حتى لو امتلكت جرأة ارتكاب حماقة شتيمته، فلن أستطيع فعل ذلك لأنني لا أعرف شتيمة واحدة باللغة التركية، سواءا كانت شتيمة قبيحة أو حتى شتيمة بورجوازية تسمح بها الرقابة، فعلى مدى الأعوام التسعة الماضية التي زرت فيها تركيا كانت أموري دائما والحمد لله على ما يرام بشكل لم يجعلني الجأ أبدا لتعلم شتائم لكي أقوم باستخدامها.
كنت قد وصلت للتو إلى مطار اسطنبول وسلمت جواز سفري إلى ضابط الجوازات المكفهر الغتيت الذي كان يشبه سابقيه من ضباط الجوازات في مطار اسطنبول الذين تعودت رؤيتهم على الدوام مكفهرين ومقدمين للزوار صورة غتيتة لا تتفق مع بلادهم الودودة، أخذ الضابط جواز السفر من يدي وفتحه ثم التفت إلى زميله الذي يجلس في الكابينة المجاورة له قائلا له «ميسير.. ميسير» وهو يشير إليّ، الأتراك ينطقون إسم مصر هكذا في اللغة التركية «ميسير» ولذلك فهم لا يستخدمون أبدا كلمة إيجيبت ليس لأن لديهم موقفا من دلالته الفرعونية أو القبطية بل لأنهم شعب غالبيته الساحقة لا تجيد الإنجليزية، ناول زميله جواز السفر وأشار لي أن أذهب إليه لكي يختم هو جواز سفري.
عندما تحركت صوب زميله، لفت انتباهي أنه نظر إليّ هاشاً باشاً بصورة لم أعهدها من قبل على من يجلس في مثل موقعه، لكنه لم يمسك بجواز سفري لينظر فيه، بل أمسك بموبايله وبدا أنه يبحث فيه عن شيئ ما وهو يقول لي «أهلا وسهلا بميسير.. يا مرحبا بميسير»، بادلته الترحاب والتحية قبل أن أفاجأ به يقول لي بجدية شديدة وهو يواصل البحث في موبايله «والله مرسي زعلت عليه يا أخي.. أنت ما زعلت عليه؟».
خبرتي الطويلة مع ضباط المطارات عموما وضباط الجوازات خصوصا علمتني أن أحتفظ بآرائي لنفسي في أي شيئ يقولونه أو لا يقولونه. قبل ستة اشهر قضيت ساعتين من الإنتظار الممل في مطار جي إف كي بنيويورك بسبب تعليق متذاكي قلته لضابط جوازات في مطار جي إف كي عندما قلت له وأنا أضع أصابعي على جهاز تحديد الهوية أن أصابعي عرقانة فهل يمكن أن يعيرني منديلا لأمسحها قبل أن أضعها على الجهاز، نظر إليّ شزرا وقبل أن أضع أصابعي على الجهاز بعرقها ومرقها، أشار لي بجلافة أن أذهب إلى غرفة الانتظار المجاورة حيث تولى زميل له على مدى ساعتين مهمة النخورة في كيفية حصولي على الفيزا وسبب مجيئ إلى نيويورك، مع أنها كانت المرة الثالثة التي أدخل فيها نيويورك، ولولا خطاب كنت أحتفظ به من الجهة التي دعتني للزيارة لربما تعرضت لتفتيش ذاتي من الذي تمتد فيه أصابع الضباط إلى حيث لو امتدت أصابع أخرى غريبة لتوجب قطعها.
ربما كانت هذه الذكرى ما جعلني أهز رأسي دون إجابة على السؤال، وهو ما جعل الضابط الهاش الباش «الزعلان على مرسي» يكرر سؤاله لي «ما زعلت على مرسي يا أخي؟»، اخترت أسلم الطرق للرد وقلت له «قسمت.. نصيب.. الحمد لله»، ثم أضفت مشيرا إلى الجواز «ستجد الفيزا في آخر الجواز على فكرة»، تجاهل جملتي الأخيرة مع أنني حرصت على أن تكون مصحوبة بابتسامة مخنوقة، فقد بدا أنه حصل أخيرا على ما كان يبحث عنه، حيث قال وهو يدير شاشة الموبايل نحوي «انظر يا أخي.. والله أضع صوره على الفيس بوك.. انظر»، لأفاجأ به يريني صورة لمحمد مرسي وهو يصلي بالناس قائلا لي «رئيس يصلي كيف يمشي أخي بالله عليكم».. ثم أخذ يعبث في الموبايل من جديد ليديره ثانية نحوي ليريني صورة لمرسي وهو يجلس في المسجد يقرأ القرآن.. ثم قال لي «رئيس حافظ قرآن كيف يمشي أخي.. والله زعلت عليه».
كانت الخيارات أمامي صعبة للغاية.. نظرت خلفي لعلي أجد طابورا مزدحما يقنع الرجل بأن ينجز ويقصّر لأنه أخذ يبحث عن صور أخرى ليريني إياها، لكني لم أجد أحدا خلفي، وكانت هذه المرة الأولى التي أكره فيها ميزة العبور السريع «الفاست تراك»، طيب ماذا أقول لهذا الرجل الذي ركب على أكتافي فأعجبته وقرر ألا ينزل من عليها بسهولة، هل أخاطر بخوض نقاش جاد أشرح له فيه أنه لم يسيئ أحد إلى الإسلام والقرآن مثلما فعل مرسي وعشيرته لأنهم لم يأخذوا منه سوى المظاهر التي تعجب المسلمين المتحمسين في الخارج، أما حياة المصريين في الداخل فقد تحولت إلى جحيم لأن مرسي لم يلتزم بتعاليم دينه التي تحرم الكذب وإخلاف الوعود والظلم وتجبر الحاكم على أن يتحمل المسئولية السياسية عن تعثر بغلة في العراق، وأن أردوغان الذي اكتسب شعبيته في تركيا لدرجة جعلت الضابط يحتفظ بصوره هو أيضا لم ينجح لأنه يصلي ويصوم فقط، بل لأنه قام بتغيير حياة الأتراك الإقتصادية والإجتماعية تغييرا جذريا جعل مهمة الإطاحة به شديدة الصعوبة على كارهيه.
