في مجلتها الأسبوعية التي تصدر كل أحد مع عددها الأسبوعي العملاق تقدم كبرى صحف العالم (نيويورك تايمز) بابا ثابتا عنوانه (من اخترع هذا)، يكشف في كل عدد عن شخص اخترع شيئا موجودا في حياة الناس اليومية وأصبح من مسلماتها بدءا من «التوستر» ووصولا إلى «مضرب الدبان». للأسف لم أصادف ولا مرة خلال قراءتي لذلك الباب موضوعا عن صاحب أهم اختراع إنساني على الإطلاق من وجهة نظري، ألا وهو الشطاف ولا مؤاخذة، ربما لأن الشطاف نفسه ليس من مسلمات الحياة الأمريكية ولا الغربية بشكل عام، ربما لأن القدر اختص أمتنا العربية وحدها بالشطاف دونا عن باقي الأمم تقديرا لفضلها ومكانتها وخيرها على البشرية. أسمع الآن من ينبهني إلى أن بعض الشعوب الآسيوية تعرف الشطاف، وسأرد عليه وأقول أن الشطاف كما أتصور من فرط أهميته في حياتنا دخل حياة تلك الشعوب الآسيوية بالتأكيد مع دخول الفاتحين العرب إليها، وأظن أن كل فاتح عربي دخل تلك البلاد حاملا سيفه في يد كرمز للقوة والشطاف في الأخرى كرمز للطهارة، وربما لذلك سكنت هذه الصورة وجدان تلك الشعوب وانتقلت إلى الشعوب المجاورة لهم، حتى جاء اليوم الذي اخترع فيه الصينيون شطافا محمولا يستخدمه أبناء أمتنا المقيمون في بلاد الفرنجة التي لا تعرف الشطاف ولا تعترف به. لو ذهبت مثلا إلى حي أستوريا أشهر أحياء نيويورك التي يقيم فيها العرب والمسلمون لوجدت إعلانات مثبتة على واجهات المحلات تقول بالعربي الفصيح «الآن بشرى سارة الشطاف المحمول ساخن وبارد لديه قدرة على الوصول إلى أبعد الأماكن.
الغريب يا أخي أن الإنسان الذي اخترع الشطاف المزيل لخراءات الإنسان المادية لم يتمكن من اختراع شطاف معنوي يزيل عن الإنسان خراءات الآخرين التي تعلق به طيلة الوقت عندما يخالطهم أو يقرأ لهم أو يشاهدهم أو يستمع إليهم، مع أن شطافا مثل هذا كان أبرك وأهم وأجدى مليون مرة من شطاف الفضلات الذي يمكن أن تغنيك عنه المناديل الورقية بأنواعها ولو حتى إلى حين يحين موعد اغتسالك.
تخيل معي نفسك وأنت تعود إلى بيتك بعد يوم مرهق وجسدك وروحك يلتصق بهما كم مهول من خراءات الآخرين المعاشة والمسموعة والمرئية والمقروءة، فتهرع إلى الشطاف المعنوي المثبت في ركن من الصالة لتقوم برش نفسك وإزاحة كل تلك البلاوي المهببة عنك حتى تنتعش روحك قليلا وتتمكن من الهدوء بعض الشيئ وفتح التلفزيون أو الكمبيوتر للإلتصاق بفضلات أخرى تستخدم الشطاف في إزاحتها من جديد. أعلم أن الإنسان اخترع الآداب والفنون باختلاف أنواعها لكي تزيح عنه خراء الحياة، لكن مشكلة الآداب والفنون أنها أحيانا تكون سببا في تقليب مواجع الحياة عليك أكثر، والفن الجميل ينعش روحك لكنه أحيانا يقتلك من فرط الشجن، لذلك يحتاج الأمر إلى وسيلة خرساء جامدة ليس لها أعراض جانبية ولا تفعل شيئا أكثر من استهداف الخراء بشكل مباشر.
لكي أشرح لك الفكرة أكثر دعني أقل لك أنه كان يمكن أن يظل الإنسان معتمدا في تحميص الخبز على زوجته أو على حبيبته أو على أمه أو على الأنثى بشكل عام، لكنه من أجل تخفيف أعراض لجوء الأنثى إلى الرغي والشكوى والقمص واللت والعجن قرر أن يخترع التوستر الذي لا يفعل شيئا سوى تحميص الخبز من سكات، وبالقياس فنحن بالتأكيد نحتاج إلى شطاف معنوي لخراءات الحياة لا يفعل شيئا سوى إعانتنا على احتمال وعثاء الحياة.
على أية حال إذا ضايقك التصاق ما قرأته الآن بك، فها أنت وجدت سببا إضافيا لأهمية اختراع شطاف معنوي كان يمكن أن تستخدمه للتو لإزاحة كل ما قرأته بعيدا عنك.