كنت عائدا من نيويورك عندما قرأت هذا الموضوع منشورا في مجلة (ذي أتلانتيك) الأمريكية، من شدة إعجابي بما في الموضوع من تفاصيل تمنيت أن يترجمه صديقنا الشاعر الجميل أحمد شافعي في مدونة (قراءات)، وعزمت فور عودتي أن أرسله إليه بالبريد الإلكتروني واثقا من أنه لو قرأه لن يتردد في ترجمته وإتاحته للقراء العرب، بعد أسبوع من عودتي وجدت الموضوع الذي كتبه الكاتب يوتشي دريزين مترجما في مدونة (قراءات) التي صارت بالنسبة لي ولكثير من القراء مصدرا ثقافيا للمعرفة والبهجة لا يمكن الإستغناء عنه أبدا. أتمنى أن تُمتعك قراءة الموضوع وتلفت انتباهك إلى أن خوف الكثير من المثقفين على مصير المخطوطات الموجودة في كل من دار الوثائق ودار الكتب ليس خوفا مرضيا أبدا، فما حدث في مالي على أيدي المتطرفين يمكن أن يحدث في مصر لو تركنا العنان لأصحاب العقول المظلمة لكي يحققوا أحلامهم في طمس التاريخ ليحتكروا كتابة روايته كما يحلو لهم. أتركك مع هذا الموضوع المهم كما كتبه يوتشي دريزين وترجمه أحمد شافعي:
«ذات أصيل في شهر مارس الماضي، كنت أمشي داخل معهد أحمد بابا للدراسات والبحوث الإسلامية، مُنَقِّلا قدمي وسط هشيم الزجاج. حتى العام الماضي، كان هذا المبنى المقام من الخرسانة والزجاج، ذو المسحة المراكشية والممرات الغارقة في النور، كان ملاذا للباحثين ممن تجذبهم مجموعة من المخطوطات في تلك المدينة لا نظير لها في مكان آخر. فلقد كانت تمبوكتو ذات يوم مركزا حيويا تتقاطع فيه شبكة من الطرق الصراوية، فلم يكن التجار يتبادلون فيها العبيد والملح والذهب والحرير فقط، بل والمخطوطات أيضا، روائع علمية وفنية ودينية مكتوبة بخط مذهل على ورق مجعد من الكتان. وتنتقل هذه المخطوطات من جيل إلى جيل إرثا لأسر تمبوكتو، مسجلة تاريخا بديعا لإسلام معتدل ينتصر فيه العلماء لحقوق المرأة ويرحبون بالمسيحيين واليهود. ولقد كان أحمد بابا يمتلك عددا من نسخ القرآن وكتب الأدعية المزدانة بتصميمات هندسية ملونة بالأزرق والذهبي، ولكن مجموعته أيضا كانت تضم أعمالا علمانية في الفلك والطب والشعر.
هذا الإسلام العلمي الفلسفي لا يعني شيئا لجماعة أنصار الدين المرتبطة بالقاعدة، والتي باتت منذ العام الماضي تحكم تمبوكتو بالإرهاب، وقطع أيدي اللصوص، وجلد النساء بسبب ما يرتدينه، وتحطم مقابر أقيمت للأولياء قبل قرون. في الصيف الماضي، استولت الميلشيات على معهد أحمد بابا واتخذت منه مقرا وثكنة. ثم جاءت القوات الفرنسية في يناير فضربت حصارا على تمبوكتو. وفي طريق هروبهم حَطّم الإسلاميون المكتبة، وأحرقوا من المخطوطات ما استطاعوا إلى إحراقه سبيلا. وقال عمدة تمبوكتو «هالي أوساماني سيسي» للجارديان البريطانية إن جميع كتب أحمد بابا قد ضاعت إلى الأبد، مضيفا قوله «نعم، هذا صحيح. لقد أحرقوا المخطوطات».
عندما زرت أحمد بابا بعد شهرين، كانت أرفف المكتبة الخشبية خاوية في القاعات الكبيرة الغارقة في نور الشمس. ولم يبق من أثر على الوثائق العتيقة إلا كومة من الرماد المسود، وبضع أغلفة جلدية، ومخطوطة وحيدة بحجم كتاب ملقاة ومفككة على الأرض. تناولتها: كانت اللغة العربية العنكبوتية على غلافها غائبة تقريبا وراء آثار الحريق، والصفحات أقرب إلى التراب منها إلى الورق.