بدا لي من سلوك الضابط في تصفح موبايله أنني حتى لو قلت له ذلك فإنه لن يلتفت إلى شيئ مما أقوله، فقد ظل مستمرا في البحث عن صور جديدة لمرسي في أوضاع دينية مختلفة، ناهيك عن أنني فكرت في جدوى النقاش الفكري مع شخص جعلته قدراته العقلية يحتفظ بصور لرئيس دولة لا يعرف عنها شيئا، بدلا من أن يحتفظ بمقاطع بلو توث ساخنة تساعده على تحمل الحياة إذا لم يستطع الباءة، عندها فقط وجدت نفسي أسأل نفسي: لماذا لم أفكر أبدا في تعلم شتائم تركية دارجة أو حتى راقية، ليس لكي أشتم هذا الضابط في العلن فوقتي أثمن من أن أضيع منه عشر سنين في سجون تركيا بتهمة الإعتداء على موظف ممل أثناء تأدية عمله، حتى لو كنت قرأت أن سجون تركيا تحسنت كثيرا عما بدت عليه في فيلم (ميدنايت إكسبريس) الشهير، فسجون القاهرة ستظل أفضل لأنك لا تحتاج فيها إلى دوبلاج لتتمكن من فهم السجن، بل لكي أغمغم بتلك الشتائم في سري لكي أشعر أنني قمت برد مناسب على هذا الضابط الذي عطلني كل هذا الوقت.
في المقابل لم يكن خيار تجاهل الرد على الضابط سهلا بالنسبة لي، فأنا لن أحترم نفسي لو لم أقل كلمة الحق في وجه ضابط جمارك جائر على حقي في أن أعبر إلى بلاده بسلام،فأنا رجل قدرته على الإنتصاب المعنوي الذي أشار إليه مارسيل خليفة في أغنيته الشهيرة «منتصب القامة أمشي» مرتبطة طرديا بخوضه الدائم لمواجهات في الحق تزيد من احترامه لنفسه، لذلك كان لا بد أن أرد لضمان انتصاب قامتي، لذلك ودون طول تفكير وجدتني أسأله «قل لي يا أخي الكريم هل تعرف أناسا كثيرين في تركيا يحبون مرسي مثلما تحبه؟»، رد بحماس شديد»طبعا كل مسلم يحبه هنا.. رجل يصلي يحفظ قرآن ماشاء الله ما شاء الله»، قلت له بجدية شديدة «جميل لماذا لا تطلبوا من أردوغان أن يتوسط لإطلاق سراحه ويأتي إلى تركيا ويحصل على الجنسية التركية»، بدا أن الفكرة أعجبته على الفور فقال «إي والله ـ جملة تركية دارجة لإبداء الإعجاب مع أنها عربية فصيحة ـ تمام تمام هذا واجب مسلم ينصر أخوه المسلم»، أضفت قائلا «ويمكن أن تجعلوه بعدها يترشح لرئاسة الوزراء هنا بعد أن يتركها أردوغان في الإنتخابات القادمة لكي تستمتعوا بإنجازاته السياسية العظيمة»، نظر إليّ متشككا فلم يجد على وجهي ما يشي بأنني أسخر فصمت منتظرا مني أن أكمل رأيي، وأنا أكملت قائلا «عندما تفتح جواز السفر سترى أنني كاتب ولذلك فقد جئت إلى تركيا خصيصا هذه الزيارة لكي ألتقي بالصحف ووسائل الإعلام لكي أقنعهم بتبني هذه الفكرة التي يمكن أن تفيد تركيا من خبرة مرسي العظيمة التي حرمنا منها الكفار والتي يستحقها الشعب التركي بجدارة «، عاد وجهه ليتهلل بعد أن شعر أنه لا يتحاور فقط مع شخص من محبي مرسي، بل يشهد حدثا تاريخيا يمكن أن يتحقق، أمسك بجواز سفري بكل فخر ولم يأخذ وقتا في تصفحه كالعادة، بل وضع الختم على الفيزا فورا بحماس كأنه يوقع على وثيقة إعادة الخلافة العثمانية، ومع أنه لا يفترض به أن يصافحني إلا أنه أدخل يده من تحت الحاجز الزجاجي لكي يسلم علي وقال لي «بارك الله فيكم.. وفقكم الله أخي»، وأنا قلت له «والله زعلت عليه»، ودخلت إلى أرض تركيا وأنا أشعر بانتصاب حاد في القامة، فقد ثبت علميا أن ممارستك المنتظمة للعبث تزيد من تدفق الدم في شرايينك أكثر بكثير من المواجهات الجادة.
بعدها بربع ساعة استغرب صديقي التركي حسن بيه عندما وجدني أقول له فور لقائي به وقبل السلامات والتحيات «ألا صحيح يا حسن بيه هو يعني إيه بالتركي بلا مرسي بلا زفت؟.. ممكن تكتبها لي في ورقة».