فى حقيبة المدرسة أقلام ودفاتر وكثير من الشجن. فى الحقيبة صورة والدى فى شبابه يشترى لى أقلام الرصاص بأشكال مختلفة ويفرح بها كأنه هو من يعود إلى مقاعد الدراسة. تماما كما أفرح أنا بالسبورة الصغيرة التى أشتريها لابنتى وكأننى أرتب أشيائى فى حقيبة المدرسة خاصتى وأنا على أعتاب عام جديد.
•••
فى حقيبة المدرسة أجيال تختلط فى ذاكرتى قصصها فأرى مثلا أولادا بزى مدرسى لا أذكره لأنه زى مدرسة الرهبان فى حلب حيث درس طفل منذ ستين سنة هو اليوم جد أطفالى! فى حقيبة المدرسة أيضا خبزة بالزبدة والمربى لم آكلها قط فهى لطفلة تلبس لباس الكشاف بلونه الزيتى هى اليوم جدة أطفالى!
•••
فى العودة إلى المدرسة شجن فصول الخريف كما كانت فى أيام بعيدة، صباحاتها باردة وقد تسقط فيها قطرات المطر بنعومة ترافق آخر أيام الصيف. الخريف والعودة إلى المدرسة ورائحة الحبر والورق والألعاب الملونة التى تظهر فى واجهة مكتبة الحى وذلك الشعور المختلط بين الترقب والإثارة فى صباح اليوم الأول تعود كلها لتجتاحنى وأنا أراقب أطفالى ومن حولهم.
•••
الحق فى التعليم هو حق أساسى من حقوق الإنسان كما هو الحق فى حياة كريمة وحقوق ثانية تم تحديدها وتعريفها بهدف التأكيد أن لا تهاون فى الحصول عليها. عندى شعور عميق بالحزن على الأطفال المحرومين من التعليم ومن الطفولة ومن فرحة العودة إلى المدرسة.
•••
أسمع من أصدقائى أيضا كيف تتأجج مشاعرهم وحنينهم إلى أيام الدراسة مع اقتراب عودة أولادهم وكأننا نصبح جميعا من جديد ذلك الطفل الذى لا ينام ليلة اليوم الأول ويقوم من سريره عدة مرات ليتأكد أنه رتب أشياءه ثم يبطئ من خطواته قليلا حين يقترب مع والده أو والدته من البوابة ويتعرف من بعيد على وجوه أصدقائه بعد انقطاع.
•••
نصبح كلنا تلك الطفلة بضفيرتيها وقميصها النظيف، أمسك بيد أبى وأحاول احتواء ابتسامة كبيرة وبعض القلق. يرافقنى هو إلى داخل المبنى ويسأل عن الفصل ثم يودعنى عند باب الفصل فأدخل وأنا أشعر بأننى كبرت سنة فى الصيف.
•••
أظن أن الذاكرة والسردية البصرية اختلفتا كثيرا فحتى الخريف لم يعد خريفا وها هم الأطفال يعودون إلى الدراسة وسط درجات حرارة صيفية بامتياز. لا مطر خفيف ولا نسمة ناعمة تنتظرهم حين يخرجون من البيت. فى حالتى، أظن أننى أكثر تشوقا إلى المدرسة وما يرافقها من طقوس من أطفالى. أمامى من حيث أعمل صورة لشابات فى شارع فى دمشق بالأبيض والأسود ككثير من صور ما يسمى بالزمن الجميل. أتمعن فى وجوههن وأفكر بأزمان كثيرة جميلة فاتت. أعى أنها صور خداعة ولا يمكن تعميم محتواها على بلد أو زمن بأسره، فلم تكن كل شابات دمشق أو القاهرة أو غيرهما مثل شابات الصورة أمامى، كما لم يفرح كل الأطفال بعودتهم إلى المدرسة، إنما هناك شىء مريح للقلب يأتى مع هذا النوع من التعميم، فيبدو كل الأطفال سعيدين وكل الشابات جميلات فى الصور القديمة.
•••
فى الصورة النمطية التى فرضتها الأفلام تبدأ المدرسة فى أول الخريف بعد إجازة صيفية قضت العائلة جزءا منها قرب شاطئ أو بحر. فى الصورة النمطية صباح صاخب فيه أطفال بأعمار مختلفة وأم وأب وزحمة ما قبل الخروج من البيت. تحضر الأم طعاما خفيفا سوف يأخذه الأطفال معهم إلى المدرسة. تتعارض الصورة مع واقع تذكرنى به صديقة فى سوريا حين تفرد أمامى أرقاما مخيفة عن عدد الأطفال المتخلفين عن الدراسة سواء داخل سوريا أو فى دول الجوار التى لجأوا إليها مع عائلاتهم فى السنوات العشر الأخيرة.
•••
أذوب خجلا من سذاجتى وتصورى للمدرسة والحقيبة وشعورى بالشجن أمام هول المصيبة التى ضربت جيلا كاملا فقد حقه فى التعليم وفى الطفولة. أسمع صديقتى وأتمنى أن أختفى فى حفرة صغيرة قبل أن أشرح لأطفالى أن الدراسة حق أصبح اليوم ترفا وعليهم أن يعوا تماما أنهم محظوظون بحصولهم على التعليم. أريدهم أن يحتفوا بالعودة إلى المدرسة وفى الوقت نفسه أن يفهموا أن فى هذه العودة امتيازا. أريدهم أيضا أن يتعاملوا مع التعليم على أنه حق مع فهمهم أنه حق مهدور لآلاف الأطفال فى عمرهم.
•••
فى حقيبة أولادى المدرسية أغلف شعورى بالامتنان وأدسه بين كتبهم حتى يعرفوا أن يوم العودة إلى المدرسة هو احتفال بحقهم فى التعليم وفى المرح وفى الطفولة. أمرر يدى على أغلفة الدفاتر وأتمنى أن يملأوها برسومات وألوان خارج المواد حتى لو فى ذلك خروج عن النص. هذا ما سوف يتذكرونه فيما بعد، كيف رسموا قلوبا على صفحة الحساب، أو وجها ضاحكا على صفحة الشعر.
•••
أتمنى لكل طفل ذكريات عن العودة إلى المدرسة، أظن أن فى العودة هذه الكثير من الحنان الذى يحتاجه الطفل فى مراحل متقدمة من العمر، كأن أجلس فى مكان عملى اليوم وأستجمع كمية مشاعر لا تنتهى من ذكريات العودة إلى المدرسة. التعليم حق، وكذلك هى ذكريات العودة إلى المدرسة!
كاتبة سورية