ولما تساءلت عن تدمير المخطوطات سمعت شائعات متباينة. قال لي الناس، ابحث عن عبد القادر حيدرة، هو الأقدر على إطلاعك على ما جرى. وهكذا ذهبت إلى باماكو، عاصمة مالي على بعد أربعمائة ميل باتجاه الجنوب، لأزور حيدرة. رجل بسيط، خجول الابتسامة، ذو شارب مشذب بعناية، وكرش مهيب تحت الثوب المالي التقليدي المميز للرجال هناك. جلس متربعا على أرضية الشقة البسيطة التي يعيش فيها الآن، وحكى لي القصة المذهلة لما جرى للمخطوطات في تمبوكتو. قال في تسليم وهو يمرر حبات المسبحة بين أصابعه «كان الوقت يداهمني قبل أن يعثر الإسلاميون على المخطوطات، وكان عليّ أن أخرج بها».
عندما كان عبد القادر حيدرة في السابعة عشرة من عمره، أخذ العهد. فمن عادات أسر تمبوكتو المالكة لمجموعات المخطوطات (وعائلة حيدرة من كبار حائزيها) أن يُقسم أحد أفرادها في كل جيل وأمام الناس على حماية المكتبة ما قدر الله له أن يعيش. هكذا تحترم العائلات مخطوطاتها، بل وتُجِلُّها إجلالا، وفي يوم معين من كل عام، هو يوم المولد يجتمع الأئمة وكبار العائلة فيرتلون ما تيسر لهم من كتب الأدعية الموروثة لديهم احتفالا بمولد النبي محمد. قال لي حيدرة إن «تلك المخطوطات كانت حياة أبي كلها، وأصبحت حياتي أنا من بعده».
ولكن تلك الحياة تعرضت لتهديد حقيقي آخر العام الماضي، عندما استطاع انقلاب عسكري أن يطيح برئيس مالي المنتخب ديمقراطيا في الوقت الذي بدأ فيه تحالف مكون من الانفصاليين الطوارق وثلاث ميليشيات إسلامية في غزو مساحات كبيرة من شمال البلاد. وسرعان ما ألحق المتمردون الهزيمة بالجيش المالي، فسقطت تمبوكتو في أيديهم في ابريل 2012.
وفيما كانت الميلشيات تتوافد على المدينة، علم حيدرة أن عليه أن يفعل شيئا لحماية قرابة الثلاثمائة ألف مخطوطة في مختلف المكتبات والبيوت في أنحاء تمبوكتو. كان حيدرة قد قضى سنوات يتنقل في طول وعرض البلاد يفاوض الأسر العريقة على تجميع آلاف النصوص في معهد أحمد بابا الذي تأسس في عام 1973ليكون أول منظمة رسمية في مالي لحماية المخطوطات. قال لي «كنت عندما أفكر أن شرًّا قد يقع للمخطوطات، يهرب النوم من عيني».
كانت الموجة الأولى من الغزاة تتألف من الطوارق العلمانيين، لكن سرعان ما سيطرت ميلشيات جماعة أنصار الدين الإسلامية، فارضة نظام الشريعة الصارم على تمبوكتو ومدن الشمال. لم يكن الإسلاميون يعرفون في البداية بأمر المخطوطات. لكن قسوتهم العمياء وسيطرتهم المحكمة على المدينة كانت تعني أنه لا بد من إخفاء النصوص، وبسرعة. فكر حيدرة أن المخطوطات سوف تكون في أكثر المواضع أمنا حينما تكون في بيوت عائلات تمبوكتو القديمة التي سبق أن حافظت عليها على مدار قرون. فكان أن قام بتجميع جيش صغير من الحرس والمتخصصين في الأرشفة والأدلاء السياحيين والمنسقين وموظفي المكتبات إضافة إلى أشقائه وأبناء عمومته وغيرهم من الأسر الحائزة للمخطوطات وبدأ في تنفيذ خطة إخلاء.
ابتداء من أوائل مايو، وفيما بين الفجر والشروق، وبينما الميلشيات تغط في النوم، كان حيدرة ورجاله يسيرون إلى مكتبات المدينة فيغلقون على أنفسهم أبوابها، ويبقون ثمة إلى أن تشتد حرارة الشمس فتخلي الشوارع من روادها، يتحرك الرجال في المكتبات المعتمة يلفون المخطوطات الهشة في الأقمشة اللينة، ثم يضعونها في خزائن معدنية حجم كل واحدة منها يماثل حجم حقيبة كبيرة، تتسع كل منها لنحو ثلاثمائة مخطوطة. وفي الليل يتسللون راجعين إلى المكتبات، حريصين أن يذهبوا مترجلين لكي يتفادوا نقاط التفتيش على الطرقات، فيأخذوا الخزائن وقد غطيت بالبطاطين إلى بيوت عشرات من أسر المدينة العريقة. استغرقت العملية كلها نحو شهرين، وبحلول يوليو، كانوا قد أخفوا ألفا وسبعمائة خزانة في قباء ومخابئ منتشرة في شتى أرجاء المدينة. وفعلوها في الوقت المناسب، فلم يمض وقت يذكر حتى انتقلت الميلشيات إلى معهد أحمد بابا، وبدأوا يستغلون غرفاته الأنيقة في تخزين الخضراوات المعلبة وأجولة الرز الأبيض. هرب حيدرة إلى باماكو راجيا أن تكون المخطوطات في أمان طالما يحميها جهل الإسلاميين بها.
