«يا فرج الله أخيرا لقيت سواق تاكسي منقوع من أم رأسه حتى أخمص قدميه في بحيرة الوعي السياسي» هكذا قلت لنفسي وأنا أستمع إلى الحكمة وهي تتدافع للخروج من فمه: «يابيه مبارك إيه ومرسي إيه.. واحد رمانا من على سطح الأرض والتاني دفننا تحت سطح الأرض.. مش معنى إن عهد ده زبالة إني أحن للعهد اللي أزبل.. أنا مش فاهم الناس اللي عندها شازوفرونيا اللي تقولك مبارك كان أرحم عشان كان بيسرقنا بس ماكناش حاسين بحاجة.. أيوه عامل زي اللي بتقولك اغتصبوني بس كنت مبسوطة.. يبقى سيادتك ولا مؤاخذة شرشر مش مغتصبة بقى».
لاحظ إعجابي الشديد بما يقوله فقرر أن يعطيني نبذة مختصرة عن خلفيته السياسية لكي أنقله من خانة رجل الشارع الواعي إلى خانة الواعي الذي شاءت الظروف أن يكون رجل شارع، وياليته ما أعطاني تلك النبذة التي بوّخت حماسي له قليلا «خُد بالك يا أستاذ فضل أنا قاري سياسة لما قلت يا بس.. أنا كنت في الأردن عشر سنين على فكرة.. وبعدين أنا مش هاقولك قاري جرايد وكده.. لا ده أنا وصلت بيا إني قريت ماكافيللي.. آه والله زي ما باكلمك كده.. انت عارف ساتالين بتاع روسيا لما مسك الحكم أعدم كل أعضاء الحزب الشيوعي.. آه قتل له بتاع خمسة وعشرين مليون بس في المقابل بنى روسيا الحديسة وما كانش حد غيره يقدر يهزم هتلر.. أمال إيه.. بص ياباشا مرسي ده عليه غباء سياسي ماحصلش.. وهاقولك على حاجة تدلل لك على كلامي».
قلت حريصا على ألا يظهر تغيير ما في نبرتي عما سبق «والله يا اسطى هو كلامك مش محتاج دليل خالص بس برضه لو عندك حاجة إضافية مش هيخسر أبدا». قال لي بحماس من عقد العزم على إبهاري «فاكر ياباشا لما طلع مع الجدع اللي اسمه عمرو الليثي وحكى حكاية الطفل اللي مسكوه بيحدف مولوتوف وأمه قالت لهم إن في حد اداها ميتين جنيه عشان يروح يحدف مولوتوف.. ومرسي قالك أنا لما عرفت ده قعدت أعيط.. طب ده اللي يدلك على الغباء السياسي.. صح ولا لأ.»، قلت «هو مش بس ده اللي يدلك على الغباء السياسي في أمثلة أقوى من ده»، قاطعني «لا مش القصد إنت فهمت إيه مشكلتي مع الحكاية دي بالذات؟»، قلت «يعني أنا مشكلتي إنها حكاية ممكن تكون متألفة أساسا ومرسي لا شاف الواد ولا أمه أساسا واللي حكاله هما الأجهزة الأمنية عشان يقنعوه إن كل دي مؤامرة عليه ومافيش حد بيعارضه ولا حد متضايق من الإعلان الدستوري»، ارتبك للحظة لأنه لم يكن قد فكر فيما قلته لكنه عقد العزم على مخالفتي لإيضاح نقطته التي غابت عن فطنتي «لا أنا بقى ياسيدي هاصدقه وهاقول إنه قابلها.. بقى إنت ست تحكي لك حكاية زي دي تقوم تعيط.. هو أنا جايبك ريس عشان تعيط.. إنت كنت تقول لها الراجل اداكي ميتين جنيه عشان ابنك يحدف ملاتوف آدي خمسميت جنيه أهُم إديني أم اسم الراجل ومواصفاته عشان أجيبه من قفاه وأمرمط أمه.. صح ولا لأ ياباشا؟».
كانت قد أعجبتني جملة «هو أنا جايبك ريس عشان تعيط» فقررت أن أحتسب له الإجابة كلها صحيحة، وقلت له «مية مية يا اسطى الله ينور عليك»، شعر أن حجم انبهاري به ليس كافيا فقرر أن يزيد من (الدوز) قائلا «إنت عارف ياباشا إيه اللي جابنا ورا.. الإتناشر اللي كانوا نازلين قصاده.. يعني بروح أهلك منك ليه عارف إن في واحد إخوان نازل قصادك ماكنتو تتكتلوا إيد واحدة ورا واحد محترم زي عمرو موسى.. مش كده ولا إيه ياباشمهندس»، لاحظ علامات الإمتعاض بادية على وجهي فقال «شكلك مش عاجبك كلامي.. وتلاقيك عايز تسألني اشمعنى عمرو موسى بالذات.. أنا أقولك.. أصل عمرو موسى ده أهم ميزة فيه إنه رجله والقبر.. يعني ماكانش هيخلد فيها.. كان هييجي عشان يختم حياته ختام مشرف ويمشي عدل ويراضي الشعب وفي الآخر كان شباب الثورة هيعملوا أحزاب ويبقوا أقوياء سياسيا وعلى ما ييجي معاد الإنتخابات الجاية يبقى في واحد منهم بقى ينفع رئيس» .
كان يتحدث بثقة مدهشة جعلتني أسأل نفسي للحظات «كان ماله عمرو موسى صحيح ماكان أرحم من مرسي» وهو لم ينتظر أن أرد عليه بل طفق وما انفك وما فتئ يواصل تحليله السياسي «مش كان عمرو موسى أرحم من شفيق.. على فكرة أنا كنت ضد شفيق من الأول مش عشان فلول وفاسد والكلام ده أنا ماليش في الكلام ده.. أنا حصل لي توجس سياسي من شفيق من ساعة ما وافق إنه يشتغل مع مبارك رئيس وزارة بعد ما الشعب ثار عليه.. يعني إنت راجل بقى ماعندكش دماغ سياسي أصلا أجيبك رئيس إزاي وتقعد مع اليهود اللي الواحد فيهم بيكلمك في حاجة وهو بيخيطك في حاجة تانية.. هي دي مشكلة شفيق معايا.. بس منهم لله ولاد الوسخة اللي طلعوا على عمرو موسى حكاية إنه صاحب مزاج.. إحنا مالنا وماله إنشالله يبقى فيه العبر.. أنا مالي بحياته الشخصية لو هيحكمني صح.. ده ربنا سبحانه وتعالى قال إيه في القرآن وقالوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقالوا أربعة خامسهم كلبهم أنا آسف يعني مش فاكر الآية مضبوط بس في آخرها قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل.. يعني ربنا نفسه بيقول أنا الأعلم يقوم ييجي ناس ولاد كلب يقولك عمرو موسى بيشرب كحوليات من أيام ماكان سفير.. مع إن الراجل باين عليه طول الوقت إنه راسي وعاقل ولا يمكن يغضب ربنا وعمرنا ماشفناه بيهرتل في الكلام أبدا.. آديهم لبسونا في اللي مالهمش غير في السوبيا والخروب وهيفتقونا كلنا يااستاذ فضل.. أنا آسف يعني ماتزعلش مني.. الناس دي مش بس هترجع الخلافة لا هيرجعوا العصر الحجري كمان.. أهي ابتدت بقطع الكهربا وبعد كده البنزين وبكره العربية اللي ماشية بالغاز دي أشحت عشان ألاقي غاز أمشي بيها.. وهكذا بقى يعني مش بعيد الشهر الجاي تركب معايا تلاقيني لافف حتة قماش عشان أغطي بيها المسائل.. وآخد منك الأجرة بالزلط بدل الفلوس وكل ده عشان شوية ولاد كلب طلعوا إشاعة حكيرة إن عمرو بيه موسى صاحب مزاج».
كان لا بد أن أطلب منه تغيير الموضوع لكي لا أبكي ندما على ضياع فرصة حكم عمرو موسى لمصر، سألته «انت منين يا اسطى»، فهم الرسالة جيدا وبدأ يحدثني عن نفسه، ولد في باب الشعرية وترعرع في شبرا ويقضي حياته الآن في بولاق الدكرور، لديه إبن كبير في الجيش وإبنة متزوجة وابن في دبلوم تجارة وبنت في تالته إعدادي، ترك الأردن عن اقتناع لأنه يحب مصر، كان يعمل هناك سائقا لعائلة «ارسترقراطية» لكنه قرر أن يعود إلى مصر بعد اكتشافه أن «لسان الواد الكبير اتعوج وبدأ يحكي أردني». ثم طفق يقول لي وهو لا يحاورني «بنحب البلد دي ياباشمهندس هنعمل إيه بس.. صفيحة زبالة كاتبين عليها من بره سبعة آلاف سنة بس بنحبها.. عشان شعبنا جميل ومهما لفيت الدنيا مش هتلاقي زيه أبدا.. بس هو مبارك إبن الذين اللي جابنا ورا.. كان عنده عشر حاجات لو كان ركز فيهم كنا بقينا ولا ماليزيا وسنغافورة دلوقتي»، لم يكن ممكن أن أفوت فرصة معرفة العشر حاجات فسألته عنها، فقال لي «اللي أنا فاكره منهم دلوقتي ستة.. العمالة الخارجية اللي كانت في الدول العربية.. ما استغلش الحرامية اللي في البلد صح»، كان لا بد هنا من وقفة للإستيضاح فقال موضحا «يعني البلد لما مسكها كانت مليانة حرامية من أيام السادات ده غير الحرامية اللي جم في عهده.. كان يتفق مع كل واحد فيهم ويقوله بص خد خمسين في المية أرباح ليك واديني عشرين في المية وادي تلاتين في المية لمصر.. إنما هو كان بيقسم النص بالنص فالبلد ماطلعتش بحاجة بعد كل الليلة دي.. مش كان أحسن ساب الريان والسعد وقسم معاهم بدل ماالبلد ماخدتش منهم حاجة.. تالت حاجة طلع لقى عنده أمريكا وروسيا ماعرفش يستغل الحكاية صح.. حدف على أمريكا بس.. مش زي الجهبذ العظيم أنور السادات اللي نشف ريق الأمريكان وقعد يلاعبهم بالروس لحد آخر يوم في عمره».
لم يكن مجديا أن أحدثه عن أن السادات هو من ابتدع حكاية 99 في المائة من أوراق اللعبة في يد أمريكا وأنه قطع علاقات مصر مع السوفيت وطرد الخبراء السوفيت من مصر شر طردة، فالرجل يحتاج إلى أن يعيش بالمنطق المتماسك الذي يسنده في الحياة وأنا أحتاج إلى أن أسمع حكايات ممتعة أكثر من رغبتي في سماع تحليلات عميقة كالتي بدأ يركز عليها.. تغاضيت عن شغفي في معرفة الثلاثة أشياء الباقية التي يتذكرها من العشر حاجات التي جعلت مبارك يضيع فرصة عمره لإصلاح حال البلد.. وقررت تغيير الموضوع، قلت له «هي دي عربيتك يااسطى».
سحب صوتا حلقيا خفيفا لا يتجاوز قياسها اتنين ريختر في أحسن تقدير بحيث لا يمكن اعتبارها كإهانة أو تجاوز، وقال لي «هو لو عندي عربية أنزل أبهدل نفسي في أم الشوارع دي.. كان زماني قاعد في البيت باقلب في الدش وممرمط واحد مكاني زي ماصاحب العربية بيمرمطني».. قلت له «عندك حق الشوارع بقت صعبة قوي».. أضاف «انت مكسوف بقى تشتم وكده عشان أنا عرفتك ومش عايزني أقول للناس بلال فضل ده لسانه زفر.. صعبة إيه ياعمنا قول بنت عاهرة.. سمي الأشياء بمسمياتها ياباشا».. ارتجت العربية من ضحكي بينما قرر هو أن يشاركني في ذكرى أليمة حدثت له منذ فترة قصيرة «أنا أصلا بقى لي تلاتين سنة غير العشرة بتوع الاردن باشتغل بالليل.. كل يوم باشتغل من اتناشر بالليل لسته الصبح.. شغل الليل ده آخر عظمة.. لغاية من كام شهر كده إنت عارف المثل بتاع ما يوقع إلا الشاطر.. وقعت ولا حدش سمى عليا.. تلات عيال من دور ولادي ثبتوني على الدائري.. كان شكلهم غلط من ساعة ماوقفوني في ميدان لبنان.. بس بيني وبينك طمعت.. كان الشغل معقرب يومها قلت ربنا هو الحافظ.. فجأة ياسيدي واحنا على الدائري ألاقي واد منهم خانقني بتلفيحة من ورا والتاني غازز المطوة في جيبي.. أنا كل اللي شفته ساعتها ياباشا هو منظر صاحب العربية وهو بيسلمني للبوليس بورق الضد اللي كاتبه عليا عشان يأمن عربيته.. عمره ماكان هيصدق إن العربية اتسرقت.. ده أنا بينضرب بيا المثل في الذكاوة والدماغ الصاحية.. كان هيقولك آه ده طمع في العربية ونصّص مع اللي سرقوها.. إنما لاجل رضا ربنا عليا طلعوا التلاته مالهمش في حوار سرقة العربيات.. عايزين فلوس وبس.. طلعت لهم مية جنيه كنت عاملها طول اليوم وقلت لهم خدوها.. قالوا لي فين الموبايل أنا بازنقه كده في حتة على شمالي مش عارف ليه عادة اتعودت عليها.. قلت لهم مامعيش.. ربنا ستر ما حدش رن كانوا قتلوني.. بيني وبينك مش عارف عملت كده ليه.. هو أصلا بكرتونته كان عامل مية وخمسة وتلاتين جنيه.. أنا ماباحبش أجيب موبايلات غالية.. وكل استخدامي في الموبايل آلو أيوه سلامو عليكو مع السلامة.. نزلوا وسابوني وأنا عمال اتشاهد واسجد في الأرض من الفرحة.. روحت وقلت بس اتكتب لي عمر جديد مش هاسوق بالليل تاني أبدا.. كان عندي أمل في ابن الذين اللي حكمنا ده إن ربنا ياخد بيده ويعدل حال البلد ويرجع لنا الأمن.. عارف لو كان بس عمل حاجتين رجع الأمن وحافظ على الأسعار ده كان يأخون ويدقّن ويزبّب ـ من زبيبة يعني ولا مؤاخذة ـ ويعمل اللي على مزاجه هو وجماعته.. إنما هتقول إيه حظنا وحش يا بيه.. إنما رأيك هيحصل إيه اليومين دول يابيه؟»
قلت له «والله ماعارف يا اسطى.. إنت بإحساسك كده شايف هيحصل إيه».. قال لي «أنا شايف إنهم هينفضوا يابيه لغاية مايخش رمضان وعارفين إن الشعب مالوش في الثورة في الحر والصوم.. وبتوع جبهة الإنقاذ مش ماليين عينين الناس وبصراحة ماتزعلش مني هما عايزين ضرب الجزم هُمّا والإخوان والفلول»، قلت له وأنا أشير بيدي لكي يتوقف وينزلني «لا وازعل منك ليه «..» أم الإخوان على «..» أم الفلول في ساعة واحدة»، صفق بيديه بسعادة شديدة «حلاوتك كده يااستاذ فضل جاي تسخن معايا في الآخر ده.. مش كنا اتكلمنا في النسوان أحسن بدل السياسة ووجع القلب... خلي عنك خالص النوبة دي.. والنبي ربنا هيكرمنا آخر كرم وبكره هنفتكر الأيام دي ونضحك لما نقول بس وإحنا بنسأل نفسنا كنا مستحملين كل الخرا ده إزاي.. نهارك فل يابرنس».