فجأة تتحول المدينة الى شكل من اشكال الجنون، نعم هى مدينة تصاب بالجنون اسبوعا فى العام ويترقب سكانها والقادمون الجدد كل ذلك.. انها نيويورك وهذا اسبوع الجمعية العامة حيث يجتمع قادة العالم فى ذلك المبنى يتداولون قضايا الكون ثم ما يلبثون وان يرحلوا فتعود المدينة الى روتينها القديم وهو الاخر ليس كالمدن الاخرى، هذه المدينة التى كتبت فيها القصائد وغنى الكثيرون ورددوا نيويورك نيويورك المدينة التى لا تنام.
ابتسم ذاك المصرى الواقف امام عربته وطوابير تنتظر اطباقه الشهية على ناصية الجادة السادسة وشارع 31 .. الشوارع فى نيويورك لا تحمل سوى الارقام ليس لها مسميات تأتى من الماضى ببطولاته وشخصياته كما هو حال شوارعنا.. الشوارع كما البشر هى مجرد ارقام فى هذه المدينة.. عندما يبتسم المصرى بسخريته المعهودة لأنه يردد هذه المدينة لا تنام؟؟ هل عاشوا بالقاهرة؟؟ تلك هى المدينة التى لا تنام حيث بائع الخضراوات يسرح بعربته فى الساعة الرابعة صباحا حين يتثاءب اليوم معلنا بدايته ويخرج السهرانون من غرفهم المظلمة الى بعض نور الشمس القادم متجهين الى فراشهم.. يتناوب البشر على الطرق وعلى المدينة يتقاسمون ساعاتها.
●●●
رغم ذلك فى نيويورك هى الاخرى لا تنام طويلا أو ربما تنام بعض الشىء إلا فى هذا الأسبوع حيث تبدو علامات الجنون مع بدء الويك اند وتأخذ ذروتها فى يوم الاثنين أى بداية اسبوع الجنون.. تغلق الشوارع ويتحول التجول بالسيارات الى ضرب من المستحيل فيعود الجميع الى «باص 11» كما يسمونه إلا وهو السير على الاقدام وفى ذلك أيضا شىء من العبث.. هذا رصيف غير مخصص للسير وهذا ممر واحد الى ذاك المبنى الضخم القابع فى «جادة 1».. حيث يتدافع نحوه بشديد السرعة وكأن قضايا الكون تنتظر هذا الحضور الكبير.. كأن الازمات توقفت عند دخولهم ذلك المبنى وجلوسهم لمناقشة الاقتتال هنا والموت المعتق هناك والانقسامات المقيتة على الهوية والطائفة والدين أو ربما على المصالح السياسية البحتة باسم كل ذلك.. يتصور البعض أن هذا الاسبوع السحرى سيحول الكون الى مكان اهدأ واكثر آدمية لنسكنه.. هكذا يتدافعون للإصغاء للكلمة الهامة لبعض الدول بينما تخلو القاعة من الحاضرين عندما تتحدث كل بل معظم دول العالم.. من يريد ان يستمع الى تلك الدويلة الصغيرة الجالسة فى خاصرة المحيط الهادى.. وما قيمة رأى تلك الجزر التى لا وجود لها سوى فى المطبوعات المصقولة لوكالات السياحة.. الدول كالبشر «مقامات» ولا يتساووا رغم ان هذا المكان يضعهم جميعا فى صف واحد!!
يتزاحم ويتدافع البشر فى المدينة المجنونة، يتعب السكان فى الوصول الى منازلهم وعليهم ان يحملوا كل بطاقات الهوية اللازمة.. كل السائرين نياما أو صحوا فى مدينة الجنون لا يتجولون دون ما يثبت من هم وإلا كان ما كان؟؟ تتحول المنطقة المجاورة لذلك المبنى الى مركز كبير لرجال الشرطة والمباحث والمخابرات والامن الخاص وكل ما يحمله القاموس الامنى من مناصب واوصاف.. رجال بأزياء رسمية وآخرون ببدل البعض يجلس فى عربات ضخمة واخرون يسيرون مع الكلاب البوليسية وفتيات ناعمات، شرطيات طبعا على الدراجات الهوائية .. ويتحول الشارع 42 بعد اغلاقه لأى مطبخ ضخم يوفر لهذا الجيش من رجال الامن والشرطة كل ما لذ وطاب.. افطار شهى فى الصباح وكثير من القهوة.. اكثر ما يستهلك فى مدينة الجنون هو القهوة.. ثم القهوة..
●●●
يقول النيويوركيون إن كثيرا منهم يفضلون اخذ اجازاتهم، اذا استطاعوا، ومغادرة مدينتهم عندما تصاب بجنون ذلك الاجتماع المهم.. وآخرون يبدأون فى الاستعداد قبله بتخزين الطعام حتى تفادى الازدحام الشديد فى المطاعم والمقاهى ورسم الطرق من المنزل الى العمل أو المدرسة بشكل دقيق للابتعاد عن الشوارع المزدحمة ورغم ذلك لا يستطيع احد ان يتفادى جنونها.. كأنها امرأة تنكش شعرها وتخرج لسانها للجميع فيما هى ترتدى اجمل ازيائها وتضع المساحيق لتبدو الاكثر اثارة للقادمين.
فى اسبوع الجنون هذا يفرح الكثيرون.. بائع الالكترونيات ذاك الذى صرح بفرح شديد انه باع ست كاميرات لمجموعة من الزوار القادمين من احدى الدول الخليجية.. كاميرا على شكل نظارة، قالها بشىء من الطفولية تسير فى نيويورك وانت تصور ما ترى ثم ما عليك سوى ان ترسله الى اهلك هناك.. عندما سأله ولماذا؟؟ قال ليكونوا معك.. وراح يسترسل بفرحته بأن ذاك الاجتماع سيناقش آلام الكون يضعه فى شكل تقارير ويحول عذابات البشر الى صفحات تقرأ وتقرأ ثم يقف الجميع ليصوت على قرار ما.. «جميل أن يجدوا حلا للحروب والجنون الذى يصيب الكون» يتحدثون عن انواع من الجنون فى نيويورك، ذاك الجنون القادم مع كثير من الربح لهذه المدينة وذاك الحامل لأكفان الصغار فى تلك.. كله جنون.. أو شىء منه.. بالأمس صمتت المدينة أو عادت الى جنونها الروتينى بقى من بقى ورحل الكثيرون ومعها رجال الأمن والشوارع المغلقة وعربات الدونت وأكوام من اكواب القهوة الطازجة.
كاتبة من البحرين