نساء من عصر التابعين (13).. سلمى بنت خصفة.. التابعية التي أخرجت الثقفي من محبسه ليخوض حرب القادسية - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 4:21 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نساء من عصر التابعين (13).. سلمى بنت خصفة.. التابعية التي أخرجت الثقفي من محبسه ليخوض حرب القادسية

منال الوراقي
نشر في: السبت 6 أبريل 2024 - 9:18 م | آخر تحديث: السبت 6 أبريل 2024 - 9:20 م
تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.

وفي عصر التابعين برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر التابعين" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.

سلمى بنت خصفة

لم تكن نساء العرب في صدر الإسلام قواعد بيوت، بل كانت النسوة يخرجن مع المجاهدين فيحرضنهم على القتال والاستبسال، ومنهن من كُن يداوين جرحاهم، ويساعدتهم أثناء الحرب فيما يحتاجون إليه من قضاء حوائجهم.

وكانت بعض النسوة قد حضن ساحات الوغى بكل بسالة ورباطة جاش، وحُزْنَ النصر المبين على الأعداء، وقد وعت ذاكرة التاريخ عدداً من فضليات المجاهدات، منهن الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب - رضي الله عنها -، وأسماء بنت يزيد الأنصارية ، وأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما
-.

وفي عصر التابعين برزت خولة بنت الأزور الكندية، وغزالة الحرورية زوجة شبيب بن يزيد، وأم حكيم التي اشتركت في القتال بجيش قطري بن الفجاءة، وكانت تحارب، وهي تقول: أحمل رأساً قد ستمتُ حَمْله.. وقد مللت دهنه وغسله.. ألا فتى يَحْمِلْ عَنِّي ثقله.

وتبرز امرأة تابعية كان لها كبير الأثر في الشجاعة والحمية والمشاركة في حماية المسلمين، والذود عن حياض الدين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وقد تألقت بحسن رأيها وفراستها في معركة القادسية، فاستحقت بذلك الخلود مع الخالدات في دنيا النساء الفاضلات.

إنها سلمى بنتُ خَصَفَة، من فاضلات نساء عصر التابعين، وممن عاشت فترة الفتوحات الإسلامية الأولى، وشاركت في حضور ساحات الجهاد، فكانت تمن آسين الجرحى وواسين جراحاتهم.

كانت سلمى بنت خصفة التيمية - تيم اللات - زوجاً للصحابي المشهور المثنى بن حارثة الشيباني - رضي الله، الذي أرهق الفرس، وكان له الفضل في فتح بلادهم، فقد أطمع أبا بكر والمسلمين في الفرس وهون أمرهم عندهم، وكان - رضي الله عنه - شهما شجاعاً ميمون النقيبة حَسَن الرأي، أبلى في قتال الفرس بلاء لم يبلغه أحد، وجرح يوم جسر أبي عبيد، فانتفضت جراحه ومات شهيداً؛ وذلك في سنة ١٤ هـ.

سلمى وسعد:

لما استشهد المثنى بن حارثة - رضي الله عنه -، كان قد أمر أن يسير المسلمون إلى القادسية، كما أوصى بسلمى، وأمر أصحابه أن يعجلوها على سعد بن أبي وقاص - وكان قرب القادسية - فلما انتهى إلى سعد ما أوصى به المثنى ترحم عليه، وأوصى بأهل بيته خيراً.

ولما انقضت عدة سلمى، خطبها فتزوجها وبنى بها بمكان يقال له شراف، وكان مع سعد في الناس يومئذ بضعة وسبعون بدرياً، وثلاثمئة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة في بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمئة ممن شهد الفتح، وسبعمئة من أبناء الصحابة.

ونزل سعد بزوجه سلمى إلى القادسية حيث كانت جموع الفرس تعسكر هنالك، وشهدت سلمى مع سعد القادسية وغيرها، ولكن كان لها في معركة القادسية شأن كبير.

وَامُثَنياه:

قبل أن تبدأ معركة القادسية، أصابت سعداً - رضي الله عنه - بعض القروح والدمامل في جسمه، فكان من شدة الألم لا يستطيع الجلوس، فلما كان يوم أرمات - وهو أول يوم من أيام القادسية - جال الناس، ولم يستطع سعد - رضي الله عنه - مباشرة القتال لما به من القروح، لكنه صعد وهو متحامل على نفسه وآلامه إلى أعلى القصر؛ الذي كان ينزل فيه بالعذيب لينظر في مصالح الجيش، وفي الشرفة جلس متكئاً على صدره.

وكان - رضي الله عنه - لا يُعلق عليه باب القصر لشجاعته، ولو فر الناس لأخذته الفرس قبضاً باليد لا يمتنع منهم، وكانت بجانبه امرأته سلمى بنت خصفة - وهي ترى ما به من الألم - فلما رأت سعداً يتململ ويحوقل فوق القصر، وهو يخشى على أصحابه من غدرات الفرس، فلما فر بعض الخيل يومئذ، ورأت ما يصنع أهل فارس فزعت، وقالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم! - قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه.

فغضب سعد - رضي الله عنه - من ذلك ولطم وجهها، وقال: أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى؟!. فقالت: أغيرة وجبناً - يعني أنها تعيره بجلوسه في القصر يوم الحرب - فقال - رضي الله عنه: والله لا يعذرني اليوم أحد إذا أنت لم تعذريني، وأنت ترين ما بي، فالناس أحق ألا يعذروني!.

فتعلقها الناس ولا موها - وكان سعد غير جبان ولا ملوم -، ولم يمض إلا وقت قصير حتى اعتذرت سلمى عما بدر منها إلى زوجها سعد، وطلبت منه أن يصفح عنها، فكان ذلك.