وفي الصيف، بات الإسلاميون أشد وقاحة وتدميرا. بدأوا حملة هجوم على أحب المواقع الدينية في المدينة، أضرحة الأولياء الصوفية. وفي يوليو، هدمت الميلشيات أبواب مسجد سيدي يحيى الذي يرجع إلى القرن الخامس عشر، وهي الأبواب التي كان ينبغي أن تبقى موصدة حتى يوم نهاية العالم. وفي سبتمبر، بدأ حيدرة يتلقى اتصالات مذعورة من تمبوكتو. فلقد كان الإسلاميون يقتحمون البيوت الخاصة، لا سيما بيوت أعرق العائلات، ويسرقون كل ما تقع عليه أيديهم مما يمكن بيعه في السوق السوداء.في ذلك الوقت، كان تركيزهم منصبا على أجهزة التليفزيون مسطحة الشاشات، وأجهزة الاستريو، والكمبيوتر، ولكن حيدرة علم أنهم منتهون لا شك إلى تفتيش المنازل بمزيد من الدقة. كان الوقت قد حان لتخرج المخطوطات من تمبوكتو تماما.
ليست ستيفاني دياكيتي بالحليفة المحتملة لمخطوطات تمبوكتو. هي امرأة نشأت في سياتل، شديدة الذكاء، تلقت تعليما راقيا، شقراء، قصيرة الشعر، تنهي كل جملة تقولها بـ «هه؟[واخد بالك؟]. في رحلة لها إلى تمبوكتو قبل عشرين عاما التقت بحيدرة ومخطوطاته فـ نوديت، تقول إنها نوديت وإن النصوص تفعل فيها»ما لا يفعله شيء آخر». تدربت دياكيتي على يد كبار المعلمين في تجليد الكتب وبقيت تتنقل بين الولايات المتحدة وأفريقيا للعمل في ترميم المخطوطات. ولما أدرك حيدرة أنه بات لزاما عليه أن ينجو بالمخطوطات من تمبوكتو، كانت دياكتي أول من اتصل به. وقضى الصديقان أياما في مقاهي باماكو يحتسيان الشاي ويدبران التدابير.
بدأ حيدرة في تجنيد الرجال في تمبوكتو، فأجرى اتصالات مع عشرات الشباب الذين عرفهم في مكتبات المدينة. وقامت دياكيتي بتنظيم هيكل مالي لكي يتسنى تحويل الأموال من رجال الأعمال في باماكو إلى الشباب في تمبوكتو، ليأخذوا منها رواتبهم، ويدبروا نفقات العربات والشاحنات ويدفعوا الرشاوى الحتمية التي لا بد من دفعها على طول الطريق. وفي الثامن عشر من أكتوبر، قام أول فريق من الشباب بنقل خمس وثلاثين خزانة محملة على عربات يدوية وعربات تجرها الحمير إلى محطة على أطراف تمبوكتو اشترى الرجال فيها مساحات بين الحافلات والشاحنات، وراحوا ينطلقون من هناك على الطريق الجنوبي الطويل إلى باماكو. وتكررت تلك الرحلة بنفس تفاصيلها كل يوم، بل لقد كانت تتكرر في بعض الأحيان عدة مرات في اليوم الواحد، وعلى مدار أشهر عديدة، وبمشاركة فرق كثيرة من المهربين نقلت مئات الخزائن عبر هذا الطريق.
واجه المهربون عددا من المخاطر ليس أقلها جماعة أنصار الدين التي كانت تسيطر على نصف المنطقة الواقعة ما بين تمبوكتو وباماكو. فالريف المالي يعيش في أفضل حالاته حالة فوضى عارمة، وفي ظل الاحتلال الإسلامي، باتت عصابات من المقنعين تجوب الطرقات بحرية فتختطف الناس طلبا للفدية، وتطلب الرشاوى من العابرين، وتسطو على المركبات الهاربة إلى الجنوب. أما القوات الحكومية فكانت كالعادة على قدر كبير من الفساد، وعلى قدر قليل من الكفاءة، فهي عبء أكثر منها كيان لا نفع له.كان جنود الشرطة قد دأبوا على رفع أسلحتهم على الشباب وتفتيش سياراتهم. ولقد حدث لفريق منهم أن اعتقل بضعة أسابيع بعدما بدأ التهريب، وكان على حيدرة ـ الذي كان بعيدا عن تفاصيل العمليات اليومية ـ أن يتفاوض شخصيا من أجل إطلاق سراحهم. في حين كان يجري إيقاف رجال آخرين واستجوابهم في نقاط التفتيش الإسلامية وإن لم يتعرض أحدهم لأذى.
وفي حين استمرت جهود الإنقاذ حتى حلول الشتاء، بدأ المواطنون العاديون ينضمون إليها. فحينما كانت ربات البيوت ترى ما يحمله سعاة البريد عند نقاط التفتيش كن يقدمن لهم الطعام والمأوى، أما أبناء القرى فكانوا يعمدون إلى تشتيت انتباه الجنود حتى يمر المهربون في غفلة منهم. وكان سائقو الشاحنات يستضيفون الرجال من حاملي الخزائن الثقيلة أو يرشدون سائقي العربات التي تجرها الحمير.
في يناير، بدأت القوات الفرنسية هجماتها الجوية والبرية في الشمال، فبات استخدام الطرق أمرا بالغ الخطورة بالنسبة لأولئك الرجال. فعمدوا إلى تحميل خزائنهم على مراكب صغيرة ذات محركات وينقلونها عبر نهر النيجر إلى مدينة»جني» العتيقة حيث يتم تسليمها لسيارات تاكسي تنقلها إلى باماكو. وعلى الرغم من إخطار الفرنسيين بجهود الإخلاء التي يقوم بها حيدرة ودياكيتي، إلا أن هذا الإخطار لم يصل إلى المستويات الدنيا من القوات. ففي الخامس عشر من يناير تقريبا، انقضت مروحية فرنسية على قارب مطالبة الشباب بفتح صناديقهم وإلا تم إغراقهم للاشتباه في نقلهم أسلحة. حكت لي دياكيتي أن الطائرة طارت بمجرد أن تبين لملاحيها الفرنسيين أن القارب لا يحمل إلا كومة ورق قديم.
كان الغزو الفرنسي مدعاة لارتياح حيدرة ودياكيتي في باماكو، أما في تمبوكتو فبدأ الوضع ينعطف انعطافة مريعة. فبعدما انتهت جماعة أنصار الدين من تدمير نصف أضرحة المدينة الكبرى، كانت تبحث عن أهداف جديدة صالحة للتدمير، وبدا أن فكرة خطرة لها مع اقتراب المولد النبوي وما سيصحبه من تراتيل من المخطوطات. قامت جماعة أنصار الدين في منتصف يناير بجمع أئمة المدينة ورءوس أكبر عائلاتها وأعلنوا عليهم: المولد الآن حرام، والأدهى من ذلك أنهم طالبوا كبار العائلات بتسليم جميع المخطوطات لكي يتم إحراقها قبل حلول إجازة مولد النبي في أواخر يناير. وفي تلك اللحظة كان لا يزال في المدينة سبعمائة خزانة. وعلم حيدرة ودياكتي أن عليهما إخراج كل هذا العدد فورا ودونما أي نوع من التباطؤ.
في اهتياج، بدأ الاثنان في الاتصال بجميع الرجال من شركائهما في تبموكتو، مطالبين إياهم بتحميل جميع الخزائن في قوارب بأسرع ما يستطيعون.واستجاب الرجال، وفي غضون أيام قليلة كانوا قد جمعوا كل الخزائن المتبقية ووضعوها على متون سبعة وأربعين قاربا انطلقت جميعا عبر نهر النيجر. وبعد أيام قليلة، وقرب بحيرة ديبو، على بعد ثلاثمئة ميل شمالي باماكو، دخل ثلاثون قاربا إلى مضيق مائي.وفجأة ظهرت جماعات من الرجال المعممين على جانبي المضيق وراحوا يلوحون بأسلحة أوتوماتيكية مطالبين القوارب بالتوقف. وما كان أمام الشباب من خيار إلى أن يتجهوا بقواربهم إلى الضفة، وهنالك هدد المعممون بإحراق الحمولة كلها ما لم يقم الشباب بدفع فدية مالية خرافية. جمع الشباب الصغار ما معهم من نقود وساعات وخواتم، فلم يكن كل ذلك كافيا.
وأخيرا سمح المعممون للشباب بالاتصال بحيدرة على هاتفه المحمول، وكان حيدرة جالسا مع دياكيتي في مكتبها بباماكو، وبدأ التفاوض على فدية مخطوطاته الحبيبة.
حكت لي دياكيتي أنه «كما لو كان قد كتب لهم إيصال أمانة.بدا وكأن عبد القادر يدفع بالبطاقة الائتمانية». وبعد أيام قليلة، أرسل حيدرة المال إليهم. وقرب نهاية يناير، وبينما كان الإسلاميون المنسحبون يضرمون النار في معهد أحمد بابا الخاوي وبينما كان العمدة سيسي يعلن للعالم أن الوثائق ضاعت إلى الأبد، كانت آخر الخزائن قد وصلت إلى مستقرها الجديد.
يقدر حيدرة أن قرابة خمسة وتسعين في المائة من مخطوطات المدينة البالغ عددها ثلاثمائة ألف مخطوطة قد وصلت في أمان إلى باماكو.
عندما قمت بزيارة تمبوكتو في مارس الماضي، كان اللافتة التي كتب عليها من قبل «مرحبا بكم في تمبوكتو مدينة الشريعة» قد طليت بطلاء أسود لم يُبق منها إلا على كلمة تمبوكتو. رجعت المدينة من جديد إلى سيطرة الحكومة، وأقيمت نقاط التفتيش العسكرية في أنحاء المدينة فارضة حظر التجوال. وفي سوق المدينة المركزي، أعادت متاجر قليلة فتح أبوابها، وبات بوسعك شراء الخبز، أو شراء دجاجة حية من صبي يرتدي قميص فريق نيويورك لكرة السلة.
غير أن المدينة سوف تحتاج بعض الوقت قبل أن تسترد حالتها الطبيعية. فسيارات الجيش المالي الخضراء هي السيارات الوحيدة التي تجوب شوارع المدينة الرملية المفروشة بالشظايا والقمامة. والمطاعم والفنادق مغلقة، وصناعة السياحة متجمدة بالكامل. وفي أعقاب فيضان من العمليات العسكرية، لا يزال أغلب الذين تركوا المدينة أثناء الاحتلال عازفين عن الرجوع إليها.
والمخطوطات أيضا لن ترجع إلى تمبوكتو إلى أن يزداد الوضع استقرارا. وكان حيدرة حينما تقابلنا قد رفض أن يعرفني بأي من الشباب الذين تعاونوا معه في نقل المخطوطات خشية أن يتعرضوا للانتقام. وهو ودياكتي الوحيدان في مالي اللذان يعرفان بمكان المخطوطات الآن، ولن يكشفا عنه علنا. قال حيدرة إن «بعضا منها في باماكو، وبعضا منها في مناطق أخرى، لكنها جميعا في مالي، في وطنها».
تقول دياكيتي إن كثيرا من الوثائق يعاني التعفن أو يعاني حالة متدهورة بسبب الرحلات الطويلة التي قطعتها أو بسبب تغير المناخ بعد الانتقال من مناخ الشمال شديد الحرارة إلى مناخ الجنوب الأكثر برودة. ولقد استنفدت هي وحيدرة مدخراتهما الشخصية في عملية الإخلاء. فقاما معا بإنشاء منظمة غير ربحية تحمل اسم»تي 160 كيه» (في إشارة إلى الـ 160 ألف مخطوطة التي تم تهريبها من تمبوكتو في المرحلة الأولى من الإخلاء) ويقومان من خلالها حاليا بمحاولة جمع التمويل اللازم لنقل المخطوطات إلى خزائن منفردة تعزلها مناخيا. كما أن حيدرة أشرف على رقمنة قرابة ألفي مخطوطة، إضافة إلى رقمنة آلاف غيرها ضمن مشاريع صيانة أخرى، ولكن لا يزال الكثير للغاية عرضة للخطر بدون هذا النوع من الحماية. قال لي حيدرة»من يفقد مخطوطة فقد فقدها إلى الأبد. كل واحدة منها فريدة، كل واحدة منها لها قصتها. ولا يمكن تعويضها».
قرب نهاية لقائنا، سألني حيدرة إن كنت رأيت مخطوطة من قبل.فقلت له لا، بل مجرد مزق، فبدت عليه الدهشة، وتناول هاتفه المحمول. وبسيماء أب فخور بعرض صور أطفاله، مضى يعرض لي صور مجموعته السابقة المعبأة الآن في صناديق مخبأة. ولم تكن ابتسامته تتضاءل وهو يعرض الصورة تلو الصورة تلو الصورة.