هناك كُتّاب تُحِبهم من أول نظرة، وهناك كُتّاب يأتي حُبُّهم بالعِشرة والتفاهم، وهناك كتاب يأتيك حبهم فجأة في ظروف غامضة، بعد أن تكون قد أعلنت كراهيتك لهم على الملأ. الكاتب التركي العظيم أورهان باموق كان من النوع الأخير بالنسبة لي، فقد كنت كارها عتيدا له، لدرجة أنني تورطت بخفة في مهاجمته فور حصوله على جائزة نوبل للآدابلم أكن قد قرأت له سوى روايتين فقط، الأولى وجدتها لا بأس بها هي رواية (الحياة الجديدة) التي اكتشفت فيما بعد أن مشكلتي معها كانت في رداءة الترجمة التي لم تكن عن التركية مباشرة بل كانت عن الفرنسية (قرأت فيما بعد ترجمتين متميزتين لها عن التركية مباشرة إحداهما لبكر صدقي والأخرى لمترجمي المفضل عن التركية عبد القادر عبد اللي) أما الرواية الثانية فقد فشلت في إكمال قراءتها لأول مرة ربما بسبب إنطباعي السلبي الذي تكوّن لديّ من التجربة السابقة، لكن الأيام دارت فيما بعد وعندما أعدت إكتشاف أورهان باموق أصبحت واحدة من أجمل الروايات على الإطلاق بالنسبة لي، أتحدث عن رواية (إسمي أحمر) التي كانت من أهم أسباب حصول باموق على جائزة نوبل، والتي وجدت أن ظاهرة كراهيتها في المرة الأولى للقراءة ثم حبها بعد ذلك أمر شائع بين أصدقائي من عشاق فن الرواية.
أدين بالفضل في إعادة إكتشافي لأورهان باموق إلى بروفيسور أمريكي متخصص في العمارة، ركبت معه ذات يوم عبّارة متجهة من إسطنبول إلى جزر الأميرات (في مواضع متفرقة من كتابتي ستدرك كم أدين بالعرفان لفضيلة الرغي مع من تجمعني بهم الظروف في مناكب الأرض) يومها بدأ حديثي مع البروفيسور الأمريكي عن موضوع كتابه الذي يبحث فيه فن عمارة المساجد في تركيا، ثم إمتد إلى الحديث عن رأيه في رواية (إسمي أحمر) التي كان يحمل نسخة منها، وعندما قال لي أنها ألهمته الكثير في موضوع كتابه ولذلك يقرأها للمرة الرابعة، استفزني الرقم فقلت له أنني بصراحة لم أكمل قراءتها، وبدأت أحدثه عن الكتاب الروائيين التركيين الذين أحبهم أكثر مثل يشار كمال وعزيز نيسين وفقير بايقورت ناصحا إياه أن يقرأ لهم لأنهم سيعطوه صورة أكثر صدقا وأقل سياحية عن تركيا وشعبها، قال لي «قرأت بعض ما كتبوه وأحببته لكن صدقني أورهان باموق مختلف»، قررت أن أتحفه بنظريتي في أن الخواجات يحبون باموق لأنه يكتب خصيصا لهم، فقال لي ضاحكا «لماذا إذن نحب نجيب محفوظ، هل كان يكتب لنا خصيصا»، واتضح أن الرجل مغرم بنجيب محفوظ أيضا، وربما لذلك قررت أن أتوقف عن الرغي وأستمع إليه وهو يقول «لكل روائي مفتاح تدخل به إلى عالمه الروائي، ويختلف هذا المفتاح من قارئ لآخر، فبعض القراء لم يفلحوا في قراءة «يوليسس» لجيمس جويس إلا بعد أن أحبوا مجموعته القصصية «أهالي دبلن»، والبعض لم يفعل إلا بعد أن قرأ «صورة الفنان في شبابه»، والبعض الآخر لم يجد له مفتاحا حتى الآن، وأنا من هؤلاء»، ضحكت وأنا أقول له أنني بعد أن انكسر المفتاح في قفل «يوليسس» أو «عوليس» كما نسميها، قررت أن الحياة يمكن أن تستمر بدونها هي وجيمس جويس أيضا، قال لي «ستستمر الحياة على أي حال، لكن إذا كنت تريد مفتاحا لأورهان باموق، فعليك بكتابه عن إستانبول، صدقني بعد أن تقرأه ستفهم عالمه الروائي جيدا وأثق أنك ستغير رأيك فيه، هذا على الأقل ما حدث لي».
لم آخذ الحديث يومها بجدية، ولذلك لم أحرص على تبادل العناوين مع الرجل، لكنني لو فعلت لكنت قد شكرته من كل قلبي، لأنني بعد أن بدأت قراءة كتاب (إسطنبول الذكريات والمدينة) الذي ترجمه عبد القادر عبد اللي وأصدرته دار المدى العراقية، تحولت من قراءته على مضض إلى الإفتتان الشديد به، فقد زادني حبا في إسطنبول التي لم أكن أحبها كغيرها من المدن التركية الأصغر حجما والأقل كثافة سكنية، وجدت باموق في كتابه يقدم إحالات رائعة إلى رواياته التي كتب فيها عن مدينته الأحب إلى قلبه إسطنبول، فشجعني ذلك على إعادة قراءته، ولحسن الحظ بدأت صدفة بروايته الرائعة (ثلج) التي صدرت عن منشورات الجمل والتي ستجد فيها صدى واقعنا المترنح بين كراهية الناس لنتائج الديمقراطية وحنينهم إلى العسكر وخوفهم من سيطرة النزعات الفاشية على حياتهم لتفسدها إلى الأبد، قررت بعدها قراءة أعماله بالترتيب، ولكي لا أكرر خطئي في السابق، أكتفي بأن أقول أنك قد تحبها كلها وقد تحب بعضها مثلما أحببت له (ثلج) و (إسمي أحمر) و(الكتاب الأسود) و(ألوان أخرى) و (إسطنبول الذكريات والمدينة)، وسيكون لنا قريبا حديث عن تجربة أدبية قدمها في روايته الأخيرة (متحف البراءة).
الأسبوع الماضي تذكرت واحدة من أجمل روايات باموق وهي رواية (الكتاب الأسود) عندما طلبت مني مجلة ثقافية أن أكتب شهادة عن تجربتي على مدى سنوات في كتابة العمود اليومي تتضمن نصائح أسديها لمن يفكر في خوض تجربة كتابة العمود اليومي، فذكرني ذلك برواية باموق التي يحكي فيها عن كاتب عمود يومي في صحيفة تركية واسعة الإنتشار، كان يعاني بشدة من معاملة الناس له بصفته ليس شخصا عاديا بل الرجل الذي يعرف كل شيئ لأنه يكتب عمودا يوميا، كان يرغب في أن يصرخ في وجوه الناس «لا يعني أنني أكتب عمود أنني أعرف كل شيئ»، لعلهم يتجنبون سؤاله عن كل شيئ كأنه يمتلك إجابة عليه، لكنه كان يجبن عن ذلك فيصمت ويستسلم لقدره الذي يجعل الحلاق يسأله أسئلة تتراوح بين «إذا اندلعت الحرب فهل يمكننا التغلب على اليونان؟»، «هل صحيح أن زوجة رئيس الحكومة عاهرة؟»، «هل الفكهانية هم سبب الغلاء؟»، وهي أسئلة يقول السيد جلال عنها «قوة مجهولة لم أستطيع بأي شكل معرفة مصدرها لا تسمح لي بالإجابة عن هذه الأسئلة، ويتمتم مكاني كاتب العمود الذي في المرآة والذي أنظر إليه أنا أيضا مندهشا «السلام أمر جيد»، «يجب معرفة أن إعدام الناس لا يخفض الأسعار». أنا أكره كاتب العمود هذا الذي يعتقد أنه يعرف كل شيئ، ويعرف حين لا يعرف أنه لا يعرف، وتعلم بسذاجة التسامح بزوائده ونواقصه، وكنت أكره أيضا الحلاق الذي يجعلني بكل سؤال من أسئلته السيد جلال كاتب العمود، وبدلا من أن ينفجر في الحلاق يكلم نفسه قائلا له في سره «نعم أيها السيد الحلاق، إنهم لا يسمحون للإنسان بأي شكل بأن يكون نفسه، لا يدعون الإنسان أن يكون نفسه، لا يدعونه في أي وقت». لقد كان السيد جلال يعيش دور السيد كاتب العمود بين الناس بينما كل ما يتمناه بداخله أن يبقى وحده بعد يوم طويل حتى المساء جالسا على أريكة مستمتعا بكينونته نفسه، كأنه مسافر عاد إلى بيته بعد سفر طويل مليئ بالمغامرات طال سنوات.
في أجمل فصول الرواية يحكي باموق عن لقاء يحدث بمحض الصدفة بين جلال وثلاثة من كتاب الأعمدة الذين حققوا نجاحا أسطوريا في الصحافة التركية، كان كل منهم قد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، وكان يجمعهم تاريخ طويل من العداء على صفحات الصحف، حيث سبق أن اتهموا بعضهم والكتاب الآخرين بكل شيئ بدءا من الإلحاد إلى اللوطية إلى الشيوعية إلى الأمركة إلى الردة بل وحتى الوجودية. في يوم لقائه بهم كانت الأضواء قد انحسرت عنهم وقتها، بينما كان هو مقروءا أكثر ويتلقى رسائل أكثر من القراء، وكما يقول هو «وطبعا كنت أكتب أفضل منهم»، يومها قرر الكتاب الثلاثة أن يوجهوا له نصائح ينبغي عليه أن يستفيد منها في كتابة العمود، وقد قام بتدوين نصائحهم على هامش مجلة ذهب سريعا ليحضرها لعله يستفيد من هذه النصائح في تطوير كتابته. عندما تقرأ النصائح التي أسداها الكتاب الثلاثة الذين اختار باموق لكل منهم إسم سلطان من سلاطين تركيا كإسم مستعار، تدرك أنها كانت حيلة روائية ذكية لتلخيص مزاج المواطن التركي المتقلب خلال فترة شديدة التقلب والخطورة في تاريخ تركيا الحديث، ولعلك عندما تقرأ تلك النصائح تجد تشابها كبيرا بين ذلك المزاج وما نعيشه نحن أو هكذا ظننت ولا أدري إذا كنت ستوافقني الظن أم لا.
جاء في نصائح الكتاب الثلاثة الأكثر خبرة للسيد جلال كاتب العمود ما يأتي: «ـ الكتابة من أجل متعة القراءة فقط تترك الكاتب في بحر مفتوح بدون بوصلة. كاتب العمود ليس الحكيم إيسوب وليس مولانا الرومي، العبرة تستخلص دائما من القصة، ولا تستنتج القصة من العبرة. ـ لا تكتب بحسب ذكاء القارئ بل بحسب ذكائك. الحكاية بوصلة (استطراد واضح للنصيحة رقم 1) ـ اقتني كتب الأمثال والمقولات والطُرَف والأشعار والعبر. ـ عليك ألا تبحث عن العبرة كي تُتَوِّج بها كتابتك بعد أن تكتبها، بل بعد أن تجد العبرة اختر الموضوع الذي ستدرجه تحتها. ـ لا تجلس إلى طاولة الكتابة قبل أن تجد جملتك الأولى. ـ إبدأ الكتابة عن الميت بتمني الرحمة ولا تُنهِها بتحقيره. ـ لتكن لك عقيدة صادقة. ـ إذا لم تكن لك عقيدة صادقة اجعل قارئك يؤمن بأن هناك عقيدة صادقة لك. ـ ما ندعوه القارئ هو طفل يريد الذهاب إلى محل الحلويات. ـ القارئ لا يعفو عمن يشتم محمدا، والله يُشِلُّه. ـ أحبّ الأولاد يُحبُّك القراء. ـ القارئ يعاني من تكاليف الحياة، ذكاؤه العمري في الثانية عشرة، متزوج، أب له أربعة أولاد، رب اسرة طيب. ـ القارئ ناكر للجميل كقط. ـ القط حيوان ذكي وغير ناكر للجميل، يعرف أنه لا يمكن الوثوق بالكتاب الذين يحبون الكلاب. ـ اهتم بمسائل البلاد وليس بالقطط والكلاب. ـ إعرف عناوين القنصليات. ـ ادخل في السجالات الكتابية ولكن عندما يمكنك إيلام خصمك. ـ ادخل في السجالات الكتابية عندما تستطيع جذب صاحب الجريدة إلى جانبك ـ رد على رسائل القراء، وإذا لم يكن هناك من يرسل رسالة فاكتبها أنت ورد عليها. ـ لا تنس أن شهر زاد ملهمتنا وأستاذتنا، وأنك تدس حكاية من خمس إلى عشر صفحات بين الأحداث المدعوة حياة. ـ اقرأ قليلا ولكن بحب فتبدو أنك أكثر قراءة من الذي يقرأ كثيرا بملل. ـ كن متحفزا واعرف الآخر ولتكن لك ذكراك فعندما يموت الرجل تكتب عنه. ـ احذر من هذه الجمل ما استطعت: «مهنتنا فيها إنكار للجميل ومقالاتنا تنسى بعد يومين. كيف تمر السنوات ـ لو كان المرحوم حيا ماذا سيقول عن هذه السفالة؟ ـ هكذا يعملون هذا في أوروبا ـ كان ثمن الخبز أو كذا قبل سنة بكذا ـ بعد ذلك ذكرتني هذه الحادثة بكذا». ـ كل ما هو فني في العمود ليس منه، وكل مافي العمود ليس من الفن. ـ إذا كتبت بصعوبة تصاب بالقرحة. وإذا أصبت بالقرحة تصبح فنانا. ـ عليك أن تصير عجوزا في أقرب وقت. صر عجوزا لتكتب مقالة خريف جميلة. الأسس الكبرى الثلاثة هي بالطبع: الموت، العشق، الموسيقى. ولكن يجب أتخاذ قرار في البداية حول ماهو العشق. ابحث عن العشق. العشق بحث. خبئ الحب لأنك كاتب. اختبئ ليحكموا أن وراءك سر. ـ أشعر الآخرين بأنك صاحب سر لكي تحبك النساء. ـ اخرج إلى الشوارع وانظر إلى الوجوه، هذا موضوع. ـ أشعر الآخرين بأن هناك أسرارا تاريخية، ولكنك مع الأسف لا تكتبها. ـ لا تنس أن العالم كله عدونا. ـ هؤلاء قوم يحب باشااواته وطفولته وأمهاته كثيرا، أنت أيضا أحبها ـ لا تستخدم قواعد الكتابة لأنها تقتل أسرارها. ـ لا تنس أنك شيطان وملاك ودجال لأن القراء يملون من الطيب تماما والسيئ تماما. ـ عندما يفهم القارئ أن الدجال يبدو مثله وينتبه مرتعدا أن الذي ظنه مخلصا هو دجال، وأنه مخدوع، فإنه والله يطلق عليك النار في زقاق مظلم. نعم لهذا عليك أن تخفي السر، واحذر من بيع سرك المهني. سرك هو العشق لا تنس هذا، والعشق كلمة مفتاحية، لا تخف من الإنتحال لأن السر كله في شح قراءتنا وكتابتنا مخفي في مرآة تصوفنا. ـ عندما تتتقدم في السن يوما ما، وتسأل عما إذا أمكن للإنسان أن يكون نفسه، ستسأل نفسك عما إذا فهمت ذلك السر. ـ لا تنس أن عدم الفاهمين بقدر الفاهمين والصابرين على الحافلات القديمة والكتب غير المنتظمة.
كانت هذه نصائح الكتاب الثلاثة للسيد جلال كاتب العمود كما نقلها أورهان باموق مختبئا خلفهم، ولا أدري إذا كنت ستستفيد منها إذا حكمت الظروف عليك أن تكون يوما ما كاتبا لعمود يومي، لكنك إذا سألتني عن نصائحي أنا باعتباري تورطت في تجربة كتابة العمود اليومي منذ عام 2007 في صحف (الدستور) ثم (المصري اليوم) ثم (التحرير) ثم (الشروق)، فنصيحتي الوحيدة لك أن تقرأ نصائح هؤلاء الكتاب الثلاثة التي نقلها أورهان باموق وأن تفكر فيها جيدا، فأغلبها حقيقي جدا وصادق جدا للأسف الشديد، وإذا لم تدفعك هذه النصائح للتراجع بعد ذلك وظللت مصمما على إقتراف كتابة العمود اليومي، فنصيحتي لك أن تنسى تلك النصائح كلها كأنك لم تقرأها أبدا، وتبدأ في الكتابة كأنك تعيش أبدا، وتستمر في القراءة كأنك ستموت غدا.