان لديه دائما ما يقوله لنا. تأثره به كان أعمق وأبعد فالبيان الأول للمؤتمر الوطني الأفريقي في عام 1944 «الخطأ ياعزيزي بروتس، ليس في النجوم بل في أنفسنا»، وكتحية لهذا الولع بشكسبير، وفي عيد ميلاد مانديلا الثمانين وقبل أشهر من تنحيه عن منصبه كرئيس، قام خليفته تابو ميبيكي بإقتباس سطور من مسرحية الملك لير.
سمني مهووسا أكثر من اللازم بالثقافة والأدب ومؤمنا بدورها في صناعة عقول الساسة، لكن دعني أقل لك أنه ربما تستطيع من خلال تفاصيل علاقة مانديلا بشكسبير وعلاقة مبارك بالعبارات اللي بتغرق وعلاقة مرسي بالحارة المزنوقة أن تعرف لماذا تقدمت جنوب أفريقيا أكثر منا بكثير مع أنها بدأت بعدنا بكثير.