نيتشه.. ملامح من حياة وجنون الفيلسوف الهادم للأفكار والأسس في ذكرى رحيله - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 10:16 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نيتشه.. ملامح من حياة وجنون الفيلسوف الهادم للأفكار والأسس في ذكرى رحيله

محمود عماد
نشر في: الأحد 25 أغسطس 2024 - 4:32 م | آخر تحديث: الأحد 25 أغسطس 2024 - 4:32 م

تحل اليوم 25 أغسطس ذكرى رحيل الكاتب والفيلسوف فريدريك نيتشه، والذي ولد في 15 أكتوبر 1844، ورحل في 25 أغسطس 1900 هو فيلسوف ألماني، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية، وكان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث.

بدأ حياته المهنية في دراسة فقه اللغة الكلاسيكي، قبل أن يتحول إلى الفلسفة، زبعمر الرابعة والعشرين أصبح أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل في 1869، حتى استقال في عام 1879 بسبب المشاكل الصحية التي ابتلي بها معظم حياته، وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهم كتبه. في عام 1889، وفي سن الرابعة والأربعين، عانى من انهيار وفقدان لكامل قواه العقلية، وعاش سنواته الأخيرة في رعاية والدته وشقيقته.

كان من أبرز الممهدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميز. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول الدين والأخلاق والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية والمثالية الألمانية، وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضا، بلغة ألمانية بارعة، ويعد من بين الفلاسفة الأكثر شيوعا وتداولا بين القراء.

كثيرا ما تفهم أعماله على أنها حامل أساسي لأفكار الرومانسية والعدمية ومعاداة السامية وحتى النازية، لكن بعض الدارسين يرفضون هذه المقولات بشدة ويقولون بأنه ضد هذه الاتجاهات كلها، ويعد نيتشه إلهاما للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان، وروج لأفكار اعتقد كثيرون أنها مع التيار اللاعقلاني، واستخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية والنازية، رفض نيتشه المثالية الأفلاطونية، والمسيحية والأديان والميتافيزيقيا عموما، ودعا إلى تبني قيم أخلاقية جديدة، وانتقد الكانتية والهيغلية.

نشأته

ولد فريدريك نيتشه في قرية قرب بلدة لوتسن في مقاطعة ساكسونيا التابعة لبروسيا، لقس بروتستانتي لوثري، وكان أجداده من جهتي الأب والأم ينتمون للكنيسة البروتستانتية منذ حركة الإصلاح في القرن السادس عشر، وكان العديد من أفراد أسرته السابقين قساوسة، وادعى نيتشه نفسه في سنواته الأخيرة، أنه ينتسب إلى النبلاء البولنديين، لكن هذا أمر لا يمكن تأكيده، وسماه والده فريدريك لأنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه فريدريش الكبير ملك بروسيا، حيث كان والده مربيا للعديد من أبناء الأسرة الملكية.

الدراسة

في شتاء 1864 التحق نيتشه بجامعة بون، لدراسة فقه اللغة الكلاسيكي واللاهوت البروتستانتي، بالإضافة إلى المنهج المقرر، كرس نيتشه نفسه لدراسة أعمال الهجيليين الشباب، بما في ذلك كتب برونو باور النقدية عن الإنجيل، وكتاب «حياة يسوع» لدافيد ستراوس، وخاصة كتاب «طبيعة المسيحية» للودفيغ فويرباخ الذي جاء فيه أن الناس هم خلقوا الإله وليس العكس، وترك هذا أثرا على نيتشه الشاب، وقد شجعه ذلك (وخيب أمل والدته) في اتخاذ قرار ترك دراسة اللاهوت بعد فصل دراسي واحد، وفي رسالة لأخته -المتدينة- إليزابيث كتبها في يونيو 1865، ظهر فيها فقدانه للإيمان:

«ومن ثم فإن طرق الرجال تفترق: إذا كنت ترغب في سلام الروح والطمأنينة فعليك بالإيمان، وإذا كنت ترغب في أن تكون نصيرا للحقيقة، فعليك بالشك».

واكتشف في نفس الوقت الفيلسوف الألماني شوبنهاور إثر ذلك قرر نيتشه التركيز على دراسة علم اللغة، ولم يكن مرتاحا للوضع في بون فانتقل لاحقا بأستاذه «فريدريش ريتشل» إلى جامعة لايبتزغ في عام 1865، وهناك ظهرت أول منشورات نيتشه الفلسفية بعد فترة وجيزة.

في ذلك العام درس نيتشه بدقة أعمال آرثر شوبنهاور وانغمس في قراءته، وهو مدين بصحوته الفلسفية لكتاب شوبنهاور «العالم كإرادة وتصور»، وقد ذكر في وقت لاحق أن شوبنهاور واحد من عدد قليل من المفكرين الذين يحترمهم، وكرس له مقالا بعنوان «شوبنهاور مربياً» في كتابه «تأملات قبل الأوان».

تأثر أيضا في تلك الفترة بالفيلسوف الكانطي «فردرك ألبرت لانج»، وكتابه «تاريخ المادية» الذي صدر عام 1866، وخلال تلك الفترة أقام صداقة وثيقة مع زميله الباحث التاريخي «إروين رود»، واشتركا عام 1866 في تأسيس «جمعية فقه اللغة الكلاسيكي» في جامعة لايبزيغ.


نيتشه أستاذا في الجامعة

بناء على توصية من «فريدريش ريتشل» (أستاذه في جامعتي بون ولايبزغ) و«فيلهلم بيلفينجر» (أستاذ جامعي وسياسي سويسري)، عين نيتشه بسن الرابعة والعشرين- أستاذا مشاركا لعلم اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل في عام 1869، حتى قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه وقبل استلام شهادة التأهل للأستاذية.

على الرغم من أن عرض التدريس هذا جاء في وقت كان فيه نيتشه يفكر في التخلي عن علم اللغة والاتجاه للعلوم، وحتى يومنا هذا، لا يزال نيتشه من بين أصغر الأساتذة المسجلين. عمل في نفس الوقت مدرسا للغات في الثانوية المتقدمة «ساحة الكاتدرائية» في بازل، زعمل عام 1870 على رسالته للدكتوراه التي لم يقدمها: مساهمات في نقد ودراسة مصادر ديوجانس اللايرتي.

تخليه عن الجنسية

بناء على طلبه، تخلى نيتشه عن الجنسية البروسية بعد انتقاله إلى بازل، وظل بدون جنسية بقية حياته، ومع ذلك فهو قد خدم في الحرب الفرنسية البروسية لفترة قصيرة كمسعف على الجانب الألماني، وخلال ذلك الوقت، أصيب بأمراض الزحار والخناق، واحتاج لفترة نقاهة طويلة.

نظر نيتشه بريب وتشكك إلى تأسيس الرايخ الألماني وحقبة أوتو فون بسمارك. لكنه تأثر بوحدة ألمانيا وزعيمها بسمارك ورأى فيه في أول الأمر كمالا للشخصية الألمانية، ويقول نيتشه في رسالة من عام 1868: «بسمارك يمنحني سعادة غامرة. أقرأُ خطَبه كما لو كانت نبيذا مُسكِرا». لكنه لاحقا وصفه بـ«المغامر المضحك».

التفرغ للفلسفة

دفعته أمراضه في البحث المستمر عن الظروف المناخية المثلى بالنسبة له، فسافر كثيرا وعاش في أماكن مختلفة ككاتب مستقل حتى عام 1889، جال أصقاع أوروبا لكي يجد مكان يناسب حالته الصحية، وأقام فترات الصيف في سلس ماريا جنوب شرقي سويسرا في أعالي الجبال.

كان يعتمد قبل كل شيء على راتب التقاعد الممنوح له؛ كما كان يتلقى المساعدات المالية من حين لآخر من الأصدقاء. كان يقضي الصيف غالبا في سان موريتز في سويسرا، وفصل الشتاء في إيطاليا (جنوة، رابالو، تورينو) وفي فرنسا في نيس. بعد الاحتلال الفرنسي لتونس فكر في السفر إلى تونس كي يرى أوروبا من الخارج، لكنه استبعد الفكرة لأسباب صحية، وكان يزور عائلته باستمرار في ناومبورغ، وكان دائم الخلاف ثم المصالحة مع أخته إليزابيث.


نيتشه وفشله في الحب

عام 1882 نشر جزءا من كتابه «الحكمة الماتعة» الذي يصفه نيتشه بأنه أقرب كتبه إليه، واحتوى الكتاب على عدد كبير من القصائد، وظهرت فيه لأول مرة فكرة «موت الإله».

في ذلك العام التقى لأول مرة بلو أندرياس سالومي (فتاة روسية عمرها 21) وأمضيا الصيف في تورينغن وكانت ترافقه أخته إليزابيث، لم يكن نيتشه يعتبر سالومي ندا مساويا له بل كطالبة موهوبة، وقد ذكرت سالومي أن نيتشه طلب منها الزواج في ثلاث مناسبات وأنها رفضت، على الرغم من أن مصداقية حديثها موضع تساؤل.

كانت علاقة نيتشه بسالومي معقدة، وهي في الأساس صديقة صديقه «بول ري»، فهو يذكر في اقتباسات له من تلك المرحلة: «خلف كل مشاعر الرجل تجاه امرأة، يقبع احتقار لجنسها»، «الإنسان شيء غير كامل أبدا. حبّ شخص ما سيدمرني»، «في كل حوار بين ثلاثة أشخاص، شخص ما يكون غير ذي ضرورة ويمنع تعمق الحوار».

انقطعت علاقة نيتشه مع سالومي في شتاء 1883، ويرجع ذلك جزئيا إلى مؤامرات أخته إليزابيث، وأحب تلميذته الفتاة البروسية التي فارقته بعد رفضها له وزواجها ببتشارلز اندرياس، وقبل الأرض من تحت قدميها لكي تقبل به لكنها رفضته؛ فاستهام بها وقادته إلى الجنون.

كما أنه وقع في الحب عدة مرات لكنه فشل بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات لذا اتسمت حياته بالكآبة حتى نهايتها.


نيتشه والجنون والرحيل

 


في 3 يناير 1889، تعرض نيتشه لانهيار عصبي حيث لحق به شرطيان بعد اضطراب أحدثه في شوارع تورينو. القصة الحقيقية غير معلومة، لكن الشائع أن نيتشه سمع صهيل حصان يُجلد بالسوط في آخر ساحة قصر كارينيانو، فركض إلى الحصان ثم رمى ذراعيه حول عنقه واحتضنه ليحميه، ثم انهار على الأرض، شخص البعض سبب الانهيار على أنه شلل تدريجي نتيجة لمرض الزهري، ويعتبر هذا التحليل مثيرا للجدل حتى اليوم.

في الأيام القليلة التالية، بعث نيتشه بمجموعة رسائل قصيرة (عرفت فيما بعد باسم «رسائل الجنون») إلى عدد من الأصدقاء، من ضمنهم ياكوب بوركهارت وزوجة ريتشارد فاغنر، بعضها ذيّلت بتوقيع «ديونيسوس» وبعضها عليه توقيع «المصلوب».

بعد رؤية تلك الرسائل تنبه أصدقاؤه وأمه فأُرسل إلى مستشفى الأمراض النفسية، وفي لحظات معينة كان يظن نفسه شكسبير أو قيصر أو ملك إيطاليا أو فاغنر، أو يسوع ونابليون ووبوذا والإسكندر المقدوني.

في 6 يناير 1889، أطلع بوركهارت صديقه «فرانز أوفربك» على رسالة نيتشه، في اليوم التالي استلم أوفربك رسالة مماثله من نيتشه، قرر أصدقاء نيتشه أن عليهم إحضاره إلى بازل، فسافر أوفربك إلى تورينو وأتى بنيتشه وعرضه على عيادة نفسية في بازل.

مع مرور الوقت اتضح أن نيتشه كان يعاني مرضا عقليا خطيرا، فقررت والدته نقله إلى مستشفى في ينا تحت إشراف طبيب النفس والأعصاب السويسري «أوتو بينزوانجر».

في ذلك الشهر (يناير 1889) تم نشر كتاب نيتشه -الذي كان جاهزا- «أفول الأصنام»، بين نوفمبر 1889 وفبراير 1890، حاول المؤرخ «يوليوس لانجبان» علاج نيتشه بنفسه، مدعيا بأن أساليب الأطباء كانت غير فعالة في علاج حالة نيتشه، وكانت والدة لانجبان قد تعرضت لمرض مماثل، تولى لانجبان علاج نيتشه لفترة لكنه لم ينجح.

في مارس 1890، أخرجت أم نيتشه ابنها من المستشفى، وفي مايو 1890، جلبته إلى منزلها في ناومبورغ، وكان نيتشه حتى ذلك الوقت يستطيع إجراء بعض المحادثات القصيرة.

خلال تلك الفترة كان صديقا نيتشه «فرانز أوفربك» و«بيتر غاست» يفكران فيما يجب القيام به بأعمال نيتشه غير المنشورة؛ فطبعا كتاب «نيتشه ضد فاغنر» في طبعة محدودة بخمسين نسخة، وقررا عدم نشر كتابي «المسيح الدجال» و«إيكو هومو» بسبب محتواهما الراديكالي، وفي ذلك الوقت بالذات بدأت أعمال نيتشه تلقى الاهتمام والاعتراف لأول مرة.


في عام 1893، عادت أخت نيتشه إليزابيث من الباراغواي بعد انتحار زوجها، قرأت إليزابيث ودرست كل أعمال نيتشه، وتولت مذّاك العناية بها ونشرها، فأسست عام 1894 «أرشيف نيتشه».

بعد وفاة والدته في عام 1897 نقل نيتشه للإقامة في فايمار حيث تقيم أخته إليزابيث، التي تولت رعايته وسمحت بمجيء الزوار له، وكان منهم رودلف شتاينر (الذي ألف عام 1895 واحدا من أوائل الكتب التي تشيد بنيتشه)، وقد استعانت إليزابيث بشتاينر لفترة لمساعدتها على فهم فلسفة شقيقها.

تم تشخيص مرض نيتشه في الأصل بأنه ناتج عن تفاقم مرض الزهري، وفقا للرؤية الطبية السائدة في ذلك الوقت، يرى معظم المعلقين أن انهياره العقلي ليس له علاقة بفلسفته، إلا أن جورج باطاي ألمح إلى عكس ذلك (هذا الإنسان المجسد يجب أن يصاب بالجنون)، وكذلك التحليل النفسي الذي أجراه الفيلسوف الفرنسي «رينيه جيرار» الذي رأى فيه أن السبب هو خصومة نيتشه مع ريتشارد فاغنر، ومنذ ذلك الحين ظهرت تحليلات عديدة عن سبب الانهيار، منها تشخيص حدوث «مرض الهوس الاكتئابي ثم الذهان يليه الخرف الوعائي».

بين 1898 و1899، تعرض نيتشه مرتين على الأقل للسكتة الدماغية، التي سببت له شللا جزئيا جعله غير قادر على الكلام أو المشي، وبحلول عام 1899 تعرض لخزل شقي (شلل نصفي سريري) في الجانب الأيسر من جسده.

بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر أغسطس عام 1900، تعرض ليلة 25 أغسطس لسكتة دماغية أخيرة، وتوفي ظهر اليوم التالي، دفنته إليزابيث بجانب والده في كنيسة في لوتزن، ألقى صديقه وسكرتيره «بيتر غاست» كلمة التأبين في جنازته معلنا: «سيكون اسمك (المقدس) لجميع الأجيال القادمة!».



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك