روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة (2-3): أنبوب الغاز الروسي يتحول إلى مدفع في وجه أوروبا - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 9:48 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة (2-3): أنبوب الغاز الروسي يتحول إلى مدفع في وجه أوروبا

عرض وتحليل ــ طلعت إسماعيل
نشر في: الخميس 7 مارس 2024 - 8:34 م | آخر تحديث: الجمعة 8 مارس 2024 - 1:26 م

بوتين يلجأ إلى "غاز بروم" ابنته المدللة لمنع أوكرانيا من تجاوز الفضاء الروسي
الدول الأوروبية تعتمد على الطاقة الروسية بنسبة لا تقل عن 30% وموسكو تمسك بحبل خناقها
الإعلام الغربي يتهم روسيا بإشعال حرب عالمية باردة بعد وقف ضخ الغاز إلى أوكرانيا عام 2006
الأمريكيون يرون أن «غاز بروم» حققت أحلاما تتجاوز ما كان يفكر فيه القياصرة الروس في الماضي
ثورة الورود في جورجيا و التظاهرات البرتقالية في أوكرانيا تستفزان موسكو لغزو القرم في 2014
تراكم ثروات الغاز والنفط أعطت الرئيس الروسي فرصة تدعيم أركانه داخليا والتطلع لاستعادة دور بلاده على الساحة الدولية

 يستمد هذا الكتاب" روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة" أهميته ليس لكونه يأتي في الذكرى الثانية لإندلع حرب بين بلدين تبادلا الأدوار في النشأة و التكوين للأمة الروسية قبل ألف عام، ولا لأنه يروى قصة الصراع الموغل في القدم بين قوى البر والبحر في فضاء أورسي تأرجحت هويته بين قوى الغابة والسهل، بل لكون مؤلفه الدكتور عاطف معتمد عالم جغرافي ومثقف موسوعي خبر ما يكتب عنه، وهو الحاصل على الدكتوره من جامعة سان بطرسبرج 2001، قبل أن يتبوأ منصب المستشار الثقافي ورئيس البعثة التعليمية للسفارة المصرية في موسكو(2014- 2016، ليحط الرحال أخيرا أستاذا في كلية الآداب جامعة القاهرة.

والكتاب الصادر حديثا عن دار الشروق، يقدم عبر أحد عشر فصلا، وخاتمة "تفسيرا جغرافيا" للحرب الدائرة بين روسيا والغرب على المسرح الأوكراني، مستعينا بحشد من المصادر باللغتين الروسية والإنجليزية.

_ _ _

عقب استعراضه لمسيرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصراعه العلني والخفي مع الغرب منذ أن جاء إلى الحكم عام 2000، والخطوات التي اتخذها طيلة 20 سنة، لإصلاح البنية الروسية في السياسة الخارجية والداخلية، لاستعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، مرورا بضم شبه جزيرة القرم 2014، بالاستفزازات الغربية لروسيا في أوكرانيا التي كانت تمهيدا لانلاع الحرب في نهاية فبراير 2022، ينتقل الدكتور عاطف معتمد إلى الحديث عن سلاح النفط والغاز في الحرب الروسية الأوكرانية.
ووفقا للكتاب الذي يقدم رؤية بانورامية لايباب الغزو الروسي لأوكرانيا، والدور الغربي في اللعبة الكبرى على النفوذ الدولى في عالم لايزال يتشكل منذ انهيار الاتحاد السوفيتيى في عام 1991، ففي شهر مايو من عام 2022، وبعد مرور 50 يوما على حرب روسيا في أوكرانيا أصدرت مراكز بحثية غربية تقريرا حمل عنوان «أوروبا تمول حرب روسيا على أوروبا». ذهب التقرير إلى أنه في خمسين يوما دفعت دول أوروبا لروسيا 50 مليار يورو قيمة الغاز الروسي الذي يتدفق إلى أراضيها، بمعدل مليار يورو كل يوم!
هذه الأرقام الفلكية التي تدخل الخزانة الروسية لم تحدث في التاريخ الاقتصادي لروسيا أو أي دولة نظيرة في العالم. كان التقرير يريد أن يقول إن بوتين يقتل شعوبا أوروبية بأموال الشعوب الأوروبية.
على هذا النحو، لا يمكن فهم حرب أوكرانيا في فبراير 2022 من دون فهم أبرز معالم أسلحتها. هذه المرة ليست الأسلحة نووية ولا بيولوجية ولا تقليدية، بل سلاح آخر صامت (أو كاتم للصوت) يسمى "سلاح الغاز".

