المشهد الأول:
في المدخل الرخامي للمبنى الأبيض الأنيق المشيد فوق هضبة المقطم، وقف رجلٌ فارع الطول، مهيب الطلة، عملاق البنيان، صامتاً وكأن أبو الهول قد عاد للحياة..
في الحقيقة، لقد عاد هذا الرجل بالفعل إلى الحياة ولكن لفترة قصيرة. فهو يعتقد أنه قادرٌ على تصحيح مسار شيء تركه في الدنيا قبل أن يرحل فجأة ذات ليلة باردة!
سأله موظف الاستقبال بأدبٍ جم: هو حضرتك مين؟
أجاب الرجل المهيب بلغةٍ عربية سليمة بها بعض الألفاظ العامية، التي تضفي رونقاً على حديثه: ستعرف لاحقاً يا أخينا.. من فضلك أخبر الأخ الفاضل المرشد أنني أريد مقابلته لأمرٍ هام لا يحتمل الانتظار أو التأجيل..
الموظف: ولكن فضيلة المرشد مشغول جداً و..
قاطعه بحدة: لقد قلت لك لا يحتمل التأجيل أو الانتظار.
ارتبك الموظف واضطرب، وبدأ في مسح قطرات عرقه البارد. رفع السماعة وتمتم بكلمات لم يسمعها صاحب الطلة المهيبة، ثم قال له: اتفضل حضرتك من هنا..
المشهد الثاني:
في مكتب المرشد شاشةٌ صغيرة موصلة بعدد من الكاميرات في المبنى، منها الكاميرا المثبتة خلف النقوش الإسلامية التي تزين سقف المدخل.
شاهد المرشد صورة الرجل في الشاشة، فارتفع حاجباه من الدهشة، وسبح الله كثيراً على هذا التطابق المدهش!
فور أن دخل عليه سكرتيره الخاص، يطلب منه الإذن كي يدخل صاحب الطلة المهيبة، سارع المرشد بالموافقة والطلب بألا يزعجه أحدٌ بمن فيهم الرئيس الجديد.
دخل الرجل المهيب مكتب المرشد، ووقف يتأمل أركان الغرفة بخليطٍ من الامتعاض وعدم الاكتراث. سارع المرشد إليه مرحباً، سائلاً عن اسمه الكريم..
«بقى مش عارفني فضيلتك..؟!” هكذا قال الرجل باقتضاب للمرشد الذي أبلغه بأدب أنه في الحقيقة لا يعرفه وإنما يحترمه لشبهه الشديد بالإمام الشهيد.
«أيوة أنا هو.. أمهلني الله بضع ساعات كي أجتمع بكم وأنقذكم من بذرةٍ خبيثة تريد بكم السوء.”
بدت الجملة كأنها طلقة استقرت في عقل المرشد، وأصابته بوجلٍ شديد.
انهار الرجل على مقعده وسأل الإمام: طيب هو مين يا مولانا؟
الإمام: مش مهم هو مين، المهم أجمع أعضاء المكتب بسرعة، فوقتي محدود ويجب أن أعود من حيث أتيت قبل صلاة الفجر.
رفع المرشد سماعة هاتفه الأسود الأنيق وقال لسكرتيره: من فضلك اتصل بالأخوة الأفاضل (وتوقف عند هذه الكلمات التي نطقها ببطء) وأخبرهم إننا عايزين مقرأة الليلة..
ثم أغلق السماعة بهدوء شديد.
نظر له الإمام بغضب: لقد قلت لك أنني لا أملك الكثير من الوقت..
المرشد: يا مولانا أنت أكثرنا علماً بأنه لا أمان لآلةٍ تسري فيها الكهرباء!
المشهد الثالث:
تلقى كل رجلٍ فيهم الرسالة النصية أو المكالمة من سكرتير المرشد بنفس التعبير. الصمت لدقيقة وقراءة الرسالة مرة أخرى، أو الطلب من السكرتير أن يكرر الرسالة ببطء. الاعتذار من أي ارتباط والتوجه فوراً إلى المبنى الأبيض الأنيق بالمقطم.
اجتمع الرجال في غرفة الاجتماعات التي صممت كي لا تضم سوى طاولة بيضاوية سوداء ومقاعد فحصت بدقة كي لا تحتوي على أي جهازٍ صغير يعمل عن بعد!
الشعور الدائم بالملاحقات الأمنية والضربات الوقائية من قبل الحكومات المتعاقبة منذ حقبة مولانا الملك، جعلت قمة الهرم التنظيمي تفضل الاجتماع في غرفة تخلو حتى من نافذة صغيرة تطل على الشارع وتحمل ضوضائه إليهم.
كان الرجل المهيب آخر من انضم إليهم. صمتوا جميعاً عندما دخل وانتاب بعضهم شعورٌ غامض بأن هذا القادم من المجهول سيرحل مصحوباً بضجةٍ صاخبة!
«مين دة؟» كان هذا هو التساؤل الذي ألقاه بسخرية أحد الأعضاء النافذين في وجه المرشد.
المرشد: دة الإمام الشهيد..
رد العضو النافذ الذي يوصف بأنه خزانة غضبٍ مكتوم تمشي على قدمين: أنت حتهزر والا شكلك كبرت يا مولانا..
«اخرس واسمع ما سوف أقول.” بغضب وحسم، ألقى الرجل المهيب الجملة وهو ينظر في عيني «خزنة الأموال» الغاضبة. تابع وهو يجز على أسنانه: لم أنشئ هذه الجماعة كي تكون أداة من أدواتك في بناء امبراطورية ترضي طموحك في الهيمنة والسيطرة.
خزنة الأموال بغضب وصوت مرتفع: اسمع يا ممثل درجة عاشرة.. مفيش ميتين بيصحوا من الموت علشان يدوا مواعظ لأهم ناس في البلد. اطلع برة قبل ما أخليك..
قبل أن يكمل جملته، صرخ أحد الأعضاء في فزع: مولانا أنت بتنزف؟
“الرصاصات اللي دخلت في فبراير لا تزال باقيةً معي، تذكرني بأن ما كنت أظنه خيراً، خرج منه ما تسبب في مقتلي.” ثم تمتم بصوتٍ خفيض: ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين..
“لا يوجد لدي الكثير من الوقت كي أمضيه معكم. فقد جئت إليكم كي أحذركم من أن جمرةً خبيثة تريد بكم السوء. هذه الجمرة ليست من الخارج. احذروا أن تستجيبوا له. (وأشار إلى خزنة الأموال الذي ظل صامتاً كتنينٍ يريد نفث نيرانه) فإن استعجال التمكين، فيه هلاككم.”
سار الرجل المهيب نحو باب الغرفة ببطء قبل أن يسمع من خلفه صوت انفجارٍ صاخب، صاحبه شهقة عظيمة من أحد الأعضاء الذي صرخ: بتضرب الإمام بالرصاص؟!
نظر الرجل المهيب إلى صدره، فوجد خيطاً رفيعاً من الدم يرتسم على قميصه الأبيض. علم على الفور أن الرصاصة الغادرة أصابته دون أن تخشى الانضمام إلى أخواتها من الرصاصات التي يحملها جسده.
نظر ببطء إلى مصدر الرصاصة فوجد «خزنة الأموال» يحمل مسدسه النمساوي الأسود، وينظر إليه في تحدٍ وغضب.
ابتسم باقتضاب وقال له: رصاصتك مش حتقتل ميت! أتركهم، ربما انصلح حالهم.
ثم نظر إليهم مودعاً وقال: قريباً نلتقي.. احذروا مما تتمنون حدوثه.
أغلق الرجل المهيب الباب خلفه، وساد الصمت غرفة الاجتماعات إلى أن قطع الصمت صوت المرشد وهو يقول: ولهذا خلق الله الندم!