هل لك إلي خير؟:

أوردت المصادر موقفاً رائعاً لبطلة ترجمتنا سلمى بنت خصفة يوم القادسية ، إذ تصرفت تصرفاً دل على فراستها وذكائها في وقت من أشد الأوقات حرجاً على جيش المسلمين.

فقد كان أبو محجن الثقفي - واسمه عبد الله بن حبيب - من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وكان أبو محجن شاعراً فارساً معدوداً في أولي البأس والنجدة، إلا أنه كان من المعاقرين للخمر، وقد حد فيها أكثر من مرة فأمر به سيدنا عمر بن الخطاب أن يُنفى، وبعث إلى سعد بن أبي وقاص أن يحبسه، فسجنه سعد، وقيده بالحديد في قصره بالعذيب في القادسية.

ولما اشتد القتال بين جيش المسلمين وجموع الفرس، وحمي وطيس المعركة، وأخذت الأصوات تصل إلى سمع أبي محجن، صَعِدَ إلى أعلى القصر في الليل، وسأل سعداً أن يعفيه من السجن ويستقيله ليخوض غمار المعركة، ويكون ممن شرى وباع فيها، غير أن سعداً رضي الله عنه - ردَّه، فنزل أبو محجن وقلبه يكاد يتفطر من شدة ما حل به، فأتى يرسف في قيوده إلى زوج سعد سلمى بنت خصفة.

فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة، هل لك إلى خير؟. قالت: وما ذاك يا أبا محجن ؟. قال: تخلين عني، وتعيريني البلقاء - فرس سعد - فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، وإن قتلت استرحتم مني.

فأوجست خيفة في نفسها سلمى بادىء الأمر، ثم قالت: وما أنا وذاك دعني من هذا؟. فرجع يرسف في قيوده، وأنشأ يقول في تحرق وندم: كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا.. وأثرك مشدوداً على وثاقيا.. إذا قمت عناني الحديد وأغلقت.. مصاريع دوني قد تصم المناديا.. وقد كنت ذا مال كثير وإخوة.. فقد تركوني واحداً لا أخا ليا.. وقد شف جسمي أنتي كل شارق.. أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا.. فلله دري يوم أترك موثقاً.. وتذهل عني أسرتي ورجاليا.. حبيساً عن الحرب العوان وقد بدت.. وأعمال غيري يوم ذاك العواليا.. والله عهد لا أخيس بعهده.. لكن فرجت ألا أزور الحوانيا.

وسمعت سلمى ما ينفث به أبو محجن، ولاحظت شدة تأثره وندمه، وتفرست في ملامحه، فرأت علائم الصدق في وجهه، عندئذ قالت له: يا أبا محجن، إني استخرت الله عز وجل ورضيت بعهدك، وأطلقته من قيده، ثم قالت له: هذا ما أستطيع أن أقدمه لك؛ أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها.

واستطاع أبو محجن أن يصل إلى البلقاء، فاقتادها، وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق، فركبها ثم دب عليها، وأخذ الرمح، وانطلق حتى أتى الناس، ولما كان بحبال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين، وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، فجعل لا يحمل على ناحية إلا هزمهم الله، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكرا.

وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، إذ إنهم لم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه، وجعل سعد - رضى الله عنها - يقول وهو مشرف على الناس من فوق القصر ينظر إلى أبي محجن وشجاعته: والله لولا محبس أبي محجن لقلتُ: هذا أبو محجن، وهذه البلقاء! بينما قال بعض الناس وقد تملكهم العجب أيضاً: إن كان الخضير - عليه السلام - يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضير نفسه.

وقال آخرون: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك يقاتل معنا ويثبتنا، ولم يزل أبو محجن يقاتل، ولا يذكره المسلمون ولا يأبهون له، لأنه كما يعرفون - قد بات في محبسه وقد أثقلته القيود، ولم يعلموا أن مبيته كان تلك الليلة على صهوة الجواد، لا في القيود والأصفاد ولما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج، ووضع عن نفسه وعن دابته، ووفى لسلمى بعهده، فأعاد رجليه في القيد كما كانتا.

وطفق يقول والحماس يسيل على لسانه: لقد عملت ثقيف غير فخر.. بأنا نحن أكرمهم سيوفا.. وأكثرهم دروعاً سابغات.. وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا.. وأنا وفدهم في كل يوم.. فإن عموا فسل بهم عريفا.. وليلة قادس لم يشعروا بي.. ولم أشعر بمخرجي الزحوفا.. فإن أحبس فذلكم بلائي.. وإن أترك أذيقهم حتوفا.

سلمى وتوبة أبو محجن:

وسمعت سلمى - رحمها الله - ما أنشده أبو محجن، فسرت في نفسها فرحة عارمة بإطلاقه، ومن ثم وفائه، فأقبلت نحوه، وقالت له: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ - سعد - قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته؛ ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يَدِبُّ الشعر على لساني فأبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني لأني قلت: إذا من فادفني إلى أصل كرمة.. تروي عظامي بعد موتي عروقها.. ولا تدفنني بالفلاة فإنني.. أخاف إذا ما من ألا أذوقها.

وفي صباح تلك الليلة جاءت سلمى سعداً - رضي الله عنه -، وأخبرته خيرها وخير أبي محجن، فدعا به وأطلقه، وأخذ عليه العهد ألا يُقدم على الخمرة، فتاب أبو محجن إلى الله توبة نصوحاً فلم يعد إلى معاقرتها أو ذكرها، ولم يعد يتكلم بقبيح أبداً.

وكان لسلمى بنت خصفة كبير الفضل في سبب توبة أبي محجن، وفي حسن بلائه مع المسلمين، إلى أن أنزل الله عز وجل نصره عليهم، ودخر عدوهم، وقهر كبارهم وأذلهم إلى أبد الدهر.
أقرأ أيضا:


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك