ماأحوجنا اليوم إلى أن يحكمنا يزيد الناقص.
الفرق بين يزيد الناقص وبين الحكام العرب أنه كان ناقصا من حيث الإسم فقط. وهو نقصٌ مقدور عليه في كل الأحوال. إسمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، لم يسموه بالناقص لأنه باع شعبه وبلاده بالرخيص، أو لأنه فتحها على البهلي للفرنجة، أو لأنه أكل مال النبي وحلّى بمال الصحابة، بل لأنه أنقص رواتب الجنود لأنه رأى أنهم لايستحقونها. عندما قرأت سيرته في كتاب المفكر العراقي الراحل هادي العلوي « شخصيات غير قلقة في الإسلام» أدركت أن مانحن فيه من «عِشرة» مع الإستبداد وحنين إلى الحكم الفاسد ليس وليد اللحظة بل هو للأسف كامن في جيناتنا كأمة تعشق التخلص من أفضل مافيها، ولذلك قتلت يزيد الناقص الذي كان يمكن أن يكون أعدل حاكم شهده تاريخ الأرض قاطبة.
بوصول يزيد إلى الحكم كانت المعارضة المتمثلة في طائفة القَدَرية التي أسسها معبد الجهني أحد تلاميذ أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قد نجحت في إنجاز ثاني إنقلاب سلمي خلال العهد الأموي. كان يزيد قد تأثر بأفكار القدريين الذين رفعوا شعار أن الإنسان خالق لأفعاله ومسئول عنها وأنه مُخَيَّر لا مُسَيَّر كرد فعل لمذهب الجبرية الذي تبناه الأمويون لتبرير سياساتهم الجائرة. قبله كان القدريون قد نجحوا في تجنيد خليفة أموي سابق هو معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية، وذلك من خلال مؤدبه عمرو المقصوص الذي كان أحد «نُشطاء» القدريين بلغة عصرنا، وقد نجح سراً في جعل معاوية الصغير ينسلخ من عباءة بني أمية ويحن لعهد الخلفاء الراشدين، حتى أنه عندما جاءته الخلافة مبكرا وهو في أوائل العشرينات خطب بعد إستخلافه بشهر مهاجما والده وجده واتهمهما باغتصاب الخلافة من الراشدين، وأعلن عدم استعداده تحمل خطايا أهله، لكنه لم يكن قويا بما يكفي للوقوف ضد التيار فأعلن التنازل عن الخلافة، وكما يروي هادي العلوي في كتابه الرائع (تاريخ التعذيب في الإسلام) فقد تحرت أسرته عن سر إنقلابه ووصلت إلى عمرو المقصوص الذي تم القبض عليه وقُتِل تحت وطأة التعذيب العربي.
منذ ذلك الوقت أصبح القدريون المطلوب الأول على قوائم البطش السياسي الأموي، حتى وصل البطش بهم إلى أوجِّه خلال خلافة الوليد بن يزيد الذي كان مشهورا بنزقه ومجونه وطغيانه الذي لحق ليس فقط بالقدرية بل وحتى بمن لايملكون موقفا سياسيا واضحا كأهل قبرص الذين قرر إجلاءهم عن جزيرتهم إلى بلاد الشام، فضلا عن عشرات القرارات الجائرة والهوجاء التي وحّدت قوى المعارضة ضده بقيادة القدريين الذين نظموا تحركا سريا ضده قاده يزيد الذي لم يكن ناقصا بعد، وتم إسقاطه ـ عقبال الحبايب ـ خلال غيابه عن دمشق وسفره إلى الأردن، المفارقة أن تجمع المعارضة تم في قرية المزة القريبة من دمشق والتي أصبحت تشتهر بسجنها الرهيب الذي احتضن خيرة مثقفي سوريا في عصور الإستقلال السعيدة. بعد إسقاط الوليد بن يزيد بويع ليزيد بالخلافة ولأخيه ابراهيم بولاية العهد واستولت المعارضة على دمشق وأرسلت إلى الوليد قوة قتلته في الأردن ليستتب الحكم ليزيد وللمذهب القدري الذي يعتنقه.
الغريب أن الوليد على مااشتهر به من بطش ومجون وجد في عصرنا من يعتبره واحدا من أنصار الحداثة والخروج على التقاليد التي كان ينتهكها في حياتنا اليومية، هكذا وصفه الدكتور طه حسين في (حديث الأربعاء)، وهو مايعلق عليه هادي العلوي وهو المثقف اليساري الرفيع بقوله الذي أترك لك التعليق عليه « لقد التبس الامر على مؤسس الفكر العربي الحديث فالوليد ليس فردا عاديا ولاهو مثقف مستقل حتى يكون لمسلكه مردود محول للمجتمع فهو خليفة وقد سيّر الامبراطورية لحسابه الشخصي وقدّم مثلا سيئا للحاكم الذي يسخّر كل شيئ لخدمته ولامعنى لاعتبار مثل هذا عنصر تحديث كالذي يقال عن أبي نواس مثلا. بل إن من يستحق أن يوصف بالحداثة هم القدرية الذين ثاروا على هذا اللص القائل بالجبرية وهم بحق متنورو زمانهم، وطه حسين في هذه المسألة يصدر عن فهم أعرج للحداثة يشترك فيه مع كتاب الحداثة من الجيل الحالي».
للأسف، على مر تاريخنا المريركلما وصل حاكم عربي إلى كرسي الحكم سمع منه الناس أحلى كلام في بيانه الأول الذي تتجاور فيه الوعود بأنهار العسل واللبن التي سيعب منها الفقراء مع الأيمانات المغلظة بألا يحكمنا بعد اليوم فاسد أو ظالم. وبعد أشهر تزيد أو تنقص حسب حالة كل حاكم يتحول البيان الأول الذي أعلنه الحاكم إلى بيان ترفعه في وجهه قوى المعارضة سرية كانت أو علنية، ويبدأ الشعب في الحنين إلى عصر الحاكم السابق الأقل فسادا والأحن بطشا. أحيانا يكون هناك إستثناءات فيأتي حاكم جدع يعلم أن الرجل مربوط من بيانه فيصرعلى تنفيذه ليفرح به شعبه فرحة لاتدوم لأن هذا الحاكم عادة مايلقى حتفه في ظروف غامضة.
هذا ماحدث للأسف ليزيد الناقص الذي ارتجل بعد وصوله إلى الحكم خطبة تاريخية جاءت بمثابة بيان رقم واحد ألقاه من على منبر الجامع الأموي بدمشق ليشفي به صدور قوم مَلُّوا الطغيان والفساد وتجددت أحلامهم بعهد الخلافة الراشدة التي دُهِست تحت وطأة الحكم العضوض، خطبة تموت كمدا عندما تقرأها كما نقلها الطبري لأنك ترى فيها حلما إنسانيا ساحرا لو كان قد تحقق لما كان حالنا بل وحال الكون كله اليوم كما لايخفى عليك.
« أيها الناس إن لكم عليّ أن لاأضع حجرا ولا لبنة على لبنة ـ يقصد أنه لن يبني لنفسه قصرا على عادة حكام بني أمية ـ ولاأكري نهرا ـ يقصد أنه لن يمتلك حتى أراض زراعية كما جرت العادة ـ ولا أكنز مالا ولا أعطيه زوجة ولا ولدا ولا أنقل مالا من بلده حتى أسد ثغرة ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم فإن فَضُل فَضلةً نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولاأجمركم في ثغوركم وأفتن أهليكم ـ أي لاأطيل مدة تجنيدكم في جبهات الفتوحات فأتسبب في فتنة نساءكم وخيانتهن لكم ـ ولاأغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولاأحمل على أهل جزيتكم مايجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم ـ في إشارة إلى مافعله سلفه بأهل قبرص ـ وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيت لكم ماقلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة وإن أنا لم أوف فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبونني، فإن تبت قبلتم مني وإن علمتم أحد ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ماأعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته.. أيها الناس لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ولاوفاء له بنقض عهد، وإن الطاعة طاعة الله فأطيعوه بطاعة الله ماأطاع فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية فهو أهل بأن يعصى...».
لو ظهر حاكم يحمل أحلامه كهذه في أمة تحترم نفسها لصار أسطورة تتوارث ذكرها الأجيال، لكن يزيد الناقص ظهر في أمتنا ولذلك كان لابد أن يطويه النسيان، لأن تداول سيرته العطرة خطر على الأمن العربي العام، لذلك وصف المؤرخ المملوكي إبن طباطبا خطبة يزيد بأنها من نوادر السياسات قائلا « لو أن أحدا من سلاطين عصرنا دعا الناس إلى خلعه إذا انحرف أو ابدى إستعداده لمبايعة غيره إذا كان أكفأ لوصفوه بالحماقة واعتبروه جديرا بالخلع»، وهو تعليق تدرك من خلاله أن عقليتنا العربية لم تتغير أبدا من أيام بن طباطبا إلى أيامنا المُكئِبة، عقلية تتعامل مع الحاكم العادل على أنه أحمق أو ظالم يتخذ من العدل ستارا لإيقاع شعبه في الفخ، ولذلك لم يلتف الناس حول يزيد ليساعدوه على تنفيذ برنامجه العظيم الذي كان قد بدأه بإعادة أهل قبرص إلى جزيرتهم ليضرب مثلا إسلاميا رفيعا في تطبيق القانون لمصلحة غير المسلمين أولا، للأسف لم يكن هناك ثانيا، فقد مات الرجل العظيم بعد ستة أشهر من توليه الحكم ميتة غامضة وهو دون الأربعين من عمره، ميتة تذكرك بميتة السلطان العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله. يرجح هادي العلوي الذي درس في كتاب ثالث (تاريخ الإغتيال السياسي في الإسلام) أن يكون قتل يزيد قد تم بالسم في خطة جهنمية تبناها مروان بن محمد الذي صار فيما بعد آخر خلفاء الدولة الأموية والذي لقب بالحمار لقوته الجسمانية التي أفلح بها فقط في إجهاض حلم العدالة الذي لاحت بشائره على يد يزيد الناقص، لننتقل بعدها من حاكم ظالم إلى آخر، حتى عشنا وشفنا من جعلونا لانترحم فحسب على عدل يزيد الناقص بل حتى على حمورية مروان بن محمد، فحموريته على الأقل كانت حمورية جسد لاحمورية عقل وروح.
(نشرت لأول مرة في صحيفة الدستور عام 2006).