خلال المعارك الانتخابية الفرنسية، ليس مألوفًا أن تكون الملفات الخارجية مؤثرة فى خيار الناخبين والناخبات، مع ذلك تحولـت الحرب فى غزة إلى عامل من العوامل، التى تحدد وجهة اقتراع شريحة من الشعب الفرنسى فى الانتخابات النيابية، فى دلالة على «فرنسة» هذا الملف.
نجد فى المقام الأول دعاية إعلامية - سياسية، لا تضع ما جرى يوم 7 أكتوبر فى سياق «صراع بين احتلال ومحتل»، بل ترى فيه صراعا حضاريا بين «قوى الخير والشر»، أما قوى الشر فهى الحركات الإسلامية، ليتم الربط بين 7 أكتوبر من جهة، والاعتداءات الإرهابية التى طالت فرنسا من جهة أخرى، وعلى وجه التحديد ما جرى فى مهرجان «سوبرنوفا» والهجوم على مسرح «باتاكلان» فى 13 نوفمبر 2015. بعيدا عن الغايات والنوايا الضمنية التى دفعت إلى عملية المقارنة هذه، النتيجة تتلخص فى وجود مزاج لدى شريحة غير قليلة من الشعب الفرنسى، تعتبر ما جرى فى 7 أكتوبر امتدادًا للتحديات الأمنية الداخلية الفرنسية، بعبارة أخرى، إسرائيل وفرنسا تواجهان العدو ذاته.
على صعيد آخر، وكما بات معروفا، فإن تهمة معاداة السامية حاضرة دوما، بوجه كل من «تقاعس عن التضامن المطلق مع إسرائيل» لمجرد تبنيه قراءة مغايرة أو استخدامه عبارات خاصة به، فمعاداة السامية تعد من «الكبائر» فى فرنسا، ووصمة تلاحق من يدان بها سواء أكان فردًا أم مؤسسة.
استنادا إلى ما ورد أعلاه، لم يتردد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وكل من يدور فى فلكه، فى التصويب على «الجبهة الشعبية الجديدة»، وهو التحالف الذى أرسته الأحزاب اليسارية الفرنسية، وقررت على أساسه خوض الاستحقاق النيابى موحدة، عبر تقاسم الدوائر الانتخابية وتقديم برنامج مشترك.
فانفراد حركة «فرنسا الأبية» بموقف أقرب إلى الشعب الفلسطينى منه إلى الإسرائيلى، كلفها حملة إعلامية وسياسية شرسة، هدفت إلى شيطنتها بشتى السبل واتهامها بـ«معاداة السامية»، حملة كانت قد ساهمت فيها الأحزاب اليسارية المنضوية اليوم، فى «الجبهة الشعبية الجديدة». لضرب مصداقية هذا التحالف اليسارى لم يجد ماكرون أنسب من التصويب عليه، من زاوية احتوائه حزبا معاديا للسامية.
كان بوسع خصوم «الجبهة الشعبية الجديدة» إضعاف مصداقيتها والتشكيك فى قدرتها على تولى الحكم من زوايا أخرى، مثلا تناول السرعة التى صيغ فيها هذا التحالف، أو التركيز على الخلافات الداخلية بين الأحزاب والقيادات، التى تصل إلى حد التراشق الإعلامى، لكن أن تتحول الحرب فى غزة إلى «السلاح الأول» الذى يشهر فى وجه الخصوم فى خضم معركة انتخابية داخلية أمر بالغ الدلالة. لم تكتف أحزاب اليمين المتطرف، وعلى وجه التحديد حزب «التجمع الوطنى»، بالمشاركة فى هذه الحملة على خصومها اليساريين، بل اعتبرتها فرصة ذهبية لإزالة أحد أبرز العوائق التى تحول بينها وبين تولى السلطة فى فرنسا.
• • •
تاريخ حزب «التجمع الوطنى» بمعاداة السامية أشهر من نار على علم، لا سيما وأنه وريث حزب «الجبهة الوطنية» الذى أسسه جان مارى لوبان، مع عدد من النازيين القدامى، لكن استراتيجية «نزع الشيطنة» التى انتهجتها مارين لوبان، بغرض الوصول إلى السلطة، تطلبت محو هذه الصفحة من تاريخه، وهو ما وفرته لها عملية «طوفان الأقصى».
لم يكتف حزب «التجمع الوطنى» بالانحياز المطلق إلى الجانب الإسرائيلى، بل دخل فى مزايدة سياسية، مقدما نفسه بصورة «أفضل درع يحمى يهود فرنسا»، بهذا تخطى أحد أبرز الحواجز التى كانت تحول دون وصوله إلى السلطة. حزب «التجمع الوطنى» اقتنص الفرصة لتتحول الحرب فى غزة إلى إحدى الأدوات التى عبدت طريقه إلى السلطة، طبعا ليس هذا الموقف الذى أدى إلى فارق نوعى فى الحياة السياسية الفرنسية، على نحو قد يتيح للحزب المذكور تشكيل الحكومة المقبلة، لكنه ساهم من دون شك، فى تعزيز تقدمه المتنامى منذ سنوات: الحزب جذب أصوات شريحة من الناخبين والناخبات كانت متجاوبة مع طروحاته، لكن كان يحول بينها وبين الاقتراع له تاريخه المعادى للسامية، لتأتى عملية 7 أكتوبر وتحطم تلك العوائق. بالمقابل، تواجه حركة «فرنسا الأبية» منذ 7 أكتوبر، حملة إعلامية تهدف إلى تقديمها بصورة «الحزب الفرنسى الأول المعادى للسامية»، حملة تشوبها علامات استفهام كبيرة، خاصة أن توزيع التهم لا يترافق مع رفع دعاوى قضائية، ما يعزز فرضية «الافتراء». الخلاصة أن عملية «طوفان الأقصى» أعادت ترتيب المشهد الداخلى الفرنسى، بعد بروز بوادر إعادة تشكيل ما يعرف بـ«الجبهة الجمهورية».
• • •
فى الأدبيات السياسية الفرنسية، يستخدم تعبير «الجبهة الجمهوريّة» لنبذ اليمين المتطرف الفرنسى، الذى لا يحمل القيم السياسية والأخلاقية ذاتها، التى تُجمِعُ عليها الأحزاب الفرنسية. ادعت بعض الوسائل الإعلامية كما عدد من الشخصيات العامة أن حزب «التجمع» قد «اجتاز بنجاح اختباره الأخلاقى الأخير» وعليه بات يمكن اعتباره جزءًا من «الجبهة الجمهورية»، بالمقابل، كان هناك إصرار شبه مفتعل على «تسليم راية معاداة السامية» إلى حركة «فرنسا الأبية» لجعلها خارج «الجبهة الجمهورية». قرار ماكرون الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، عجل فى انكشاف ملامح هذا المشهد المستجد: فى طريقها إلى السلطة، زالت عقبة رئيسية من درب حزب التجمع الوطنى، فيما وضعت عقبة جديدة فى طريق حركة «فرنسا الأبية» واليسار الفرنسى عامة.
الدليل الأبرز هو إعلان عدد من القوى السياسية موافقتها على الاقتراع لمرشحى «الجبهة الشعبية الجديدة»، فى بعض الدوائر، إلا إذا كان مرشح «الجبهة الشعبية الجديدة» منتميًا إلى حركة «فرنسا الأبية»، رفضه القاطع حتى لو كان المقابل فوز مرشحى «التجمع الوطنى، وهو ما تقاطع مع بعض المقالات والتحقيقات التى رصدت مزاج الشارع الفرنسى فى بعض الدوائر، أو حتى ما ينشر على حسابات الأفراد فى وسائل التواصل الاجتماعى.
حسن مراد
موقع درج
النص الأصلى: https://rb.gy/esf4p2