تاريخ نفطى حافل
تنتهز روسيا الفرصة التي لا تتكرر، فالصراع بأسلحة النفط والغاز متقلب ومتغير وفق التحالفات الإقليمية والدولية، ومن بينها ذلك التفاهم المفاجئ الذي جمع خصمين تاريخيين هما السعودية وروسيا ليتفقا معا في أكتوبر 2022 على خفض الإنتاج النفطي في خطوة بالطبع ستحقق أرباحا إضافية لدول أوبك وروسيا، لكنها ستحقق لروسيا نفوذا أكبر ضد القارة الأوروبية.
وبالعودة إلى الوراء قليلا، كانت روسيا نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ( 1898 ـ 1901)، رائدة في إنتاج البترول ومتقدمة عن الولايات المتحدة.، لكن الأخيرة تقدمت ا منذ 1901، وأصبحت أولى دول العالم إنتاجا حتى عام 1975 قبل أن يعود الاتحاد السوفيتي ويصبح أكبر منتج للبترول في العالم.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991، عادت روسيا إلى صدارة دول العالم حتى عام 1992 قبل أن تتجاوزها السعودية لأول مرة.
بداية من عام 2007 استعادت روسيا مكانة أولى دول العالم في إنتاج النفط، ثم تأرجحت مكانتها بين المراكز الثلاثة الأولى في السنوات الأخيرة ولا سيما منذ عام 2020. واليوم تبرز مكانتها الأساسية بما لديها من احتياطيٍّ ضخم وصادرات عظيمة من الغاز الطبيعي.
ولقد تمكنت روسيا بعد الأزمة التي عصفت بنظامها الاقتصادي في أغسطس 1998 من قطع خطوات واسعة نحو استعادة قوتها، رغم كل مشكلات الفساد، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتفشي اقتصاد الظل. وفي عام 2008 عزز بوتين حكمه بحصاد 8 سنوات متواصلة من النمو الاقتصادي الذي بلغ معدله 6.5 في المائة سنويًّا.

تقارب مع مجموعة السبع
نجح بوتين في التقارب مع الغرب في سنوات حكمه الأولى، وحظيَ بأن تصبح بلاده العضو الثامن في مجموعة الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة، كندا، فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، اليابان). وكانت مؤهلات روسيا في ذلك أنها تشكل للدول الصناعية عنصرًا أساسيًّا في أمن الطاقة العالمي.
ومن المفيد أن نتذكر أن الدور الذي تلعبه روسيا في تأمين الطاقة لمجموعة الدول الصناعية، يتفق مع جذور نشأة هذه المجموعة التي قامت بعقد أول اجتماعاتها في فرنسا عام 1975 كرد فعل على ارتفاع أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973.
مع تفكك الاتحاد السوفيتي، بدأت المجموعة الصناعية مراحل جس نبض روسيا التي تنازعتها القوى الشيوعية والليبرالية، ووجهت إليها خلال التسعينيات من القرن العشرين، دعوة للمشاركة في اللقاءات السياسية (وليس الاقتصادية) للمجموعة، في خطوة تشجيعية لانتشالها، برئاسة بوريس يلتسين، من الانتكاسة التي بدت وشيكة من عودة الشيوعية، ولدعم الإصلاحات السياسية لنقلها إلى اقتصاد السوق.
توقع مراقبو العلاقات الروسية الغربية أن تظل صفة المراقب التي منحت لروسيا في النصف الأول من التسعينيات فاعلة حتى يثبت الاقتصاد الروسي أهليته، ويرسخ أقدامه فتتحول روسيا بأمان إلى دولة ديمقراطية ورأسمالية. لكنها انتقلت منذ عام 1998 إلى العضوية شبه الكاملة على رغم عدم تحقيقها اقتصادًا رأسماليًّا، ورغم الانتكاسة التي منيت بها في مساحات الحرية السياسية. ومن ثم فقد تحول اسم المجموعة ومنذ مطلع الألفية الجديدة من سبعة زائد واحد (أي دول المجموعة السبع إضافة إلى روسيا) إلى مجموعة الدول الثماني. غير أنه بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، تم تعليق عضوية روسيا في هذه المجموعة ضمن حزمة العقوبات الغربية.

الأرقام تتحدث
ينتقل بنا الكتاب بعد ذلك إلى الحديث عن شركة "غاز بروم" الروسية التي سمع العالم باسمها عام 1992 باعتبارها ثالث أكبر شركة لإنتاج الغاز في العالم، ولم يكن يسبقها من حيث الحجم والتأثير سوى اثنتيْن من شركات القطاع الخاص هما: «إكسون موبيل» و«جنرال إلكتريك». بضغطة زر في المبنى الإداري للشركة في موسكو، يمكن للرئيس التنفيذي الجالس في غرفة التحكم أن يصيب بالتجمد دولا أوروبية بأسرها وهو ما حدث بالفعل عدة مرات.
تقف شركة غاز بروم، أو الابنة المدللة للرئيس بوتين، نموذجًا لشركة رأسمالية عملاقة عابرة للقارات والقوميات، بإنتاجها الذي يقترب من 20% من إجمالي الإنتاج العالمي للغاز. وتضخ غاز بروم في الموازنة الروسية ما بين 25 ـ 40% من مجمل عائدات القطاعات الاقتصادية الروسية، ويعمل فيها نحو 330 ألف شخص.
وتعتمد الدول الأوروبية بشكل بالغ على الطاقة من روسيا وبنسبة لا تقل في متوسطها عن 30 %، وكان من المتوقع قبل الحرب على أوكرانيا في 2022 أن يرتفع اعتماد أوروبا على الغاز الروسي بنسبة 70% بحلول عام 2030. وتعد ألمانيا في مقدمة الدول التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 32% من إجمالي استهلاكها من الطاقة، بينما تستهلك بولندا 65% من الغاز من مصادر روسية، فضلًا عن عشر دول في شرق أوروبا ووسطها تعتمد بنحو 90 ـ 95% على الغاز الروسي من خلال سيطرة روسيا على ما يقرب من 154 ألف كيلومتر من أنابيب الغاز في القارة الأوروبية.
هذه الارقام تفسر ردود الأفعال المتوقعة من حلف شمال الأطلسي " الناتو" تجاه التهديدات المحتملة للغاز الروسي، وبصفة خاصة بعد تكرار أزمة إيقاف موسكو تصدير الغاز إلى أوكرانيا و وسط أوروبا منذ يناير 2006، ثم قيامها بغزو الجزء الشرقي من أوكرانيا في 2022 بعد أن ضمت القرم في 2014.
وقد حدث ما هو أكثر من مجرد الاستعداد؛ إذ قام الناتو في رد فعله على عقاب روسيا بضم كل من فنلندا والسويد إلى عضويته، وذلك في أعقاب الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير 2022.

التخلص من حيتان الاقتصاد
يعود تاريخ شركة «غاز بروم» إلى تلك الفترة التي شهدت الاكتشافات الضخمة في حقول الغاز في سيبيريا والأورال في سبعينيات القرن العشرين؛ وهو ما أدى إلى تدعيم القدرات التصديرية للاتحاد السوفيتي من خامات الغاز. ومع انهيار الشيوعية وتحول روسيا إلى اقتصاد السوق، عبر سلسلة من الصدمات الموجعة، تعرضت الشركة للخصخصة وعهد برئاستها إلى السياسي الشهير فيكتور تشيرنوميردين الذي تولى رئاسة الوزراء بين 1992 و1998.
في تلك الفترة، رُميَ القائمون بعمليات التخصيص الواسعة التي شهدتها روسيا بتهم النهب والاستيلاء على المال العام. ولم تكن شركة غاز بروم بعيدة عن هذا الصخب؛ الأمر الذي كوَّن طبقة من حيتان الاقتصاد الروسي وأدى إلى تفشي نهج الفساد. ولإنقاذ الموقف حرص الكرملين على تعيين رؤساء ومديري القطاعات في شركة «غاز بروم» من أكثر المقربين والموالين، واحتفظت موسكو بنسبة 51 في المائة من أسهم هذه الشركة التي تشرف على أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم.
ويذهب الأمريكيون إلى أن «غاز بروم» تحقق أحلاما تتجاوز ما كان يفكر فيه القياصرة في الماضي، وما كان يحلم به زعماء الاتحاد السوفيتي. وتزداد قوة الشركة من خلال القرين المقابل الذي يتحكم في أمن الطاقة وهو شركة "روس ـ نفط ".
سباق الصدارة في انتاج الطاقة
يدرك بوتين أن كلًّا من «غاز بروم» و«روس نفط» تراكمان كل سنة مزيدا من الثروات ومزيدا من النفوذ والتأثير على مجريات السياسة في العالم، لا سيما منذ عام 2007حين أصبحت روسيا أكبر منتج للنفط في العالم، ولم تغادر هذا الموقع سوى إلى المركز الثاني أو الثالث، على نحو ما صارت وفق إحصاءات 2020 من احتلال المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والسعودية. وتنتج روسيا اليوم ما يزيد على 10 ملايين برميل يوميًّا.
وفي قطاع الغاز، تقدمت روسيا لتصبح ثاني أكبر منتج في العالم بعد الولايات المتحدة بإنتاج يتجاوز 22 تريليون قدم مكعب سنويًّا. وأخذا في الاعتبار ما لديها من احتياطي يقدر بنحو 1700 تريليون قدم مكعب؛ فإن هذا يعني أن لديها ما يكفي لتظل على قيم الإنتاج الحالية لمدة 75 سنة على الأقل.
ومنذ أحداث عام 2014 التي قامت فيها موسكو بضم القرم، تعرضت روسيا لعقوبات من الولايات المتحدة وأوروبا شملت حظرا على حصول روسيا على التقنيات الغربية وإيقاف الاستثمارات الأمريكية في قطاع النفط الروسي، وتسبب ذلك في توقف وصول تقنيات التنقيب في المياه العميقة وغيرها من الوسائل المتقدمة.
ومنذ إبريل 2020، استغلت روسيا حالة الركود في استهلاك الطاقة بسبب وباء كوفيد ـ19، وبدأت في التنسيق مع مجموعة أوبك فيما عرف باتفاق «أوبك +» لتنظيم ضخ البترول والحفاظ على أسعار مربحة للمنتجين.
وتسيطر الحكومة الروسية على 80 % من إجمالي إنتاج النفط والغاز عبر أربع شركات رئيسية هي: «روس ـ نفط» و«غاز بروم» و«لوك أويل» و«تات نفط». وذلك بعد أن وجه بوتين ضربة قاضية للقطاع الخاص والأجنبي كان أبرزها تأميم شركة «يوكوس» الخاصة التي كانت أكبر شركات النفط في البلاد، حين تم اعتقال رئيسها ميخائيل خودوركوفسكي في أكتوبر 2003 بتهمة التهرب من الضرائب، فتمت تصفية الشركة لصالح الكرملين.

خنق غرب أوروبا
أول تجربة عرفتها "روسيا بوتين" لاستخدام أنابيب الغاز كسلاح في الصراع مع الغرب جاء في شتاء 2006، وفي شهر يناير، وخلال أوج البرودة القارسة، عندما أوقف الكرملين تدفق الغاز إلى أوكرانيا؛ وهو ما قلل بدوره من تدفقه إلى دول غرب أوروبا.
بررت غاز بروم، خفض التدفق إلى كل من أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا؛ لأن هذه الدول الثلاث لم تدفع لروسيا نفس الأسعار الأوروبية، على الرغم أن روسيا كانت تسمح لها من قبل بالحصول على أسعار متدنية مقارنة بأسواق أوروبا الغربية؛ وذلك بهدف أن تبقى الدول الثلاث تراعي مصالح موسكو وأمنها القومي.
وقد اتضح أن السبب الحقيقي هو السياسة وليس الأسعار؛ لأن روسيا استمرت تضخ الغاز إلى كل من بيلاروسيا وأرمينيا بأسعار أقل من السوق الأوروبية تقديرا للعلاقات الإيجابية معهما. ويعد هذا مثالا حديثا على استخدام روسيا للغاز كسلاح سياسي أكثر منه ورقة اقتصادية. كانت حادثة عام 2006 جرس إنذار كبير للأوروبيين الذين صاروا يدركون أنهم سيكونون عرضة في المستقبل لتهديد روسي بشأن إمدادات الغاز ووقوعها فعليًّا تحت رحمة غاز بروم.

يسمح الموقع الجغرافي لأوكرانيا بأن تلعب دور الممر في التجارة الخارجية لروسيا. إذ تمثل أوكرانيا محطة عبور مهمة للسلع الروسية إلى السوق الأوربية؛ حيث تستفيد أوكرانيا جغرافيًّا من العجز الذي تعيشه الموانئ الروسية على بحر البلطيق والبحر الأسود. وتصدر روسيا نحو 40% من سلعها عبر أوكرانيا، بل إن معظم الغاز الذي تستهلكه أوروبا من روسيا يمر عبر الأراضي الأوكرانية من خلال الخط المعروف بخط دروچبا (الصداقة).

خلال السنوات الماضية بدأت روسيا في ممارسة ما صار يعرف بالهيمنة الروسية على أمن الطاقة في أوروبا. وسرعان ما وصف الإعلام الغربي ارتهان العواصم الأوروبية للغاز الروسي بمصطلحات الحرب الباردة على شاكلة "حرب الهيمنة" و"حرب أنابيب الغاز" ومعركة روسيا من أجل "تركيع أوروبا".
وفي مطلع 2006 وبعد أن أوقفت روسيا ضخ الغاز عن أوكرانيا بحجة عدم دفع «كييف» السعر المناسب عالميًّا، وعقب أن عاشت أوروبا أزمة طاقة حادة بسبب توقف الغاز المار عبر أوكرانيا، نشبت حرب إعلامية تتهم روسيا بإشعال حرب عالمية باردة عبر إيقاف ضخ الغاز، لكن في النهاية نجحت موسكو وكييف في الاتفاق على أن ترفع روسيا سعر بيع الغاز في مقابل رفع أوكرانيا رسوم مرور أنابيب النفط الروسية عبر أراضيها.
وقد شهد عام 2006 ارتفاع سعر الغاز من 55 دولارا لكل ألف م3 إلى 110 دولارات لنفس الوحدة، ثم ارتفع السعر إلى 160 دولارًا للألف م3. وفي يناير 2009 قفز السعر إلى 400 دولار للألف م3؛ وهو ما قدم لروسيا ثروة هائلة استثمرتها في غزو القرم في 2014 وتحمل العقوبات الاقتصادية الغربية اللاحقة.
ومن خلال استخدام سلاح الغاز سعت موسكو إلى تخفيف الوزن الجيوسياسي لأوكرانيا ـ إن لم يكن خنقها ـ وذلك من خلال حرمانها من عائدات مرور الغاز والنفط الروسي والتربح من تجارة الترانزيت عبر أراضيها، ومن أجل ذلك مضت بكل قوة فمدت خطين يطوقان أوكرانيا من أجل تجاوزها؛ أحد الخطين مزدوج عبر بحر البلطيق يسمى «السيل الشمالي» أو «نورد ستريم» (1 و2)، والآخر عبر البحر الأسود ويسمى «السيل الجنوبي» (1و2) والذي يحمل مسميات أخرى عديدة مثل «الخط التركي»، ويمر بالبحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا من خلال شعبتين: تتجه الأولى شمالا عبر بلغاريا وصربيا وصولا إلى النمسا، وتتجه الثانية غربا عبر بلغاريا واليونان وصولا إلى إيطاليا.
والهدف هو تطويق أوكرانيا وإبطال فاعلية شبكة أنابيب «دروچبا» المارة عبر أراضيها. وفي مجمل الأمر يمكن القول إن الكرملين قد نجح في تحويل ملف الغاز إلى ورقة ضغط جيوسياسية في القارة الأوروبية، وتجاوز مرحلة الاستعانة بالغاز في إعادة ميلاد الدولة الروسية على المستوى الاقتصادي.

البرتقال والورود الملونة
يعيد الدكتور عاطف معتمد جذور الأزمة التي نعيشها اليوم وتحمل نذر حرب عالمية ثالثة، وفقا لرؤيته، إلى عام 2004 مع "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا التي جاءت في أعقاب "ثورة الورود" في جورجيا 2003، وهي أساليب تغيير الحكم على النموذج الديمقراطي المدعوم من الغرب والولايات المتحدة.
وترتب على الثورة البرتقالية خلع الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش وفوز الرئيس الموالي للغرب فيكتور يوشينكو، وهو ما اعتبرته موسكو عدوانا على مجال نفوذها الإقليمي.
استمر مسلسل انسلاخ أوكرانيا عن الفضاء الروسي والانضمام للفضاء الأمريكي وحلف الناتو لدرجة خلقت المبررات والذرائع لفلاديمير بوتين للقيام بخطوته التالية في 2022 بغزو الأقاليم الشرقية من أوكرانيا وضمها إلى الدولة الروسية.
وفي المحصلة، وفق الكتاب الذي نستعرض جوانبا منه، ترى موسكو أن اندفاعها إلى أوكرانيا لم يكن اختياريًّا ولا وليد اللحظة، بل إنها حاولت تفادي تلك الحرب، غير أن ما حدث كان تراكميًّا أشبه بنظرية الألواح التكتونية، حيث تتحرك الألواح باستمرار في مواقعها بقشرة الأرض، لكن التحرك غير ملموس وبطيء ويقاس بعدة ملليمترات في السنة، حتى إننا ننام ونصحو وتمر عشرات السنين دون أن نلحظ شيئا من الطاقة الحركية دائمة الحدوث. ثم فجأة يقع زلزال أو انفجار بركاني بعد وصول هذه الألواح إلى مرحلة التصادم الحتمي، وهو ما حدث في أوكرانيا.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك