الطبعة الجديدة من الحرب الاقتصادية الباردة: الحرب التكنولوجية.. اقتصاديات صناعة الرقائق الإلكترونية (2-3) - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 9:34 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطبعة الجديدة من الحرب الاقتصادية الباردة: الحرب التكنولوجية.. اقتصاديات صناعة الرقائق الإلكترونية (2-3)

تحقيق – ناصر عبد الحميد
نشر في: الأربعاء 28 فبراير 2024 - 10:36 م | آخر تحديث: الجمعة 1 مارس 2024 - 12:06 ص

* الشركات التى تحتكر تصميم الشرائح فى العالم أمريكية

* شركة هولندية واحدة تحتكر حصريا تصنيع ماكينات الطباعة الحجرية المتقدمة

* مفتاح السيطرة والنفوذ فى العالم الأن مرتبط بالسيطرة علىهذه الصناعة

* الولايات المتحدة منعت الجميع من تصدير التكنولوجيا المتقدمة للصين

* الصين لم تجد سوى التجسس لتجاوز الحصار الأمريكى

 

لا نبالغ إذا قلنا أن الصراع حول الرقائق/أشباه الموصلات هو الأكبر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية حاليا، متفوقا على أى شىء أخر، حيث تقع هذه الأجزاء الصغيرة من السيليكون في قلب صناعة تبلغ قيمتها 700 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2030. ومن يتحكم في سلاسل التوريد الخاصة بها، وهي شبكة ضخمة ومعقدة من الشركات والبلدان التي تصنع الشرائح، يحمل مفتاح أن يكون قوة عظمى منقطعة النظير.

ماهى الرقائق، وما هى درجة أهميتها، ولماذا كل هذا الصراع حولها !!

يقول كريس ميلر، مؤلف كتاب حرب الشرائح والأستاذ المساعد في جامعة تافتس، البلدين الكبيرتين منخرطتين فى سباق تسلح وتنافس فى المجالات التقليدية مثل السفن والصواريخ، ولكن ذلك ليس هاما للغاية، لأن الأهم على الإطلاق هو السباق حول خوارزميات الذكاء الإصطناعى التى يمكن توظيفها فى كل شىء وصولا للألة العسكرية، وأنه في الوقت الحالي، تنتصر الولايات المتحدة، لكن حرب الرقائق التي أعلنتها على الصين تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي.

والرقائق ببساطة هى شريحة صغيرة جدا تحتوى على مليارات الترانزستورز، والتى تجعلنا نخزن ونحلل البيانات،  وكلما تطورت كلما صار لدينا ذكاء اصطناعى أكبر، وبالتالى ففى عصر البيانات الذى نعيشه حاليا، تعد هذه الرقائق المورد الأثمن على وجه الأرض.

 

 

 

كيف تصنع الرقائق

ربما علينا أن نعرف أكثر عن خبايا تصنيع تلك الرقاقات/أشباه الموصلات، فقد يقودنا فهم الكيفية المعقدة جدا لتصنيعها، لإدراك ماهية الحرب التى تدور حولها بين أهم قوتين فى العالم الحالى.

 

بداية فهذه الصناعة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، بحسب ما نشرته الجمعية العلمية لأشباه الموصلات،

الجزء الأول هو، تصنيع الليثوجرافيا، أو ألة الطباعة الحجرية، وهى ماكينة معقدة، بل تعتبر من أهم إنجازات البشرية فى علوم الهندسة والفيزياء، وهى الماكينة المسؤلة عن تثبيت الترانزستورز على شريحة السليكون، وأغلب إنتاج هذه الماكينات حكرا على شركة هولندية واحدة تدعى "أه إس إم إل".

 

الجزء الثانى هو، تصميم الرقائق، أى تصميمها بالبرمجيات المعقدة بما يتناسب مع المهمة التى ستؤديها، إن كانت ستستخدم فى طائرة حربية أو سفينة فضائية أو موبايل أو غسالة أطباق، والشركات التى تحتكر أغلب تصميم الشرائح عالميا هى شركة أبل وشركة انفيديا وشركة كوالكوم، وجميعهم شركات أمريكية.

 

 

الجزء الثالث هو، التصنيع أو التنفيذ،  وأكبر ثلاث شركات تصنيع عالميا هم، الشركة التايوانية "تى إس إم سى"، و شركة سامسونج الكورية الجنوبية، وشركة إنتل الأمريكية، وينتجون مجتمعين 90% من رقاقات العالم، مع تفوق للشركة التايوانية التى تنتج منفردة حوالى 53% من شرائح العالم.

 

ولفهم الطبيعة المعقدة لهذه الصناعة، تواصلنا مع المهندس تامر قادوس، وهو أحد مهندسين التطوير فى شركة كوالكوم الأمريكية، التى تحتكر مع أبل وانفيديا تصميم الشرائح عالميا، وهو المهندس المصرى والعربى الوحيد فى هذه الشركة الهامة، وقال شارحا فى حديث مطول خاص للشروق،

بخصوص التكنولوجيا التى طورتها الشركة الهولندية لتصنيع ماكينات الطباعة الحجرية، أنه لفهم ذلك يجب أن نعرف أنه فى البداية كانت تصنع الرقاقة وعليها أربع وحدات ترانزستور فقط على شريحة السليكون، ومع الوقت صار حجم الترانزستور يصغر أكثر وأكثر، حتى أصبح بحجم 4 ذرات متجاورين، وبالتالى أصبح لزاما استخدام الضوء للتمكن من طباعة الترانزستور على شريحة السليكون، وهو ما أنجزته الشركة الهولندية، حيث طورت أشعة فوق بنفسجية بطول موجى 13.5 نانو متر، وهى تقنية معقدة حيث تتطلب إستخدام ليزر بمواصفات معينة يصطدم بصفائح "تين" مرتين، فتصل درجة حرارتها لنص مليون درجة مئوية، وهذا النوع من الليزر تحصل عليه الشركة الهولندية من شركة تدعى "ترامف" الألمانية، التى طورت لهم هذا النوع من الليزر خصيصا فى عشر سنوات كاملة.

ويضيف قادوس، ليس هذا فحسب بل ومن أجل توجيه الليزر تحتاج لمرايات منعدمة الشوائب تقريبا، وهو ما تحصل عليه من شركة "زايس" الألمانية أيضا، وهنا تصنع الشركة ماكيناتها المعجزة، التى يمكنها طبع مليارات الترانزستورز على شريحة السليكون الواحدة، حيث أن دقة أجهزتهم وصل لدرجة أنه يمكنك إرسال شعاع ضوء من القمر فيصيب عملة معدنية على الأرض.

 

وبحسب موقع "ساينس دايركت"، تقوم الشركة بعملية التصنيع فى خمس معامل متفرقة، ثم يتم تجميع الماكينة فى مقر الشركة الرئيسى فى هولندا، ثم يعاد تفكيكها ليمكن شحنها على متن 20 سيارة نقل و 3 طيارات بوينج 747، فضلا عن أنها تحصل على مكوناتها اللازمة لتصنيع ماكينتها المعقدة من خمسة ألاف مصدر حول العالم ما بين شركات ليزر وعدسات وبرمجيات ومعدات، فهى سلسلة توريد صعبة ودقيقة للغاية، وإدارتها لا تقل أهمية عن أهمية التكنولوجيا المطورة.

 

وعندما تبدأ الماكينة فى العمل تنتج 3000 وايفر فى اليوم، والوايفر هو قطعة السليكون التى يثبت عليا الرقاقة، كل وايفر مثبت عليها 100 رقاقة، وكل رقاقة مثبت عليها 10 مليار ترانزستور.

 

احتكار الشركة الهولندية للماكينات

وعن احتكار الشركة الهولندية لهذه الماكينات، فبحسب الدراسات المنشورة على موقع "أى بى إم" فى منتصف عام 2023،  يوجد نوعين من التكنولوجيا المستخدمة لتصنيع ألات الطباعة الحجرية، النوع الأول هو تكنولوجيا الأشعة فوق البنفسجية العميقة، والتى تستخدم لصناعة أغلب الرقائق الإلكترونية فى العالم، ومن يحتكر صناعة تلك الماكينات هم ثلاث شركات فقط عالميا، الشركة الهولندية، وشركة كانون اليابانية، وشركة نايكون اليابانية، ولكن تستحوذ الشركة الهولندية على أكثر من 85% من صناعة هذه الماكينات.

 

ولكن والأهم، عندما نذهب إلى ألات الطباعة الحجرية/الليثيوجرافى التى تستخدم تكنولوجيا الأشعة فوق البنفسجية القصوى، فسنجد أن الشركة الهولندية تحتكر تصنيعها عالميا بنسبة 100%، وهنا مربط فرس الصراع الأمريكى الصينى.

