الناقد الأدبي حسين حمودة لـ«الشروق»: أم كلثوم طلبت من نجيب محفوظ نسخة من إحدى رواياته فسلَّمها إلى بواب «الفيلا» وانصرف - بوابة الشروق
السبت 5 أكتوبر 2024 7:28 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الناقد الأدبي حسين حمودة لـ«الشروق»: أم كلثوم طلبت من نجيب محفوظ نسخة من إحدى رواياته فسلَّمها إلى بواب «الفيلا» وانصرف

حوار ــ إسماعيل الأشول:
نشر في: الخميس 10 ديسمبر 2020 - 10:22 م | آخر تحديث: الخميس 10 ديسمبر 2020 - 10:27 م

لم يعبأ بالنقود فى حياته ولم يأخذ من جائزة نوبل شيئا لنفسه
كان أكثر البشر تفاؤلًا بالمستقبل.. واعتبر التشاؤم نوعا من «الترف»
عمل بكثافة فى كتابة السيناريو ليتمكن من الزواج ثم توقف بعد ذلك
بلدان أخرى تمنح مبدعين أقل قيمة منه قدرا أكبر من الحفاوة والاهتمام
كان متسامحا تماما مع «غيرة أبناء الكار الواحد».. وآمن بأن الإبداع والحياة يتسعان للجميع
وهم الاعتقاد بأنه ضد الدين ارتبط بتعرّض «أولاد حارتنا» إلى قدر بالغ من «إساءة القراءة»
مع كل مناسبة تمر بميلاد أو وفاة نجيب محفوظ (1911 – 2006)، تتزاحم أمام عين الباحث عن زاوية جديدة من مسيرة صاحب «أولاد حارتنا» آلاف الصفحات التى تناولت مشواره مع الإبداع والحياة. هنا تغدو الحاجة كبيرة إلى الاستماع مجددا إلى د. حسين حمودة، أحد أصدقاء نجيب محفوظ المقربين، وواحد من أبرز النقاد الذين تصدوا بالدراسة والبحث فى أعمال عميد الروائيين العرب.

عن نجيب محفوظ وما ارتبط بكتاباته من جدل، وما خلفه وراءه من آثار يتقصاها الدارسون جيلا بعد جيلا، جرى هذا الحوار، بالتزامن مع مرور 109 أعوام على ميلاده الذى يوافق الحادى عشر من ديسمبر كل عام..

* عددت فى مناسبة سابقة بضعة أوهام ارتبطت باسم نجيب محفوظ وعلاقته بالمرأة والدين والطبقة الاجتماعية التى كتب عنها بعض رواياته.. فماذا عن الحقائق المقابلة لها؟
ــ هذه الأوهام ارتبطت بقراءات ذات توجهات بعينها فى أعمال محفوظ ثم قامت بتعميمها وكأنها حقائق ثابتة، أو ارتبطت بفترة محدودة ما ثم تم الأخذ بها كمسلَّمات راسخة ممتدة فى أزمنة تالية، وارتبطت أحيانا بعدم التمييز بين المؤلف وشخصياته، وأحيانا أغفلت السياقات الواضحة داخل أعمال محفوظ، وللأسف فى بعض الأحيان كانت شكلا خالصا من أشكال «إساءة القراءة».

مثلا، هناك من رأى فى بعض روايات محفوظ تقليلا من شأن المرأة، وتقليصا لدورها، أو تأكيدا على سلبيتها... إلخ، دون محاولة لربط صورة المرأة هذه بالسياقات والنماذج التى توقفت عندها أعمال محفوظ، ودون تمييز بين موقف محفوظ نفسه الذى لم يمجد أبدا تلك السياقات، ومواقف تشير إليها وجهات نظر أخرى فى بعض أعماله. «أمينة» مثلا فى «الثلاثية» صيغت بالصورة الطيبة المستسلمة لقمع زوجها كجزء من الاهتمام برصد المواضعات والأعراف الاجتماعية المكبّلة التى كانت قائمة فى زمن ما.. وذلك الزمن، بكل ما فيه، لم يكن اختراعا من اختراعات محفوظ، كما لم يقدمه محفوظ على أنه فردوس أو حلم ينبغى الرجوع إليه.. وأكثر من هذا أن صياغة شخصية أمينة تتغير وتختلف خلال الزمن الذى تقطعه الرواية من أولها لآخرها؛ فى نهاية الرواية سوف تصبح أكثر حرية مما كانت من قبل، سوف تخرج من البيت الذى ظلت حبيسة جدرانه، وتقريبا سوف تتبادل دورها مع زوجها الذى كان يحرمها حريتها.. فى نهاية الرواية ستتحرك هى بين المزارات المتعددة بينما يصبح هو قعيد البيت.. يضاف إلى هذا أن محفوظ، فى أعمال أخرى، لم يقف عند صورة المرأة السلبية، أو مغيّبة الوعى (فى رواية «الحرافيش» يتحرك عاشور الأخير ويغيّر عالم كل من حوله بفضل الوعى الذى امتلكه، والذى أسهمت امرأة فى تشكيله.. وهكذا).

أيضا من الأوهام التى شاعت عن محفوظ أنه «كاتب الطبقة المتوسطة»، وقد ارتبط هذا الحكم بتحليل بعض أعماله فى فترة مبكرة تنتمى إلى خمسينيات القرن الماضى، لكن تم ترديد هذا الحكم خلال عقود طويلة تالية، وربما لا يزال يتردد حتى الآن، وكأن محفوظ لم يكتب سوى عن هذه الطبقة. ومن الأوهام كذلك كان وهم أو اتهام محفوظ بأنه «كاتب يدعو للرذيلة»، استنادا إلى وجود شخصيات نسائية تعمل بالدعارة فى بعض أعماله، ولم يهتم هذا الاتهام عند الصياغة التى تقدم بها روايات محفوظ هذه الشخصيات، وهى صياغة تقترن بالشفقة عليهن، وتدعو إلى التخلص من الملابسات والأسباب الاجتماعية التى قادتهن إلى هذا المصير التعس، وبعض هذه الشخصيات يمكن اعتبارها أفضل من شخصيات أخرى تبدو «نظيفة» تماما (ولنلاحظ «ريرى» فى «السمان والخريف» مثلا).. أما وهم أن محفوظ ضد الدين فيرتبط بتعرّض عمل لمحفوظ إلى قدر بالغ من «إساءة القراءة»، أقصد طبعا (أولاد حارتنا).. وإساءة قراءة هذه الرواية تمثلت فى إغفال أبسط أعراف قراءة العمل الأدبى، بل وابتداء فى عدم التعامل مع هذه الرواية باعتبارها رواية، لقد «قرئت ككتاب»، بتعبير محفوظ نفسه.. (أولاد حارتنا) ليست ضد الأديان، ولكنها تقدم «أمثولة» استخدام الدين من بعض الأطراف ومن بعض البشر. على أية حال، بدأ بعض هذه الأوهام ينقشع، ولعلها جميعا سوف تنقشع فى وقت قريب.

* إلى أى مدى يمكن اعتبار ما قاله جورج أورويل عن كون السيرة الذاتية نوعا من الفضيحة، سببا فى عدم كتابة محفوظ سيرته بنفسه مكتفيا ببعض الكتابات المتناثرة هنا وهناك؟
ــ لا أعتقد أن هذا المعنىى كان سببا من الأسباب التى جعلت نجيب محفوظ يتجنب كتابة سيرته الذاتية كتابة مباشرة.. أعتقد أن «التواضع» الذى لازمه دائما كان وراء تصوره أن حياته ليس فيها ما يجعلها قدوة للآخرين، أو وما يهيئ له دافعا كافيا لكتابة مذكراته. ومع ذلك، فهناك كتب يمكن أن تعدّ مذكرات مكتملة أو شبه مكتملة لسيرة نجيب محفوظ الذاتية، أهمها كتاب رجاء النقاش (نجيب محفوظ: مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته)، وهو الكتاب الذى أشار إليه محفوظ، غير مرة، على أنه مذكراته التى «قالها ولم يكتبها».. كذلك هناك كتابات أخرى مهمة منها كتاب جمال الغيطانى «نجيب محفوظ يتذكر»، ثم كتاب إبراهيم عبدالعزيز «أنا نجيب محفوظ».. ويمكن ملاحظة أن محفوظ فى كتاب رجاء النقاش قد تحدث بصراحة مطلقة عن بعض تجاربه، مما يجعله بعيدا عن المخاوف التى تشير إليها عبارة أورويل!

من ناحية أخرى، يمكن أن نضيف إلى هذا ما كتبه نجيب محفوظ من كتابات إبداعية بثّ فيها بعض ملامح من سيرة حياته، ومن ذلك ما ارتبط بشخصية «كمال عبدالجواد» فى «الثلاثية»، ثم بعض نصوص «أصداء السيرة الذاتية»، وحتى بعض نصوص «أحلام فترة النقاهة».. فهذه الكتابات أشبه بخلاصات من سيرة حياة نجيب محفوظ، لكنها جميعا مكتوبة بروح الإبداع.

* كتب مؤخرا الأستاذ أحمد الخميسى مقالا حول «الفن والفلوس» وضرب مثالا بنجيب محفوظ الذى واصل الكتابة، ومجايله عادل كامل الذى توقف نهائيا عندما لم يجد عائدا مجزيا من روايتيه «ملك من شعاع» و«مليم الأكبر».. هل يمكن القول إن نجيب محفوظ لو فكر فى العائد المادى ما كان ليصل إلى المرتبة التى نالها فى الرواية؟

ــ نجيب محفوظ، كما شهدت، لم يكن يعبأ بالنقود أبدا.. لم تكن النقود ضمن حساباته إلا فيما يتعلق بالمتطلبات الضرورية لبيته وأسرته. ونحن نعرف جميعا كيف قام بتوزيع مكافأة جائزة نوبل ولم يأخذ منها شيئا لنفسه، ويضاف إلى هذا تبرعاته، بشكل سرى، لأعمال خيرية كثيرة لم يكن يعلن عنها أبدا.. ولنا أن نلاحظ أن الفترة التى عمل فيها بكثافة فى كتابة السيناريوهات هى الفترة التى كان يحتاج فيها لبعض الأموال كى يستطيع أن يتكفل بالنفقات الأولى للشروع فى الزواج، ثم توقف بعد ذلك عن كتابة السيناريوهات. ولو كان مشغولا بجمع المال لما توقف، فالمؤكد أن كتابة السيناريوهات يمكن أن تدرّ أموالا أكثر بكثير من عائدات كتابة الأدب. على أية حال، محفوظ وصل إلى ما وصل من مكانة أدبية لانشغاله بما يمكن أن يقوله للعالم، وبالكيفية الجميلة التى يمكن بها أن يقول. كان مهتما بقيمة الإبداع، ومكرسا حياته كلها تقريبا لهذا لإبداع، ولم يكن الحصول على المال يمثل هدفا من أهدافه، وبقدر إخلاصه هذا وصل إلى ما وصل إليه من مكانة أدبية، لقد أعطى الكثير للأدب، والأدب أعطاه الكثير.

* وكيف تنظر إلى تلك الجدلية المستمرة حول احتياج الأديب إلى عمل يرتزق منه إلى جانب إبداعه؟
ــ العمل فى حالات كثيرة، كما هو الحال فى مجتمعاتنا، يمثل ضرورة للأديب كى يواصل إبداعه وقبل ذلك لكى يستطيع العيش.. عائدات الأدب عندنا لا تكفى غالبا للوفاء بمتطلبات الحياة المعقولة (والأمر مختلف فى مجتمعات أخرى، حيث يمكن للكاتب أن يتعيّش من عمل إبداعى واحد).. ومن هنا، ما دمنا نتكلم عن نجيب محفوظ، يمكن أن نتفهم التزامه بوظيفته الحكومية حتى بلغ سنّ «المعاش»، وإن كان قد أفاد من هذه الوظيفة إفادات متنوعة من نواح أخرى، منها الحفاظ على الحركة اليومية المنتظمة، ومنها الارتباط أو الانخراط فى المجتمع، ورؤية أو مراقبة أحوال هذا المجتمع، والتواصل مع أفراده وجماعاته وفئاته المتعددة.

* طالعت صورة للأستاذ نجيب محفوظ يتبادل الضحك مع أم كلثوم فى إحدى مناسبات احتفاله بمولده.. فكيف كان ينظر كل منهما إلى الآخر؟
ــ نجيب محفوظ كان يقدّر موهبة أم كلثوم تقديرا عظيما، وكانت أغنياتها جزءا أساسيا من الموسيقى التى يسمعها ويحبها ويستمتع بها، وقد وصل الأمر كما نعرف إلى درجة إطلاق اسمها (وهو ليس اسما شائعا) على إحدى ابنتيه.. وقد سعدت بأن أسمع منه تحليلات عميقة حول قدرات أم كلثوم الفنية وإمكانات صوتها بالمقارنة مع مغنيات أخريات جميلات الصوت لكن ينقصهن شيء ما (منهن أسمهان)، وقد كان يرى أن «الأطلال» هى أجمل ما غنّت، على كثرة أغنياتها الجميلة.. لكن الأستاذ نجيب، مع هذا كله، لم يكن يحب أن يقترب من عالم أم كلثوم خارج الغناء، ولا أن يدور فى فلك هذا العالم.. ربما حرصا على وقته.. وكلنا نعرف الحكاية المشهورة، المرتبطة بمشاركتها فى الاحتفال بعيد ميلاده الخمسين بجريدة «الأهرام» (ولعل الصورة التى شاهدتها حضرتك كانت فى هذا الاحتفال)، وأنها قالت له إنها لم تستطع الحصول على روايته الجديدة (آخر رواية كتبها وقتذاك)، وإنها تتمنى أن يزورها ويهديها نسخة من هذه الرواية.. كانت على الأرجح تريد إقامة نوع من التواصل معه.. وما حدث أن الأستاذ نجيب قد ذهب فى اليوم التالى إلى «فيللتها» بالزمالك، حاملا معه نسخة مهداة إلى أم كلثوم من روايته الجديدة، وأعطى النسخة لـ«البواب» كى «يسلّمها» لأم كلثوم.. ومشى دون أن يتجاوز باب الفيللا!

* كيف كان يتحدث الأستاذ نجيب محفوظ عن المستقبل فى جلساتكم معه.. سواء المستقبل بالنسبة للكتابة والأدب أو بالنسبة لواقع الأحوال فى مصر وحياة أهلها؟
ــ الأستاذ نجيب هو أكثر من عرفت من البشر تفاؤلا وإيمانا بأن المستقبل سوف يكون أفضل، ليس لواقع الحياة فى مصر فحسب، بل للواقع الإنسانى كله وللبشرية كلها.. كان الأستاذ مجبولا بحق على هذا التفاؤل، وكان يرى أن التشاؤم هو نوع من «الترف» لا يمتلكه ولا يستطيع أن يصل إليه! وفيما يخص رؤيته لمستقبل الأدب، فقد كان يصدر فى كل تصوراته عن رؤية عميقة لتاريخ الأدب نفسه، ومسيرة هذا الأدب أو مسيراته المتعددة فى الميراث الإنسانى كله.. وتأسيسا على هذه الرؤية كان يرى أن الإبداع الأدبى، وغير الأدبى، لم يتوقف أبدا، ولن يتوقف أبدا، بل هو فى حالة «تجدد» باستمرار.

* إلى أى مدى ترى أن مصر أنصفت نجيب محفوظ حيًا وميتًا؟
ــ لعل نجيب محفوظ قد نال شيئا غير قليل من الاهتمام الذى يستحقه، ولعل هذا الاهتمام يتصل ويستمر ويتنامى.. طبعا هناك قدر أكبر من الاهتمام والاحتفاء، فى بلدان أخرى، بمبدعين أقل قيمة من نجيب محفوظ.. وطبعا أيضا هناك طرق إبداعية ممكنة وكثيرة يمكن التفكير فيها على سبيل تزايد الاهتمام بمحفوظ، والاحتفاء بأعماله، ولكن كل شيء سوف يأتى فى حينه، أو هكذا أتمنى وأرجو.

ــ عانى المتنبى من مكايد شعراء عصره لطغيان موهبته على منتجهم الشعرى.. فهل تكرر الأمر مع نجيب محفوظ بشكل أو بآخر؟
ــ لا أستطيع أقول: «نعم.. تكرر الأمر بدرجة أو بأخرى».. إذا فعلت هذا فلن أسامح نفسي! ببساطة لأننى أكون قد جاوزت الحقيقة، ولأن الأستاذ نجيب محفوظ نفسه لم يكن يرى الأمر على هذا النحو أبدا.. لقد كان قادرا على فهم الدوافع والنوازع الإنسانية، ومنها «الغيرة» بين «أبناء الكار الواحد»، مثلا، وكان فى الوقت نفسه متسامحا تماما مع هذه الدوافع والنوازع.. وعلى أية حال، لم تصل «المكايد» إزاء محفوظ إلى أى درجة من درجات القسوة الذى وصلت إليها مع المتنبى.. ربما لأن المبدعين فى عصر محفوظ لم يكونوا بقسوة المبدعين فى عصر المتنبى، ولأن نجيب محفوظ كانت له «طبيعة» أخرى مختلفة عن طبيعة المتنبى،.. المتنبى كان يشعر دائما بتفوقه، وبذاتيته، وتقريبا كان نرجسيا.. أما نجيب محفوظ فكان على النقيض من هذا.. كان يعرف قيمة إبداعه ويعرف قيمة كل إبداع آخر ينتمى إلى المبدعين من حوله، وكان مقدّرا لهم جميعا.. وبجانب هذا كان مؤمنا بأن الحياة، والإبداع، فيهما من الرحابة ما يجعلهما يتسعان للجميع.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك