أسامة عرابى يكتب: نجيب محفوظ.. قيمة أدبية وإنسانية متجدِّدَة - بوابة الشروق
السبت 5 أكتوبر 2024 7:32 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسامة عرابى يكتب: نجيب محفوظ.. قيمة أدبية وإنسانية متجدِّدَة


نشر في: الجمعة 11 ديسمبر 2020 - 9:41 م | آخر تحديث: الجمعة 11 ديسمبر 2020 - 9:41 م

ــ قال لفؤاد دوارة: «أتعرف ما الذى جعلنى أستمرّ ولا أيأس؟ لأنى اعتبرتُ الفن حياة لا مهنة»
كان من حسن حظى أن تعرفت إلى الأستاذ نجيب محفوظ عن كثب فى جلستنا الأسبوعية عصر كل جمعة فى منزل العالم الجليل الدكتور يحيى الرخاوى بالمقطم، أقرأ له الصحف والمجلات والكتب، وما يسطّره مجايلوه ورفاق رحلته المجيدة من كتابات، وأصغى مع زملائى لتعليقاته وذكرياته؛ فنتعلم منه طرائق المنهج والمعالجة، وزوايا النظر والبحث، وحيوية التركيز على الحلقة الرئيسة فى القضية المثارة؛ فلا يشغلنا العَرَضى عن الجوهرى، نائين بأنفسنا عن تفاصيل بمقدورها أن تحرف اهتماماتنا عن جادة الطريق، ثم ــ وهذا هو الأهم ــ كيف نختلف فنكتمل ونأتلف. ولعل هذا ما حفظ له بعضًا من قيمته ووهجه؛ فأبقى مشروعه الروائى على الزمن دون محاولة التفات واحدة منه إلى الوراء، ولا الانشغال بثارات قديمة، ولا إنفاق وقت لا طائل منه فى تصفية حسابات غير مبرأة من الهوى. وقد سأل الأستاذ نجيب محفوظ الناقد الكبير فؤاد دوارة فى حوار أجراه معه لمجلة «الكاتب»، عدد يناير 1963، قائلًا: «أتعرف ما الذى جعلنى أستمرّ ولا أيأس؟ لقد اعتبرتُ الفن حياة لا مهنة»، واستطرد: «فحينما تعتبره مهنة لا تستطيع إلا أن تشغل بالك بانتظار الثمرة. أما أنا فقد حصرتُ اهتمامى فى الإنتاج نفسه، وليس بما وراء الإنتاج. كنتُ أكتب وأكتب، لا على أمل أن ألفت النظر إلى كتاباتى ذات يوم، بل كنتُ أكتب وأنا معتقد أنى سأظلّ على هذه الحال دائمًا. وأضاف: «أتعرف عناد الثيران؟ إنه خير وصف للحالة النفسية التى كنتُ أعمل بتأثيرها».
لهذا أصبحتِ الكتابة لديه صنو الحياة فى وجوهها المتعدِّدَة، واختياراتها المحدَّدَة؛ لذا قال كمال عبدالجواد وهو يُفكِّر فى ابن شقيقته «أحمد شوكت» المعتقل فى سجن الطور: «إنى أومن بالحياة وبالناس (قال له أحمد)، وأرى نفسى ملزمًا باتِّباع مُثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جُبن وهروب، كما أرى نفسى ملزمًا بالثورة على مُثلهم العليا ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الصورة الأبدية». لذلك لن أنسى له ما حييت، موقفه النبيل يومَ أجريتُ معه حوارًا نُشر فى جريدة العربى الناصرى، أدان فيه جيش العدوان الإسرائيلى، ودوره الاستعمارى فى المِنطقة، وأيَّدَ فيه بوضوح لا لبْسَ فيه العمليات الاستشهادية الفلسطينية على إطلاقها. الأمر الذى أثار ثائرة التطبيعيين ومَن فى قلوبهم مرض. ودفع صحفيًّا بجريدة الأهرام إلى أن يرجوه تكذيبى، ونفى ما ورد بالحوار جملة وتفصيلا، وله فى ذلك صفحة كاملة حسب اتفاقه مع رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة. لكن الرجل بهدوئه الآسر واستوائه النفسى الباهر، أفهمه أن هذه هى آراؤه