نايل الشافعي مؤسس موسوعة المعرفة يكتب لـ (المعصرة) ما لم ترغب الرئاسة وأجهزة الدولة في سماعه.. ويسألكم هل تختارون لمصر مصير البرازيل أم مصير باراجواي?
حين تفتقد الشعوب وجود رؤية لمستقبل أفضل ومسارا لمشروع قومي تحققه، يبدأ الناس في البحث عن قصص نجاح الشعوب الأخرى للتعلم منها، ربما لذلك كان التعلم أحد دوافع الرئيس محمد مرسي لزيارة دول الصين والبرازيل والهند واليابان وجنوب أفريقيا وماليزيا أو الإلتقاء بقادتهم الحاليين أو السابقين، إلا أنه لم تظهر حتى الآن أية علامات على أن مصر بدأت برنامجاً لدراسة أو نقل أي خبرات من تلك البلدان. خصوصا تجربة البرازيل التي أعتقد أنها الأقرب لمصر من بين تلك الدول لثلاثة أسباب: أولاً: الوضع السياسي والاقتصادي قبل نهضتها، وثانياً: أن حقول بترول المياه العميقة التي تمتلكها البرازيل كما نمتلكها نحن والتي كانت القوة المحركة للحفاظ على تلك النهضة الحديثة وثالثاً: تحديات الحفاظ على الثروات الطبيعية.
لقد قاد لولا دا سيلڤا البرازيل لتصبح سابع أكبر اقتصاد في العالم، لأنه أدرك أهمية العثور على موارد تقوم بدعم سياساته الإجتماعية فتساعده على مشاريع العدالة الإجتماعية وسداد الديون وتعجيل التنمية، ولذلك فقد أعطى كل إهتمامه لإستكشافات البترول في المياه العميقة، وكانت النتيجة أن ذلك جلب للبرازيل دخلا إضافيا بلغ في نهاية رئاسته 146 مليار دولار، ولكي لا يقول أحد أن ذلك حدث له بالصدفة أو لأنه محظوظ يكفي أن تعرف أن دخل تلك الإستكشافات في بداية رئاسته في 2003 كان يبلغ 30 مليار دولار فقط، وكانت اكتشافات حوضي سانتوس وكامبوس في البرازيل هي أول اكتشافات ضخمة بالعالم على أعماق مائية تزيد على 2,000 متر، وقد قام بها الحفار «ستنا تاي» لصالح شركة شل. هذا الحفار نفسه انتقل في نوفمبر 2003 ليعمل في المياه المصرية شمال الدلتا في امتياز نيميد لصالح شركة شل، حيث اكتشف بئري KG-45 و LA-51 التي قدر مدير النتقيب العالمي لشركة شل، في فبراير 2004، أن احتياطيهما يفوق 3 تريليون قدم مكعب، أي يتجاوز احتياطي سانتوس وشمال كامبوس البرازيليين؛ وأن البئرين سيبدآ التصدير في 2007. فانظر أين أصبحت البرازيل الآن وأين أمست مصر!
الحفارات شبه الغاطسة لعمق مائي يتجاوز 2,000 متر هي مما يمكن أن نطلق عليه تعبير «التكنولوجيات المفركشة» Disruptive technologies التي تعيد ترتيب الأمم فترفع بعضها وتخسف الأخرى. ومن أمثلة هذه التقنيات المحرك البخاري الذي جعل من بريطانيا امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، والعجلة الحربية مع الهكسوس التي خسفت بالدولة المصرية الوسطى الأرض لمئتي عام، وهناك أيضا ماكينة جني القطن ومحرك الاحتراق الداخلي الذي أوجد سوقاً للنفط والكهرباء والبلاستيك والكمبيوتر والهندسة الوراثية. ولأهمية تلك التكنولوجيات فإنها لا تتوافر، وقت بزوغها، لكل من لديه المال لشرائها أو إيجارها، بل أن هناك ثمناً سياسياً لتلك التقنيات. ولكن من نعم المولى أن العقل البشري لا يكف عن التطوير، ومع كل تقنية مفركشة جديدة تبرز فرص لدول متأخرة في أن تفلت من حلقة الفقر والجهل الجهنمية.
نشأت البرازيل كبلد ذي إمكانيات ضخمة، إلا أنه وقع دوماً في ظل بلد آخر ذي إمكانيات هائلة، هو الولايات المتحدة، فحجبت الشجرة الأكبر ضوء الشمس (فرص النمو) عن الشجرة الأصغر- البرازيل- في أمثولة أمازونية لا يمل البرازيليون من ذكرها. فصار العمل على تبوء البرازيل (المظلومة بموقعها) مكانة لائقة بين الأمم هدفاً تتوارثه الأجيال. لذا شاهدنا طرازا فريداً من مواصلة البناء بين رؤساء البرازيل على اختلاف مشاربهم «عسكريين، متدينين، علمانيين، ليبراليين، اشتراكيين، منافسي أمريكا وأصدقائها»، فلا يلغي رئيس ما قام به أسلافه في التنمية. لقد بنى حكم العسكر في الستينات والسبعينات قطاعا عاما هائلاً وأكبر سد في العالم (إتايبو 1970)، ولكن الاقتصاد سرعان ما ترهل واحتاج الاستدانة من الخارج، فتراجع العسكر لثكناتهم، وجاء جوزيه سارني في الجمهورية الجديدة في الثمانينات وبدأ منافسة أمريكا في صناعة الطائرات والحواسب بسياسة حِمائية فاقمت الأزمة الاقتصادية. فانغمست البرازيل في الديون واحتاجت رئيساً يجيد التعامل مع المصارف الأمريكية. فتولى الرئاسة «على غفلة» كما يقول عنوان مذكراته، البروفسور فرناندو كاردوزو، أحد علماء الاجتماع البارزين في أشهر جامعات العالم، والذي كان ينادي بـ»نظرية التبعية للتنمية» القائلة بأن حظوظ الدول النامية أفضل في ظل تبعيتها للمعسكر الرأسمالي لأن ذلك يفتح لها خزائن التمويل للتنمية. كبح كاردوزو غول التضخم الهائل والانفاق الحكومي. وكنقطة للفخر الوطني، قاد كاردوزو استحواذ شركة إمبراير على شبه احتكار عالمي لصناعة الطائرات المتوسطة (20-70 راكب). وفيما بدا كمكافأة لتبعيته، كانت البرازيل أول دولة بالعالم (1999) بعد أمريكا في استخدام الحفارات على عمق مائي 2,000 متر. ودخل مفاوضات (دائماً مطولة) مع صندوق النقد الدولي وسار على ارشاداته سعياً لقرض 15.5 قيمته مليار دولار. ولم يـُوقع الاتفاق إلا في نهاية رئاسته، وقال الصندوق أنه لن يدفع حتى يطمئن إلى أن الرئيس التالي سيلتزم بسياسات كاردوزو. سياسات كاردوزو للتقشف والخصخصة تركت أثراً سيئا على الفقراء، الذين اختاروا الرئيس التالي واحدا منهم، لولا دا سيلڤا، في انتخابات 2002. مع تزايد المد الشعبوي في أمريكا الجنوبية بوصول هوجو تشافيز للحكم في فنزويلا (1999)،ظن الكثيرون أن «لولا» سيكون شعبوياً آخر يثور على سياسات سلفه البروفسور كاردوزو. إلا أن الأمر كان عكس ذلك، فقد كان أول ما فعله لولا هو تأكيد التزامه بسياسات كاردوزو، بل أضاف اجراءات تقشف طلبها الصندوق. وفي عهده زادت الاكتشافات النفطية (البحرية في الأساس) من دخل شركة پتروبراس الحكومية من 30 مليار دولار في عام 2002 إلى نحو 60 مليار في 2006، في حين كان إجمالي صادرات البرازيل في 2006 كان 105 مليار دولار. استغل لولا الدخل النفطي في سداد قرض صندوق النقد الدولي في 2005 قبل عامين من تاريخ استحقاقه. وأطلق ثمانية برامج للعدالة الاجتماعية: معونة اجتماعية، مصروف المدرسة، مصروف الغاز (15 دولار كل شهرين)، مصروف الطعام، مصروف الأسرة، المصروف الأخضر، القضاء على الجوع، برازيل بدون فقر،. نجحت تلك البرامج في تحقيق شعبية هائلة للرئيس لولا، إلا أن برنامج خفض النفقات الذي فرضه صندوق النقد أعاق خلق وظائف جديدة، فكان ذلك سببا في أكبر انتقاد تم توجيهه ضد لولا في انتخابات 2006 للفترة الثانية فلم يكسب سوى 48% من أصوات الجولة الأولى.
لاحظ «لولا» توقف الاكتشافات النفطية الجديدة، فقرر تصنيع حفارات بحرية محلية. وفي 2006 افتتح الحفار بي-52 الذي سرعان ما اكتشف أكبر حقل نفطي بنصف الكرة الغربي، فكافأه الشعب بإطلاق اسمه عليه. وتسارعت وتيرة التنقيب البحري حتى وصل دخل پتروبراس في 2010 إلى 146 مليار دولار، مقارنة بدخل 30 مليار دولار في عام توليه الرئاسة في 2002. ولاستغلال هذا الدخل لأقصى حد في خلق فرص عمالة، جمع «لولا»، بالتعاون مع الرئيس السابق كاردوزو في 2007، سبعة من الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد، وطرح عليهم السؤال «كيف تصبح البرازيل صيناً أخرى؟» وكان هناك شبه اجماع على تعظيم القيمة المضافة في الاقتصاد المحلي – أي التصنيع. ولذلك فبدلاً من تصدير النفط خاماً، استغل النفط والغاز في تنمية صناعات البلد.فجعل البرازيل المنتج رقم7 للكيماويات في العالم ورقم6 لمستحضرات التجميل ورقم 8 للصلب ورقم 10 للسيارات.
ولتنمية الصادرات اتجه «لولا» لتوطيد التعاون من خلال إنشاء تجمعات مركوسور (لأمريكا الجنوبية) وتجمع البريكس (خمس دول يتراوح الناتج الإجمالي لكل منها بين 400 مليار إلى 8.2 تريليون دولار)، كما يعود إليه فضل اطلاق مؤتمرات القمة العربية اللاتينية. فساعدت تلك الجهود في مضاعفة صادرات البرازيل في فترة رئاسة لولا الثانية من 105 إلى 199 مليار دولار. واستغل «لولا» الدخل الهائل من النفط في رئاسته الثانية في اطلاق «برنامج تعجيل النمو» (2007-2010)، بانفاق 110 مليار دولار سنوياً، 75 مليار منهم من شركة النفط پتروبراس والباقي من سندات. تضمن البرنامج انفاق 140 مليار دولار في مشروع «الكهرباء للجميع» و 80 مليار لمشروع «مسكن للجميع» و 30 مليار لشبكة المواصلات، وأول بند فيها كان إنشاء ست حفارات مياه عميقة، ومنها شراء الحفار المتقاعد «ستنا تاي» ـ أي قدم السعد ـ وإعادة تأهيله وتطوير مكامن البترول والغاز. وبسبب النجاح الساحق لهذا البرنامج الذي كانت تشرف عليه كبيرة مساعديه ديلما روسف، الرئيس الحالية، فقد قررت روسيف فور انتخابها في 2011 اطلاق المرحلة الثانية من البرنامج.
إذا لم تكن برازيلياً نهشتك الضباع؟
بالطبع، الإكتشافات البترولية لم تخلُ من المنازعات مع الجيران. فسرعان ما نشبت نزاعات بين شركة شل وشركة النفط الوطنية، جف بعدها سيل اكتشافات شل بالبرازيل. مما دفع البرازيل للإسراع بتصنيع وشراء حفارات. كما وجد لولا نفسه في نزاعات نفطية مع كل من بوليفيا واوروجواي، ولكن كان ماثلاً أمام ناظريه مثال جارته باراجواي التي ظهرت فيها الثروات الطبيعية في القرن التاسع عشر، ولم يكن حكامها باليقظة الكافية لحماية ثروات البلد. فتكالب جيرانها في نهش أطراف البلد في حرب باراجواي (1864-1870) التي لم تنتهي حتى اقتضموا منها أكثر من نصف مساحتها وقتلوا 65% من رجالها. وبعد أن كانت مطمعاً لثرائها، فإن متوسط دخل الفرد فيها اليوم لا يتعدى ربع أفقر جيرانها. لذا فقد تحلى الرئيس «لولا» برباطة جأش وحزم كي لا يستأسد عليه جيرانه وشركات البترول الأجنبية المتعاونة مع الشركة الوطنية في كافة المناطق.فأمّن بذلك التمويل المطلوب لنهضة البلد.
للأسف اليوم، أرى مصر تلهث ذات اليمين وذات الشمال للإفلات من مأزق اقتصادي خانق، وفي ذات الوقت بدأت إسرائيل وقبرص في ضخ الغاز من حقول ستدر عليهما نحو 20 مليار دولار سنوياً وتلك الحقول على بعد مجرد كيلومترين إثنين من مياهنا. يبدو كما لو أننا فرضنا على أنفسنا منطقة منزوعة التنقيب داخل مياهنا! إن تطوير مكامن شمال دمياط كفيلة بانتاج غاز لا يقل عن 10 مليار دولار سنوياً. ففيم نضيع جهدنا بعيداً عنها؟. مع تواصل الأنباء عن تطوير إسرائيل وقبرص لحقولهم، يتصل بي المئات مستفسرين عما حدث في قضية غاز شمال دمياط التي أثرتها في الصحافة ووسائل الإعلام العام الماضي؟، فأقول لهم حزينا أنني عدت لمصر بناء على طلب من وزير البترول لحضور نقاش حول القضية، فإذا بي أفاجأ بمسئولين يصرحون، على قلب رجل واحد، بأن الخريطة «الوحيدة المعتمدة» لديهم هي خريطة وزارة البنية التحتية الإسرائيلية. ومع احترامي لاتفاقية السلام، فلا يجوز في خلاف تجاري أن نأخذ ببيانات الطرف الآخر. ويردف السائلون: هل مازال هناك أمل لغاز دمياط في إقالة مصر من عثرتها؟، فأرد دوماً أن الفرص مازالت قائمة ولكنها تحتاج لعزم صادق. ويتساءل آخرون هل يعني ذلك صداماً مع أي من الجيران؟ وأرد بالنفي القاطع. ثم يأتي تهافت شركات البترول على التنقيب في مياه قبرص وإسرائيل وإحجام الشركات عن التقدم لمزاد مصر للبلوكات الملاصقة للقبرصية حتى بعد تمديده. بل وانسحاب الموجود منها بالفعل في مصر (براً وبحراً). فتزداد حيرة المواطنين عن سبب تقاعسنا.
السؤال هو: هل نريد أن نكون برازيل أم باراجواي؟
أرجو أن يصل مقالي هذا للرئيس محمد مرسي والفريق أول عبد الفتاح السيسي ومدير المخابرات العامة رأفت شحاتة الذين لم يردوا على كل محاولاتي للتواصل معهم بشأن قضية غاز شمال دمياط. ولا أحد غيرهم، داخل مصر، بيده الحل والربط في هذا الأمر.
Shafei@marefa.org
(للراغبين في الإستزادة: موسوعة المعرفة تضم نحو 30 مقال عن جميع الأشخاص والبرامج والسياسات المذكورة في هذه المقالة
www.marefa.org