● من أكثر الأخطاء الدرامية شيوعا في أفلامنا ومسلسلاتنا أن حوار الشخصيات ينطق أحيانا بلسان الكاتب وليس بلسان الشخصية نفسها، لذلك تجد كاتب السيناريو يضع آراءه في الحياة والحكمة التي يريد إيصالها للأجيال على لسان شخصيات لا يفترض بها أن تقول ذلك الكلام المجعلص، هذا إذا كان ذلك الكلام يستحق أن يقال أصلا على لسان أحد، لعلك تذكر كيف كان الأشرار في أفلامنا القديمة يتحدثون عما يرتكبونه من شر بشكل مبالغ فيه لزوم التطهير الدرامي والعظة والذي منه، وحتى عندما تطورت المهنة مؤخرا لا زلت تجد العديد من الكتاب يقومون بتصوير الشخصية الشريرة تظهر متضايقة للغاية من الشر، لدرجة أننا نراها أحيانا تبحث عن مبررات لفعلها الشرير كأنها محرجة من فعله، مع أن الشرير في أغلب الأحيان كما أظن لا يعيش أي صراع درامي من أي نوع، ولا يخطر على باله عمل أي تبريرات، بل هو مستسلم تماما لفكرته الشريرة ويراها عين الحق. لا أظن مثلا أن خيرت الشاطر وقف ذات لحظة وقال لنفسه «إيه اللي باعمله ده أنا كده غلطان ولازم آخد بالي إني مش بس باضيع جماعة أنا باضيع بلد بحالها»، قبل أن يستدير باتجاه الكاميرا معطيا ظهره لمحمود عزت ومحمود غزلان كما يحدث في أغلب مسلسلاتنا ويقول والشر يلمع في عينيه «بس أنا ما قداميش طريق تاني لازم أكمل لإن ده طريق ما منوش رجوع».
استمع معي إلى سورة يوسف التي تروي واحدة من أشهر القصص الدرامية في التاريخ، وتأمل كيف تتكلم كل شخصية في القصة باقتناع شديد بموقفها، لأن خالق البشر يعرف طبيعة أغلب البشر، وأنهم ليسوا مشغولين بالشك والحيرة والتأمل، بقدر ما يفضلون تكوين مواقف مسبقة وتبنيها والدفاع عنها على طول الخط، خذ على سبيل المثال إخوة يوسف وهم يجلسون للتآمر على أبيهم يعقوب دون أن يقوم كل منهم بالتنظير والتبرير المستفيض لموقفه، بالعكس فقد لخص رب العزة موقفهم في عبارة شديدة التكثيف والدلالة «قالوا ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا إن أبانا لفي ضلال مبين»، قالوها بمنتهى الاقتناع أن أباهم «في ضلال مبين»، ولذلك قرروا بضمير مستريح أن يأخذوا ذلك القرار الفظيع برمي أخيهم في غيابات الجب.
فكِّر في كل هذا وأنت تتأمل كل من حولك، واحسب كم شخصا منهم لديه قناعة يقينية لا تقبل الشك أن كل من يختلفون معه «في ضلال مبين»، وكيف يتصرف بناء على هذه القناعة، دون أن يكون لديه أي مانع في فعل أي شيئ يتوافق مع تلك القناعة حتى لو كان قتل غيره أو طرحه أرضا، احسب عدد هؤلاء واحسب عدد الذين لا يزالون يشعرون بالحيرة أو الشك أو الرغبة في التأمل والتفكير قبل الحماس لأي شيئ، وقارن العددين ببعضهما ستعرف عندها لماذا نعيش «في ظلام مبين»، إلا إذا كان لديك شك في أننا نعيش في ظلام مبين، وساعتها لن أطرحك أرضا، بل سأطلب منك أن ترمي كل ما قلته في غيابة الجُبّ.
● كان مشهدا معبرا يُجَسِّد في ثواني آلاف الصفحات التي تقرأها في كتب الجبرتي وابن إياس والمقريزي، عندما تحاصر هبة شعبية قصر الوالي المملوكي فيطيح به عسكره وحاشيته في التو واللحظة وينهالون عليه ضربا بالقباقب والخناجر, كنا نقرأ وصف ذلك فنظن أن هناك قدرا كبيرا من المبالغة في ما يتم روايته، قبل أن نرى ذلك وهو يتحقق أمامنا ولكن بشكل عصري يناسب القرن الحادي والعشرين.
يومها كانت قناة الحياة قبل صدور البيان العسكري الذي عزل مرسي تستضيف شابا من أنصار الشرعية والشريعة، وكانت المذيعة صبورة جدا وهي تستمع إلى كلامه الذي يستهدف المناطق القابلة للإنفجار في جسد الإنسان، ذلك الكلام الذي قمت شخصيا بتعديل نظام الإستقبال في آذاني لكي يستقبله بوصفه موجات كهرومغناطيسية يتم تحويلها مباشرة إلى المسالك البولية دون ترجمتها إلى كلام تستقبله مراكز الإدراك في المخ، قاطعته المذيعة لتعلن عن إذاعة بيان القوات المسلحة، وكان الشاب وقتها لا يزال في بداية كلامه، وبعد إذاعة البيان الذي أعلن عزل مرسي عادت المذيعة لاستئناف الحوار مع الضيف أبو شرعية، وبدلا من أن تعطيه فرصة لإكمال كلامه قالت له «شكرا لحضرتك على مشاركتك ومضطرين لمتابعة ردود الأفعال على بيان القوات المسلحة»، ذُهل الشاب وقال لها «بس ما يصحش إنك تخليني أقطع فكرتي وأنا لسه باعبر عنها»، ردت بابتسامة صفراء «معلهش بس البيان العسكري أهم»، والشاب أدرك على ما يبدو اللحظة الفارقة فلم يبمبك معها أكثر، لكي لا تقول له على الهوا «طب بطاقتك وانهي الحوار على كده واخشع».
ماهو الدرس المستفاد من هذه الواقعة يا أخي الكريم؟، ببساطة الدرس الأول: التاريخ ليس له كبير يا كل اللي فاهم نفسك تقدر تستعفى وتخش عرض. الدرس الثاني: إيدك حمرا يا من تظن أنك تستطيع أن تسيطر على بلد بالأمريكان وحدهم وتنسى أن الأمريكان لديهم أكثر من حجر يجلس كل عليه وهو يظن أنه جالس على الحجر الوحيد، وعندما يبيعه الأمريكان يجد نفسه جالسا على الهواء بلا حِجر، أما الدرس الثالث فهو ما قاله عمنا سيد حجاب: ولسه ياما وياما هنشوف كمان.