فى خلال أكثر من عشرين عاما بنت مصر اثنين وعشرين مدينة جديدة كانت بداية المدن الجديدة فى 1974ــ1975 كجزء من التزام سياسى بغزو الصحراء. الجيل الأول من المدن الجديدة ضم حوالى 6 مدن بها المناطق الصناعية الخاصة بها. وضم الجيل الثانى حوالى تسعة مستقرات مثلت مجموعة من المدن التوابع للقاهرة فى منتصف الثمانينيات. أما الجيل الثالث فقد ضم المدن التوائم. أما الجيل الرابع للمدن الجديدة والذى هو نتاج للاستراتيجية العمرانية لمصر حتى 2052 فهو يضم أكثر من عشرين مدينة جديدة.
***
ترتكز سياسة مصر فى مجال الإسكان منذ أكثر من عقد على تعديل دور الدولة فى توفير الإسكان من خلال تزايد دورها فى رسم السياسة العامة للإسكان وترحيل مهمة تنفيذها إلى أطراف أخرى مثل الشركات الخاصة للتنمية العقارية والجمعيات الأهلية والتعاونية والأهالى وكذلك البنوك ومؤسسات التمويل الحكومى، بحيث تصبح المدن الجديدة مراكز جذب كبيرة لاستثمارات القطاع الخاص مع تطوير الدولة لآليات الرقابة والمتابعة. وفى هذا الإطار يشارك القطاع الخاص فى تملك وإدارة المجتمعات العمرانية الجديدة مصحوبا بالعديد من الحوافز المشجعة التى قدمتها الدولة له ومن أبرزها تقليل الرسوم والضرائب وزيادة الإعفاءات الضريبية بالإضافة إلى إنشاء الدولة لشبكات المرافق والخدمات التى يتعذر على القطاعات الأخرى القيام بها.
والمجتمعات العمرانية الجديدة حول القاهرة تقترب فى مساحتها من مساحة المدينة القائمة (وبعد إضافة العاصمة الإدارية الجديدة أصبحت أكبر) ولكنها طبقا لأرقام إحصاء عام 2006 لا تستوعب أكثر من حوالى خمسة فى المائة من إجمالى سكان القاهرة الكبرى (لا يزال صحيحا إلى حد كبير بعد احصاء 2017 طبقا لسيمز). وبالرغم من أن هذه المدن كانت فى 2005 تضم حوالى مليون نسمة (مقارنة بخمسة ملايين مخططة) فإن إنفاق وزارة الإسكان والمرافق على البنية الأساسية تعدى 22% من ميزانية الوزارة فى ذلك الوقت.
***
يصعب فصل دراسة أوضاع عمران المدن الجديدة عن أوضاع العمران بصفة عامة فى مصر. ولا شك أن المدن الجديدة كمجتمعات ناشئة فى عهد قريب لها أيضا ترجمتها الخاصة للتحديات التى تواجه العمران بصفة عامة. وسأقتصر هنا على تناول التحدى الاجتماعى والتحدى البيئى.
ويمكن النظر إلى المجتمعات العمرانية الجديدة ــ طبقا لإريك دينيس ــ بصفة عامة على إنها تغيير اجتماعى مخطط. وبينما كانت الصحراء للمصريين القدماء هى أرض الموتى وأرض الخلود وهو ما يجعلها مكانا غير جاذب للناس ولكنه جرى إعادة صياغة الصحراء بحيث تكون هى المنطقة البكر لإعادة تأسيس المجتمع المصرى. وأصبح العيش فى الصحراء ليس رحيلا إلى الهامش ولكنه نقلا لمركز المدينة وإعادة تركيز القوة.
وقد دعمت عمارة الفيلا فى الصحراء من عرض الأفراد لنجاحهم فى عظمة وتباهٍ وذلك من خلال العلامات متعددة الثقافات (الكوزموبوليتانية) مثل حمام السباحة والأعمدة الكلاسيكية ومسطحات النجيلة وأشجار الصنوبر والجراج. وكان افتتاح أكبر مسئول فى الدولة لملاعب الجولف فى القاهرة الجديدة (مايو 1997) واعتبار أنه يوفر رئة خضراء لأهل القاهرة، محاولة يمكن النظر إليها على أنها تبرير لاستيلاء النخبة على الصحراء المملوكة للجميع وخصخصتها وإغلاقها والاستيلاء على المياه اللازمة لريها. وهو يمثل استبدال المصلحة الخاصة لفئة ما للمصلحة العامة للشعب.
وينبه المرحوم النابغة رشدى سعيد إلى أن المدينة المصرية تواجه خطر انشطار المجتمع إلى نخبة قليلة تحتمى داخل مجتمعاتها المغلقة ويحيط بها بحر هائل من المنهكين والمتعبين. والمجتمعات المغلقة هى تكريس لنوع جديد من الطبقية التى قد تضر بالمجتمع ككل، حيث تبتسر الخبرة الحياتية لساكنيها على التعامل مع من يقاربهم فى القدرة الاقتصادية وتمثل نوعا من الهروب من المدينة والحياة الحضرية.
***
بيئيا تعانى المدن الجديدة من ندرة الموارد الطبيعية وخاصة المياه كما أن كونها فى الغالب فى المناطق الصحراوية يساعد أكثر فى التساؤل حول طبيعة التعامل مع هذه البيئة. كما تستهلك الفيلات بصفة خاصة الكثير من الأراضى الصالحة للبناء وهى التى تمثل موردا طبيعيا لا يمكن استعادته والتى أصبحت مصر تعانى ندرة فى وجوده. وبالرغم من ندرة المياه فى المجتمعات الصحراوية فقد انتشرت الخضرة التى تسيطر عليها الحشائش حول الفيلات وفى ملاعب الجولف والنوادى الخاصة وغيرها وذلك بالرغم من الاستهلاك العالى للمياه فى رى تلك الحشائش ناهيك عن الصيانة الدورية بصورة قد لا تتناسب مع كمية المياه المتوافرة لنا جميعا مع شبح الفقر المائى الساكن معنا حاليا. ولم يصاحب هذا الاهتمام بتنسيق المواقع للأسف اهتمام مماثل بتطوير أنواع من النباتات التى تتعامل بصورة جيدة مع المناخ الصحراوى والتى تحتاج إلى كميات معقولة من المياه يمكن توفيرها بصورة دائمة.
يطرح هذان التحديان الاجتماعى والبيئى تساؤلات عدة ولكن ماذا عن البعد الاقتصادى والأبعاد الأخرى وكيف نناقش أو حتى نطرح تلك التساؤلات بدون معلومات دقيقة ومواكبة لوقتنا. أتفق مع الرشيدى فيما كتبه فى مجلة العمارة الأمريكية الشهيرة أن العمارة ــ والعمران أيضا ــ الجيدة «يمكن أن» تزدهر فى ظل وجود التحديات كما يكتب الرشيدى ولا شك أن المدن فى اختلاف الأماكن فى مصر توفر هذه التحديات. ولكن كما يضيف أيضا مركزا على القاهرة «إن ترك مدينة القاهرة إلى الضواحى هو كمن يهرب من سفينة مستخدما قوارب النجاة ليكتشف أنها ما تزال مربوطة بالسفينة الأم والتى هى لا تغرق على أية حال».