دون تحريف ولا تصحيف منى. ولما بدأ المخبر الصحفى رحلة الضغط عليه باتجاه ما ينشد ويروم، لم يجد الرجل بُدًّا من زجره بقسوة غير معهودة منه؛ فألزمه حدَّه. وظلَّ طوال حياته حريصًا على متابعة الكتابات الجديدة، ومواكبة شواغلها الفنية والجمالية، والاهتمام بأخبار الكتب وما تنطوى عليه من إشكاليات فكرية. بالإضافة إلى هموم وطننا العربى ومعضلات تطوره على مختلِف الأصعدة. وأذكر فى هذا السياق، ما كتبه الناقد اللبنانى الراحل محمد دكروب فى ملحق جريدة «النهار»، عدد 25 من أغسطس 2001، عن لقائه بمحفوظ، وانشغاله بمعركة الزواج المدنى فى لبنان، وقوانين الأحوال الشخصية بها. وكيف يروْن حزب الله، وفيمَ يختلف عن الجماعات الإسلامية والإخوان عندنا؟ الأمر الذى أثار دهشته؛ فعلَّق بقوله: ليس المهم هنا ما قلناه فى الجواب.المهم هنا دلالة السؤال ومعناه، وواقع اهتمامات محفوظ ومتابعاته، حتى فى حالة عجزه الصحى عن القراءة والسمع، ومحاولته دائمًا معرفة الوقائع والتوصُّل إلى المعنى. وكان صديقاى المهندس نعيم صبرى الكاتب الكبير، ود. محمد راضى المثقف النابه، وأستاذ أمراض الجهاز الهضمى والأوعية الدموية بكلية الطب ــ جامعة الأزهر، يقرآن له رواياتهما قبل نشرها، منصتيْن إلى ملاحظاته وآرائه، فى مناخ تسوده الألفة والمودة. وأذكر أنه طلب منى ذات يوم، أن أقرأ له رواية «دافنشى كود» لـ«دان براون» إثر الضجة التى رافقت صدورها، وأحاطت بمصادرتها. واستمرَّ ذلك كذلك جلساتٍ خمسًا، دارت بعدها مناقشات ضافية.. رصينة جَلتْ أبعادها ومعالمها. وهو ما حدث قبل ذلك إبَّان مصادرة الروايات الثلاث الشهيرة: قبل وبعد لتوفيق عبدالرحمن، وأحلام محرَّمة لمحمود حامد، وأبناء الخطأ الرومانسى لياسر شعبان. ولا أنسى إن نسيت، حرصه على أن أقرأ له مذكرات صديقه الأحبّ المخرج السينمائى كمال عطية التى صدرت فى سلسلة «آفاق السينما» بعنوان«السيرة أطول من العمر» ضمن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكذلك ما يكتبه عنه المفكر الكبير جورج طرابيشى الذى ربطتهما زمالة روحية منذ كتب عنه دراسته الرائدة «الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية». وكان بمقدور أى كاتب أو صحفى أن يقرأ له ما كتب؛ مقالًا كان أو دراسة، ليصوغ بعدها أسئلة يتمحور حولها نقاش جلستنا التى كانت تغتنى لا شكَّ. فقد كان يتعامل مع تلاميذه وجلسائه معاملة الأنداد، وليسوا محض دراويش تتطوَّح وجدًا وحبًّا فى شيخها الذى يُمثّل التعبير الدائم عن هرمية الروح نفسها! واستمرَّ على مأثور عادته ذا ضمير يقظ، وتكوين إنسانى راقٍ. نصيرًا للحريات الديمقراطية، شديد الحساسية لكل ما يحول بين الإنسان والتعبير عن نفسه بحرية، أو ممارسة حقه فى التجريب والمغامرة الفنية. ولم يتخلَّ يومًا عن عفته وترفعه عما يشين الإنسان؛ فابتعد عن الحفلات والمهرجانات الصاخبة، ورفض قبول الدعوات الرسمية التى توجَّه إليه، وقنع بالجلوس بين أصدقائه وتلاميذه وحوارييه، متصالحًا مع نفسه والحياة. ألم يرفض كتابة السيناريو الخاص بروايته «بداية ونهاية» التى قرَّرَ الأستاذ صلاح أبو سيف تحويلها إلى فيلم؟ وبلغ من نزاهته وتجرده الكامليْن أنه رفضها وهو بعدُ مدير للرقابة؛ درءًا للقالةِ والغرض. ألم يكتب فى وصيته مشدِّدًا على ضرورة إقامة جنازة شعبية له تخرج من حى الحسين الذى شهد طفولته وأحلامه الخضراء، قبل أى احتفالات رسمية؛ ليُشهِد أهلها أنه على العهد باقٍ، وأنهم نسغ الحياة وامتدادها الحى الباقى فينا ما بقيَ الزمن، وعاش الناس؟ لهذا سار كما سار عبدربه التائه فى «أصداء السيرة الذاتية» (تتبعه نداءات الحبّ والموت)، وكابد مثله (من الشوق ما جعل حياتى لهفة مكنونة من حنين). مؤمنًا بأن صلاح أحوال البلاد لن يتحقق إلا (عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة). الأمر الذى هيأ له أن يكون واحدًا من جيل البنَّائين العظام، الذين أسهموا بقسط وافر فى صياغة الوجدان المصرى، وإرساء وعى مغاير لدى نخبه التائقة إلى العدل والحرية، وتأسيس رواية عربية تنتمى إلى درب الحداثة ذاته، فى إدراكها الباكر الحى لدورها فى كسر احتكار السلطة للحقيقة، والانحياز إلى التعددية، والإيمان بنسبية المعرفة، وعدم الانغلاق النرجسى على الهُوية، ومساءلة التاريخ. ولم يكن ذلك بغريب على رجل استهلَّ تكوينه الثقافى والمعرفى بدراسة الفلسفة فى كلية الآداب ــ جامعة القاهرة عام 1930، وتخرَّج فى عام 1934. وتأثر بعمالقة كبار من طراز: العقاد والمنفلوطى ومصطفى عبدالرازق وسلامة موسى والمازنى ويحيى حقى وتوفيق الحكيم. وأقدم على ترجمة كتاب «مصر القديمة» لـ«جيمس بيكي»، حتى وصل خلال ترجمته إلى حكاية عن قارئ الغيب الذى تنبأ لخوفو بشيء. ثم لم تكتمل الحكاية؛ نظرًا إلى فقدان ورقة البردى التى كتب عليها. فتخيَّلَ تكملة لها؛ فكانت روايته التاريخية الأولى «عبث الأقدار». يقول الأستاذ نجيب محفوظ فى هذا الصدد: «قرَّرت أن أنحو منحى الكاتب الإنجليزى وولتر سكوت فى كتابة تاريخ بلاده، بكتابة تاريخ مصر كله فى شكل روائى».غيرأنه رأى أن الواقع بتعقيداته وغناه أوْلى وأجدر بالدراسة والاهتمام دون حاجة ماسَّة إلى استخدام الأقنعة والرموز. فأهمل نشر ما يربو على عشرين رواية تاريخية مكتملة لديه وجاهزة فى كشاكيل خاصَّة، مؤثِرًا الغوص والانخراط فى الواقع المحيط به. وبذلك انتقل من «طيبة» إلى«القاهرة الجديدة» مباشرة. وتحضرنى هنا كلماته التى أسرَّ بها إليَّ عبر حوار كنت قد أجريته معه، ونشرته فى مجلة «إبداع» المصرية، عدديْ مارس ــ إبريل عام 2003: (لقد بدأت أكتب الواقعية فى الوقت الذى كنت أقرأ فيه مقالات لـ«فرجينيا وولف» ترثى فيها الواقعية؛ كأنها مذهب ولّى ومات إلى غير رجعة؛ غير أننى وجدت فيه المذهب المناسب والصالح للتعبير عن رواية «زقاق المدق» فاعتمدته لها، دون أن أعبأ بالحوارات الكثيرة التى كانت تجرى حول هذه التصنيفات والفروق الدقيقة القائمة بينها. لكن عندما بدأ المجتمع يثب إلى الأمام، ويُغيِّر من عاداته القديمة، بدأتُ فى خلق واقعية من نوع جديد، عامدًا إلى إضافة أشياء جديدة تكسر الجاهز والمألوف وتنبو عن السائد. بَيْدَ أنها لا تتخلّف يومًا عن الوفاء بحاجاتنا الاجتماعية والسياسية والروحية. إن مرشدى الدائم هو الحياة التى أعيشها. الحياة، لا التقليد). لكنه انتقل بعد ذلك من الواقعية إلى الرمزية والواقعية الأسطورية، واستنباط الذات من خلال استكناه أحلامه الشخصية. غير أن مأثرته الكبرى تكمن لا ريب فى ذلك الإخلاص الصوفى لدرسه الروائى الذى أعانه على فهم التطور السياسى والاجتماعى لبلاده، محافظًا على تقاليد راسخة وسمت تجرِبته المتفردة، مستمدًّا عمارته الفنية من المدرسة الطبيعية الفرنسية، الذى ما لبث أن غادرها إلى رحابٍ أكثر قدرة على التعبيرعمَّا يغلى ويضطرم داخل أحشاء المجتمع المصرى، وموقف قواه الحيَّة منه، على نحو ما عكسته لنا شخصيات مثل: عبدالوهَّاب اسماعيل وعزمى شاكر ونجيبة عبدالرحمن فى «المرايا». واسماعيل فى «الكرنك». ومحمد برهانى فى «الباقى من الزمن ساعة». وعيسى الدبَّاغ ورفيقه سمير فى «السَّمَّان والخريف». وعمر الحمزاوى فى «الشَّحَّاذ». وأنيس زكى فى «ثرثرة فوق النيل»... إلخ. فى لغة مشرقة متخفِّفة ممَّا يُثقل لغتنا العربية القديمة بالبديع والزخرفة، وطوَّعها وأنطقها بأشياء الحياة اليومية فى تفاصيلها الصغيرة. وصيَّرها قادرة على أن تُسميَ العالم وأمكنته وفضاءاته. وأن تقبض على الزمن فى لحظاته الطازجة. وفى تمثيل الواقع وإعادة خلقه. قابضًا على شحنتها التخييلية التى تتجاوز وعى الراهن، وتمنح وجودنا فى الزمان كثافته. كما أجاد خلق تفاصيل للشخصيات وصنع تاريخ لها، وامتلاك جمل حوارية رشيقة.. خفيفة.. ذكية، اكتسبت صفاتٍ جمالية مبتكرة صارت جزءًا من النسيج اللغوى الجديد. وهنا يتعيَّن أن نؤكِّد على إفادة أستاذنا نجيب محفوظ من دراسته للسيناريو حيث الإيجاز والتكثيف والاقتصاد فى القول. أما على صعيد الحرفة، فالسيناريو خير موجِّه للأديب حسب نوع الرواية التى يكتبها أو يُعالج موضوعها، بما يُتيحه من خبرة بطبيعة «القماشة» التى يتحرك فى إطارها الفنان. وهنا جاء دور المخرج الكبير صلاح أبو سيف الذى التقى به عام 1945؛ حيث أطلعه على الكثير من أسرار الفن السابع، أو بتعبير أبى سيف نفسه: (خلال الشهور التالية، راح نجيب محفوظ يقرأ الكتب التى أعطيته إياها بنهمٍ، كما زاد ارتياده للصالات السينمائية)؛ مما أسبغ على تعاونهما أهمية مضاعفة، على نحو ما تجلّى فى الأفلام الآتية: «مغامرات عنتر وعبلة» الذى انضمَّ إليهما فى تنفيذه وتجسيده السيد بدير، و«بين السما والأرض»، و«مجرم فى أجازة»، و«لك يوم يا ظالم» المقتبس من إميل زولا، و«الوحش»، و«ريا وسكينة»، و«شباب امرأة» المأخوذ من فكرة للكاتب الكبير أمين يوسف غراب، الذى حوَّلها إلى رواية بعد ذلك؛ مما خلق من نجيب محفوظ أنموذجًا فذًّا قادرًا على استيعاب كل أشكال الكتابة، والإفادة من تقنياتها، وجعله مؤسِّس الرواية العربية بامتياز، مُضفيًا على هذا الجنس الأدبى حضورًا يليق به فى ثقافة تقليدية لم تكن لتعترفَ إلا بالشعر.
رحم الله كاتبنا العالمى نجيب محفوظ، ونحن نلتقى اليوم فى محبته، وفى رحاب عالمه الفنى والأدبى الكبير، الذى يزداد على الأيام تألقًا وسطوعًا وجمالًا لا تبلى جِدَّتُه.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك