•قصة واقعية لأحداث غير واقعية يكتبها:إيهاب شكري ميخائيل

الزمان :مساء يوم الأربعاء الموافق 4 ديسمبر 2012، المكان: أحد الشوارع الجانبية في "مصر الجديدة"، رافد من روافد القصر الرئاسي المعروف بـ "الاتحادية"، كرّ وفرّ وضرب وطعن، صراخ وصياح وهتافات وتكبيرات.

اصوات طلقات رصاص لا تعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، كل ما ترجوه ألا تستقر واحدة منها في جسدك، دخان أبيض يطاردك في كل مكان وسيارات محترقة، الكل يجري في جميع الاتجاهات، همك الأول هو النجاة، إنه السباق من أجل الحياة. تلهث في إتجاه تظنه السبيل إلى الأمان فإذ بك تجري ضد تيار من الكارين والفارين.

تضيع البوصلة من يدك ولا تدري إلى أين تذهب. لا تستطيع أن تثق بأحد، فكل من كانوا معك يهتفون بجوارك تتدفأ بحماسهم وتتشجع بصحبتهم وتستمد القوة من معيتهم قد تفرقوا، تبعثروا، ذابوا وسط الشوارع والازقة. كلٌ هرب لحياته، بعضهم سقط وآخرون اختفوا، بالكاد تميز الوجوه، فالظلام والتشويش وملامح الغضب والانتقام التي تغطي "الوشوش" قد حولت الجميع إلى أشباح، أو أشباه بشر، إلى صور متشابهة لذلك الحيوان الكامن داخل هذه الأجساد البشرية.

•••

مخرج جانبي لأحد الشوارع.. مظلم، هاديء، بعيد عن "أرض المعركة"، انه ملاذ آمن ولو إلى حين لألتقط أنفاسي ثم أعاود الجري مرة أخرى. إستندت بظهري على حائط وسندت بكفي على ركبتي .. ألهث وأسعل.. أتنفس بصعوبة بالغة، لا أسمع إلا ضربات قلبي المتسارعة وانفاسي المتقطعة.. الإجهاد والخوف، مزيج لايعرف معنى السلام.. أذهب بعيني يميناً ويساراً لأتأكد أن المكان آمن ثم أعود لأغمض عيني .. أشعر وكأني في حلم، لا، بل كابوس، أريد أن أستيقظ منه.

هل أخطأت بالمجيء؟ هل جانبني الصواب حينما قررت النزول لأعبر عن رأيي؟ كان يجب أن أكون بالمنزل، أشاهد الاحداث كما يشاهدها الملايين، أحتسي المشروبات الساخنة وأستدفئ وسط عائلتي. لا أعرف؟. فجأة أسمع أصوات أقدام متسارعة نحوي، "واحد منهم أهوه" صرخ أحدهم، إلتفتُّ لأرى مجموعة من أربعة أو خمسة أشخاص يركضون نحوي بشوم وعصي وسيوف .. يا إلهي .. شعرت بضآلة حجمي، وكأنهم خرجوا على كلب ضال أو جرذ ضار يريدون أن يقضوا عليه.

جريت في الاتجاه المعاكس بكل ما أوتيت من قوة، زال التعب والارهاق وتجددت طاقتي فلا شئ أهم وأثمن من حياتك في لحظات مثل هذه، أركض وأركض وأركض وكأن الزقاق أصبح طريقا لا ينتهي.. أنظر خلفي لأتأكد أني قد ابتعدت عنهم ولكنهم يقتربون نحوي بإصرار. بينما كدت أن أصل إلى مخرج فوجئت بمجموعة أخرى تحاصرني.. أصبحت في قبضتهم تماما.

•••

هجموا علي هجمة رجل واحد، ضربات من اليمين واليسار بأيادٍ وآلات حادة على كل شبر من جسدي، أحاول أن أحمي وجهي بكفيَّ لأتفادى الضربات الموجهة لعينيّ وأذنيّ، لكن لا فائدة، سقطتُ على الأرض وتكورت في وضع الجنين في رحم أمه، ركلات على ظهري وقدمي. أصرخ فيهم "حرام عليكم، أنا ما عملتش حاجة" لكن ما النفع، لا مجال للحوار، للكلام، للنظرات، لماذا يكرهونني إلى هذا الحد وكأني عدوهم الأول والأخير؟، كلهم قناعة وإيمان بأنهم يخدمون الله والوطن بالاعتداء على أو حتى التخلص مني.

أفكار كثيرة جالت بخيالي، هل أنتفض لأرد الضربات؟ هيهات! فأنا وحيد ضد كل هؤلاء. هل هذه هي النهاية؟ هل استسلم لمصيري المحتوم؟ هل سأموت الآن؟ لا أعلم. لم أجد سوى أن اسلم أمري إلى الله وأستودعه روحي. آلام مبرحة في كل مكان، دماء تسيل مختلطة بدموع الاحساس المر بالقهر والعجز.. بدأت الأضواء تخفت والأصوات تبتعد وكأني دخلت نفقاً مظلماً يبتعد عن دنيا الأحياء في رحلة غير مفهومة. قوتي خارت بالكامل وانهرت تماماً.

•••

بغتةً سمعت من ينادي اسمي من بعيد.. "إيهاب.. لأ لأ ده واحد صاحبي.. ده مش بلطجي .. اسمعوني" بما تبقى لي من عين استدرت لأنظر من ذا الذي يدافع عني. نعم أعرف هذا الصوت وهذه الهيئة .. إنه محمود قنديل صديقي وزميلي في العمل.

التحق محمود بالعمل منذ عدة أشهر.. شاب صعيدي، جدع وكريم جداً، طيبته وبساطته جعلتني أحبه كثيراً .. نتقابل يومياً في العمل ونتحدث عن أمور الدنيا والدين والسياسة طبعاً، من الوهلة الأولى أدركت أنه إخواني التوجه، يدافع عنهم بضراوة ولكنه كالعادة يُذيِّل كل حوار بالجملة المعتادة "على فكرة أنا مش إخواني." أحياناً نختلف لكن بيننا من المودة والصداقة ما يجعلنا نتخطى بسهولة هذه الخلافات، كثيراً ما نحكي عن أسرتينا فلديه طفلان أكبرهما في عمر ابني.. إنه زميل وصديق رائع!.

حاول محمود أن يثنيهم عن الاعتداء علي لكن دون جدوى فقد فقدوا حاسة السمع من ضمن أحاسيس إنسانية اخرى كثيرة فقدوها، فإذا به يرمي بجسده فوقي ليتلقى الضربات عني، لم يكن في أي قوة حتى أومئ إليه أو أدافع عنه، انهالوا علينا ضرباً حتى صار كل شيء مظلما من حولي.

•••

أفتح عيني بصعوبة شديدة، ألم في كل جسدي مع كل شهيق أو زفير.. أرى أضواء من فوقي وأنا ممدد على فراش، أشعر بعطش شديد وأرى ضمادات على ذراعيَّ وصدري .. أدركت الآن أني بالمستشفى. "حمد الله على السلامة يا بطل، قلتلك ما انتوش قدنا ما سمعتش كلامي" التفتُّ لأرى محمود نائما على السرير المجاور وعصائب على عينيه وذراعه، ينظر إليّ مبتسماً.

لم استطع أن أرد عليه، نظرت إلى أحد أركان الغرفة المزدحمة ورأيت أمي تتحدث إلى سيدة أخرى، أدركت للوهلة الأولى أنها والدة محمود، كانت أمي تشكرها لأن محمود أنقذ حياتي في حوار ودي مصري أصيل ورائع كانتا تحمدان الله على سلامتنا وتلعنان السياسة واللي جاب السياسة.

دخل الغرفة طبيب ملتحي، حليق الشارب بصحبة ممرضة، بادر بالقاء السلام وسألني كيف أشعر ولكن قاطعته الممرضة قائلة "ده دكتور أحمد عبداللطيف اللي انقذ حياتكم انتم الاثنين، هو اللي اتبرعلكم بالدم لأنكم كنتوا نزفتوا دم كتير." أومأت برأسي شاكراً له الجميل ونظرت إلى محمود مبتسماً واستجمعت قوتي وقلت لهما: "طيب..بس استنوا عليَّ لما أخف وأنا هاوريكم انتم واللي يتشدد لكم."، وهما انفجرا في الضحك!