بعض الناس ينظرون إلى السياسيين كأمراض مستعصية، ولذلك ينصحونك بمنتهى الإخلاص أن تختار بين فيروس «سي» وفيروس «بي» أيهما ألطف ويمكن أن تعيش بيه، ويستغربون بشدة إذا رفضت الفيروسات جميعها؛ لأن مصر في أسوأ الأحوال بحاجة إلى فيتامينات وليس للمزيد من الفيروسات، وسيذعرون إذا هتفت في وجوههم: ما أنزل الله من داء إلا وله دواء فتداووا وابحثوا عن سياسيين يتحلون بتواريخ مشرفة، وذمم لم تكن واسعة قط، وعقول لن تكون ضيقة، وبطون لم تتغذ بالمال المشبوه، وأقدام لم يسبق لها التردد على مكاتب ضباط أمن الدولة لشرب القهوة وطلب المشورة.
قابلني قارئ متحمس وقال لي: «أظن لازم تعتذر لأيمن نور عشان اعترف بأخطائه قبل حتى ما يقرا نقدك ليه». قلت له: «قرأت مثلك ما وصف بأنه اعترافات أيمن نور، وضحكت كثيرًا لأنه اعترف على طريقة الفنانات اللواتي يسألونهن في برامج التلفزيون إيه عيوبك فتقول بتأثر بالغ: «عيوبي الصدق وإني باحب الناس أوي». أيمن نور يقول إنه اكتشف في السجن أن القرارات التي اتخذها بصدق وتجرد قليلة جدًّا، وهذا في حد ذاته تصريح غير مسبوق ويجب تحيته، ولأني لست جهة تحقيق أو متلقي اعترافات أو خاليًا من الخطايا فإنني لن أسأله عما إذا كان يعتقد فعلًا أن هذه هي خطيئته التي تستحق الاعتراف، بل سأسأله هل تستطيع امتلاك شجاعة الزعيم الذي تحبه سعد زغلول في الاعتراف بخطاياك السياسية لكي تفضح للناس خبايا الحياة الحزبية في عهد مبارك، التي تُصنع في مكاتب أمن الدولة، وأعدك أنك لو فعلت بكل تجرد ستكسب احترام الكثيرين وأنا أولهم».
اكتشفت أنني لم أكن أكلم نفسي عندما صرخ القارئ الكريم في وجهي: «إنت إيه يا أخي.. ماحدش عاجبك في البلد دي!». وفوجئ بي أسأله: «إنت فاضي ثلاث ساعات؟». سألني: «إيه الفكرة؟». قلت: «لكي نقعد على القهوة وتدعني أشنف أذنيك بأسماء الشرفاء الأحرار الوطنيين النضاف الجدعان والجمالات الذين يعجبونني في البلد». وعندما رأيت في عينيه القلق من أنني لاسع ويمكن أن أفعلها وأضيع وقته، قلت له: «يا صديقي لا تدعهم يكذبون عليك ويقولون لك إن السياسي لا بد أن يكون ملعوبًا في تاريخه، فمصر التي يخيرونها الآن بين المرض المستوطن والمرض الحنين شهدت وتشهد وستظل تشهد سياسيين عظماء لم يمسك عليهم أحد زَلّة ولم يتلوث تاريخهم قط».
قال لي بحيرة: «طب إحنا نعمل إيه يعني؟ هو إحنا كنا لقينا حد عِدِل وقلنا لأ؟». بكل برود قلت له: «سأقول لك تشبيهًا بعيدًا جدًّا عن الموضوع، أو هكذا يجب أن أصفه، عندما تبحث عن حذاء جديد أليس من المنطقي أن تبحث عن حذاء على مقاسك ليريحك في اللبس؟». هزَّ رأسه موافقًا، فقلت: «افرض مثلًا مثلًا يعني أنك لم تجد حذاء في السوق على مقاسك، هل تضطر للبس حذاء يعكنن عليك عيشتك أم تلجأ لتفصيل حذاء عمولة يُحقق أحلامك في حياة مريحة تبدأ من القدمين؟». هزَّ رأسه ولسان حاله يقول: «اخلص». فقلت له: «لماذا إذن توافق على أن تلبس رئيسًا حكوميًّا أو معارضًا أصغر بكثير من مقاس هذه البلاد، لماذا لا تبذل كل مجهودك من أجل اختيار رئيس كبير على مقاس هذه البلاد الكبيرة؟!». صمت قليلًا ثم قال لي: «طب وليه ماخُدش ريس ضيق شوية وأستنى لغاية ما يوسع في الحكم». ضحكنا من أعماقنا وقبل أن يقلب الضحك بجد، قلت له: «لو وجدت لي رئيسًا في التاريخ وسّع الحكم مداركه وعقله وأفقه سأفكر، وحتى يحدث ذلك سأظل أحلم لمصر بما هو الأفضل، ولن أرضى بالرئيس المتاح، أو الرئيس النصيب، أو الرئيس الأهو اللي موجود، أو الرئيس الأحسن من غيره، أو الرئيس اللي لحد ربنا ما يفرجها، فقد عانت مصر الويلات من هؤلاء، وإذا لم يكن يتصدر الساحة الآن أحد على مقاس هذه البلاد فمن واجبنا أن نزيحهم جميعًا ونأتي لمصر بسياسيين تستحقهم ويستحقونها». هز رأسه ففرحت باقتناعه بوجهة نظري، قبل أن يتضح أنني كنت أكلم نفسي طيلة الوقت عندما سألني: «طب بذمتك مش فلان أحسن من فلان؟». ولم أجد ردًّا عليه أبلغ من الفولكلور الشعبي الذي يمكن نشره فقط على الطريقة التالية: «لا خيرةَ في الـ... خيار». وأكمل النقط أنت بمعرفتك.
(لا أدري إذا كان من المضحك أم من المحزن أم من الإثنين معا أن أخبرك أنني نشرت هذه المقالة من قبل في صحيفة المصري اليوم في شهر فبراير 2009 وستجد نصها في كتابي (أليس الصبح بقريب).