 

 

الماكينة محرمة على الصين تماما

بحسب التقرير الذى نشره موقع بلومبرج فى منتصف عام 2022، فالولايات المتحدة منعت الشركة الهولندية من بيع هذه الماكينة منعا تاما للصين أو روسيا أو أوكرانيا، وممنوع أيضا أن يعمل فى تطويرها أى شخص يحمل إحدى هذه الجنسيات، ويكفى أن نعلم أن هذه الماكينة هى التى تستخدم لصناعة الرقائق التى تم تصنيع الطائرة " إف 35 " الأمركية بها، والتى تعد مصدر تفوق الولايات المتحدة فى سلاح الجو فى العالم.

 

ليس هذا فحسب، فتقريبا التفوق العسكرى الأمريكى كله من الطائرات المقاتلة والصواريخ والدبابات والأقمار الصناعية وحاملات الطائرات ومنظومة الطائرات اللاسلكية والطائرات بدون طيار، وكل قطعة تكنولوجية حديثة يمتلكها الجيش الأمريكى، تستخدم رقائق إلكترونية يتم تصميمها فى إحدى الشركات الثلاثة فى أمريكا، ولكن يتم تصنيع أغلبها فى شركة "تى إس إم سى" التايوانية، بإستخدام ماكينات ليثيروجراف مصنعة فى شركة " أه إس إم إل " الهولندية، وبالتالى يمكننا الأن أن نفهم جذور هذا الصراع وطبيعته وتعقيداته، ولماذا تعتبر تايوان خط أحمر لأمريكا، وللصين أيضا.

 

وقبل الإنتقال لمظاهر هذا الصراع بين العملاقين، قد يكون مفيدا ذكر بعض الأرقام عن القيمة السوقية للشركات العاملة فى قطاع أشباه الموصلات، ليتضح أمامنا حجم هذا النشاط الإقتصادى، فشركة أبل الأمريكية هى الأولى عالميا من حيث القيمة السوقية ب 3 تريليون دولار، شركة انفيديا 1.3 تريلوين دولار، شركة كوالكوم 153 مليار دولار، شركة " أه إس إم إل " الهولندية 281 مليار دولار، شركة "تى إس إم سى" التايوانية 520 مليار دولار، شركة سامسونج 370 مليار دولار، شركة انتل 199 مليار دولار،  وهذه بعض النماذج فقط من بين عدد كبير من الشركات العاملة فى هذا القطاع، الذى يتصارع عليه العالم.

 

 

ملامح الصراع

لعل الرئيس الأمريكى الأول الذى لفتت إدارته الإنتباه لضرورة التحسب من صعود الصين عموما من ناحية وضرورة مجابهتها إقتصاديا وتكنولوجيا من جهة أخرى، كان الرئيس باراك أوباما، ففى 2015 منع أوباما شركة إنتل من بيع شرائحها المتطورة المعروفة بإسم زيون لصالح مراكز الأبحاث المرتبطة بالجيش الصينى، مثل الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع، ولكن بالطبع ذلك لم يمنع الجيش الصينى من استخدامها، فالأن أكثر الحواسيب العملاقة التابعة للجيش الصينى تعمل بشرائح زيون، وذلك من خلال شركاتها الخاصة التى اشترتها من شركة " انتل " ووردتها للجيش، كنوع من التحايل على القرار، ولذلك نصت التعليمات الجديدة للإدارة الأمريكية على عدم البيع لأى شركة صينية فى المطلق.

 

 

إضافات ترامب

ومع حلول ترامب فى البيت الأبيض تمت توسعة الحرب الاقتصادية فى مواجهة الصين، بحسب ما نشرته الجارديان البريطانية فى منتصف 2019، من خلال التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير، والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي، وأدرجت الإدارة الأميركية في عام 2020، الشركات العاملة في صناعة التكنولوجيا بالصين ضمن قائمة سوداء، يحظر على الشركات الأمركية وتلك التابعة لحلفائها التعامل معها.

 

بايدن يذهب بالصراع للحد الأقصى

زادت وتيرة هذه الحرب الإقتصادية التكنولوجية إلى الحد الأقصى مع إدارة بايدن، ففى السابع من أكتوبر عام 2022، وحسب ما نشرته  الفايناشنيال تايمز، فقد أصدر مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة والصناعة الأمريكية مجموعة من اللوائح تهدف إلى تقييد قدرة الصين على شراء وتصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة، وتم إقرار حزمة مساعدات تقدر ب 53 مليار دولار منح وإعانات للشركات التي تصنع أشباه الموصلات داخل أراضيها.

 

وفى دراسة نشرها مركز كارنيجى، بعنوان "رهان بايدن غير المسبوق على أشباه الموصلات"،  فى نهاية عام 2022، استعرضت الدراسة الإجراءات القاسية التى فرضها بايدن، فقد صار ممنوعا على الشركات الأمريكية الأربعة التى تطور وتملك السوفت وير المستخدم فى تصميم الرقائق، والمعروف بإسم نظم التصميم الإلكترونى الألى ، من بيعها للصين، وبالتالى لن يمكنها التصميم، وأقرت اللوائح عقوبة كبيرة على أى شركة تبيع هذه البرامج للصين بمنعها من الحصول على الماكينات الخاصة بالتصنيع، وبناءا عليه ستتوقف كل الشركات الصينية التى تعمل مستخدمة البرمجيات الأمريكية، وعددها 28 شركة على سبيل الحصر.

ليس هذا فحسب، بل فرضت اللوائح على أى شركة فى العالم أن تبيع للصين، أى مكون من المكونات الداخلة فى صناعة معدات تصنيع الرقائق، كما فرضت على أى شخص يحمل الجرين كارد أو الجنسية الأمريكية مساعدة الصين فى هذه الصناعة، حيث يوجد 16 شركة من شركات أشباه الموصلات فى الصين يعمل بهم على الأقل 43 مسؤل تنفيذى كبير بالإضافة ل 200 خبير يحملون الجنسية الأمريكية، والأن ليس أمام هؤلاء سوى ترك العمل فى الصين وإلا فسيفقدون جنسيتهم الأمريكية.

 

ونقلت لفاينانشيال تايمز عن أحد رؤساء تلك الشركات، أن هذا القرار أسوأ من قرار منع المعدات، حيث أن الصين تصنع شرائح ال 14 نانومتر بالفعل، ولكن بموجب اللوائح الجديدة فالشركات المصنعة لها لن تقدم خدمات الصيانة وبالتالى ستخرج من الخدمة قريبا وتعود الصين مرة أخرى لتصنيع شرائح ال 28 نانومتر، المطورة منذ العام 2011، وبهذا تتخلف الصين قرابة العشرون عاما فى هذه الصناعة الحيوية التى تتحكم تقريبا فى العالم كله الأن.

 

هواوى تتحول لجثة هامدة

وبحسب ما نشرته مراسلة شؤون الأعمال في آسيا لبى بى سى، سورانجانا تيواري، فى بداية عام 2023، فالإجراءات الجديدة التى فرضتها إدارة بايدن قد ألمت الصين بشدة، وفسر لها الأمر لينغهاو باو، المحلل في شركة تريفيام تشاينا للأبحاث السياسة: قائلا "إن المعرفة مهمة جدا في هذا المجال، فإذا نظرت إلى المديرين التنفيذيين لشركات أشباه الموصلات في الصين، فالكثيرين منهم يحملون جوازات سفر أمريكية، وهم مدربون في الولايات المتحدة ، ولديهم بطاقات إقامة خضراء، لذلك فهذه مشكلة كبيرة حقا بالنسبة للصين"

وحسب تقديره، فتجربة هاواوي ستتكرر في الشركات الأخرى، فعملاق الاتصالات الصينى انتقل من كونه ثاني أكبر صانع للهواتف الذكية في العالم، بعد سامسونغ، إلى "جثة"، حيث ستحرم من استيراد المعالج الصينى ال 7 نانومتر، الذى تحصل عليه من شركة "  تى إس إم سى " التايوانية، وهو  القطعة الأهم فى صناعة فى محطات الجيل الخامس التى تبيعها هواوى فى كل مكان فى العالم.

 وهو ما يكشف مدى قدرة واشنطن على خنق أي شركة تكنولوجيا صينية، الذى لم يعد إستهدافا فرديا بل يستهدف البلد كلها.

 

استراتيجية أمن قومى، وليست إجراءات فردية

كل ما سبق يتماشى مع إستراتيجية الأمن القومى المحدثة التى نشرتها الولايات المتحدة فى 12 أكتوبر 2022، أى بعد خمسة أيام فقط من إقرار اللوائح السابقة التى أقرت قرارات تصعيدية غير مسبوقة ضد الصين، وبحسب ما نشرته نيويورك تايمز، فالتقرير يصف الصين بأنها التحدى الجيوسياسى الأكبر لأمريكا، حيث أنها تظهر نوايا وقدرات على متصاعدة على إعادة تشكيل النظام العالمى بشكل يجعله يميل إلى كفتها، وذلك رغم حرص الولايات المتحدة على إدارة التنافس بين الدول بشكل مسؤل.

 

أفاق غير متوقعة للحرب

لعله جدير بالذكر، سرد تفاصيل الواقعة التى حدثت فى الأول من ديسمبر 2018 ، وذلك فى أثناء الضغوط العنيفة من جانب دونالد ترامب على أوروبا لعدم إتمام اتفاقات مع شركة هواوى لتنفيذ شبكات الجيل الخامس فى عدد من الدول فيها، وكانت ألمانيا هى الدولة الأهم التى مارس ترامب عليها هذه الضغوط بعدما وقعت اتفاقا بالفعل لتركيب شبكات الجيل الخامس لديها، وذلك حسب ما نشرته دويتش فيلا فى منتصف عام 2018، وكانت حجة الإدارة الأمريكية وقتئذ، بحسب الجريدة، أن ذلك يعد أمر يخص الأمن القومى الأوروبى وبالتالى الأمريكى، ولا يمكن السماح لشركة صينية على اتصال بالحكومة الصينية من التحكم فيه.

 

الواقعة العجيبة، أنه فى 1 ديسمبر 2018 هبطت طائرة السيدة  "منغ وانزو" المديرة المالية لشركة هواوى الصينية، وإبنة مؤسس الشركة، فى مطار فانكوفر فى كندا، على غير المخطط له، وبحسب القصة التى سردتها بى بى سى كاملة، فقد كانت مسافرة من هونج كونج للمكسيك، وتم اعتقالها بناءا على أمر توقيف من مكتب التحقيقات الفيدرالى بتهمة إنتهاك العقوبات الأمريكية على ايران، وأمضت السيدة  ثلاث سنوات قيد الإقامة الجبرية في كندا، بينما كانت تخوض معركة قانونية للحيلولة دون تسليمها إلى الولايات المتحدة، وقالت عقب وصولها للصين، أن المحققين الأمريكيين كانوا مضللين بشأن تعاملات هواوي التجارية في إيران، كل شىء جائز فى الحرب.

 

 

الصين أيضا لديها أدوات .. منع الجاليوم والجرمانيوم

استثمرت الصين مليارات الدولارات على مدار عقود، فى صناعة التعدين، حتى صارت تسيطر على 65% من أنشطة تعدين العناصر النادرة فى العالم، و85% من طاقة المعالجة العالمية، و92% من إنتاج العالم من المغناطيس، وهى المواد الخام التى يستخدمها العالم كل فى التصنيع، بداية من الأدوية ونهاية بالطائرات الحربية، والأهم بحسب التقرير الذى نشرته بلومبرج، فى أغسطس 2023، أنها تسيطر على 90% من إنتاج العالم من العناصر النادرة، وهو ما حاولت لسنوات حسب رأى الصحيفة الإقتصادية، من استخدامه كرد فعل لمواجهة الإجراءات الأمريكية العنيفة ضدهم.

 لكن أخيرا، وفى الأول من أغسطس 2023، أصدرت الصين قرارا يمنع على أي طرف في الصين، تصدير معدني الجاليوم والجرمانيوم، حيث صار لزاما على المصدرين لهذه المعادن، في حال رغبوا بالاستمرار في شحنها إلى خارج الصين، التقدم بطلب للحصول على تراخيص تسمح لهم بذلك.

 

جدير بالذكر هنا، أن إختيار هذين المعدنين النادرين بالذات، لم يكن مصادفة، ولكن لأنهما ضروريان لصناعة أشباه الموصلات، وخصوصا ماكينات الطباعة الحجرية/الليثيوجراف.

 

التجسس قد يكون حل أيضا

تريد الصين ولو ماكينة واحدة متقدمة من ماكينات الطباعة الحجرية التى تنتجها شركة " أه إس إم إل " الهولندية، وهو الأمر المحرم عليها تماما كما ذكرنا، ولمحاولة تجاوز ذلك، تمكنت الصين من تجنيد بعض المهندسين فى الشركة الهولندية، ذوى الأصول الصينية، لمحاولة نقل تكنولوجيا الشركة المعقدة لهم، وفى 2019، حاولت أمريكا القبض على ثلاثة مهندسين يعيشون على أراضيها بعدما اكتشفت أمرهم، وبالفعل ألقت القبض على اثنين وهرب المهندس الثالث إلى الصين، وكان هو العقل المدبر للعملية، وحلقة الوصل مع الحكومة الصينية، ويدعى المهندس زونجشانج يو، وكان يعمل بالشركة الهولندية واستقال فى العام 2012، وقد أسس فى أعقاب ذلك بعامين شركتين، إحداهما فى أمريكا والأخرى فى الصين، وهو فى نفس العام الذى أعلنت فيه الحكومة الصينية أنها ستخصص 150 مليار دولار لتطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية، وكان هدف الشركتين هو محاولة نقل تكنولوجيا الشركة للصين، وهى تكنولوجيا تصحيح القرب البصرى، وهى التى تستخدم لصناعة ألات الطباعة الحجرية، أو الليثيوجرافيا، التى تصنع الرقائق الإلكترونية المتقدمة، أما المهندس الأخر الذى تم تجنيده حصل على تكنولوجيا سرية من الشركة وحملها على هارد درايف وأخدها معاه قبل رحيله منها فى عام 2015، لينضم إلى شركة زونجشانج يو، وكان أهم ما سرقه هو الكود البرمجيات لبرنامج تقنية تصحيح القرب البصرى، وهو عبارة عن 2 مليون سطر.

كانت الشركة الهولندية تظن أنها محصنة ضد الهندسة العكسية، ولكن تقنيتهم التى طوروها على مدار 10 سنين بتكلفة 100 مليون دولار سرقت أجزاء منها فى لحظة.

المفاجأة الصينية

حتى ديسمبر من عام 2023، لم يكن أحد حول العالم يعرف ما الذى يمكن أن تكون حققته معركة التجسس تلك، التى تمت ضد الشركة الهولندية، بل سفه كثيرون من شأنها، ولكن ومع انتهاء عام 2023، تفجر شركة هواوى مفاجأة تقلب العالم رأسا على عقب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلنت الشركة التى كانت فى طور الموت الإكلينيكى حسب ما تظن واشنطن، عن أحدث هواتفها، " ميت 60 برو "، الذى يعمل بشريحة 7 نانومتر، وبحسب الفاينانشيال تايمز، فالشركة صار لديها النظام الذى يمكنها من صناعة ذلك النوع المتقدم محليا، وأنها طورت ذكاء اصطناعى بإستخدام الرقائق المتاحة، سمح لها بإنتاج تلك الشرائح المتقدمة، ولا يعرف أحد حتى الأن تفاصيل دقيقة عن الكيفية التى حدث بها ذلك.

هنا قررنا التواصل مرة أخرى مع المهندس تامر قادوس، مهندس التطوير بشرطة كوالكوم الأمريكية المتخصصة فى تصميم الرقائق، فقال للشروق، محاولا تفسير ما حدث، بأنه قد تكون الشركة قد طورت طريقة مختلفة عن الطريقة التقليدية المتبعة، والتى تعتمد بالأساس على تصغير المسافة بين الترانزستورز، والتى وصلت الأن ل 3 نانومتر، وهو ما ستعلن عنه أبل قريبا، ولكن بحسب قادوس، فهذه الطريقة لها أفق، لن تتجاوزه، وسيجب على الجميع البحث عن تكنولوجيات بديلة للتطوير، فربما هذا ما فعلته الصين.

ولكن وبعد يوم أخر من البحث للتدقيق، عاد إلينا المهندس قادوس، قائلا أنه على الأغلب أن الصين لم تطور أى تقنية مختلفة، بل تمكنت من تطوير التكنولوجيا التقليدية التى كانت محرومة منها ومتأخرة فيها، فلا يوجد أى دليل علمى منشور يتحدث عن تقنية جديدة بديلة.

ربما لدينا الأن ما يستدعى استعار الحرب الإقتصادية، فالصين قد وصلت بالفعل.

 وربما يفسر لنا أيضا الأهمية القصوى لتايوان بالنسبة للصين، ولماذا تصمم على إعادتها في صين موحدة، وتخوض فى ذلك حرب طويلة الأمد من طراز استهلاك الوقت، وتخنقها عسكريا، وتنشىء تحالفات وقواعد عسكرية حولها من كل جانب، تايوان بالنسبة للصين مسألة حياة أو موت، ولكن الخبر السىء، أنها كذلك أيضا بالنسبة للأمريكان.

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك