فتحت الكيس الكبير دون تفكير، مدفوعة بلهفتى إلى رؤية محتواه، فقد وصل الكيس للتو من دمشق. ربما كان يجب على أن أتروى، أن آخذ نفسا عميقا وأحضر نفسى للقاء. ربما كان يجب أن أفتح الكيس بتأن حتى أتفادى الصدمة. فتحت الكيس وانتقلت كما أليس فى بلاد العجائب إلى خان الصابون، انتقلت إلى ورشة صغيرة فى حلب تكثف البخار فيها عند سقف الغرفة، بينما وقف عدد من العمال حول قدر كبيرة ولفوا مناشف صغيرة حول رقابهم لتمتص العرق. فى الكيس أمامى أجيال كاملة تستحم استعدادا للعيد، وجدة ما زالت شابة تفرك الأجساد الصغيرة بصابون الغار.
***
وصلنى من دمشق كيس كبير فيه صابون بلدى، صابون مصنوع من زيت الزيتون وورق الغار، مصنوع من حب من حافظ على جزء من هوية لم تدمرها الحرب. وصلنى مع الصابون صوت جدتى وهى تساعدنى على الاستحمام فتغنى لى وهى تفرك شعرى «يا شعرات تمارا يا قصاقيص الدهب».
***
حين كتب الروائى الألماني باتريك سوسكند قصة «العطر»، فاجأ قراءه بفكرة أن يكون شخص بلا رائحة. أنا نفسى حين قرأت الكتاب أخذت بعض الوقت لأستوعب فكرة الكاتب. باستطاعتى أن أصف بإسهاب بعض الروائح، وأن أنتقل فى لحظة ودون قرار منى إلى بلاد بعيدة، فأقف فى حضرة أشخاص لم يعودوا موجودين أصلا، حين تنسل إلى داخلى رائحة عطر استخدمه ذلك الشخص ذات يوم. لكننى لم أفكر قط فى إمكانية غياب الرائحة أو غياب العطر.
أنا نفسى كثيرا ما أدس أنفى فى رقبة أولادى وهم نيام، أغمض عينى لأشمهم، أو بالأحرى لأخزن فى ذاكرتى رائحة مرحلة من حياتهم أشعر أننى أحتاج إلى أن أوثقها من خلال حاسة الشم. أتخيل أحيانا أن يتطور العلم فيتمكن كل شخص من تغليف رائحة بورق ملون كورق الهدايا ويحتفظ به حتى يحتاج إلى جرعة منه.
***
أنا عن نفسى سوف أصنع رفا خشبيا على عرض حائط بأكمله لأرص عليه ما غلفته. ورقة زرقاء زرقة السماء، فيها رائحة صابون الغار عندما يرغى، فى حمام بخاره كثيف: عمرى ست سنوات والمكان هو بيت جدتى. ورقة وردية لرائحة كعكة جوز الهند، خبزتها أمى بعد ظهر يومى خريفى: عمرى اثنتا عشرة سنة والمكان هو مطبخ بيتنا فى دمشق. ورقة خضراء لرائحة قشر البرتقال وهو يحترق فوق مدفأة الصوبيا فى يوم بارد: عمرى ست عشرة سنة والمكان هو بيت جدتى من جديد. ورقة بيضاء لرائحة الثوم وهو يذوب فى زيت الزيتون وقت الغداء: عمرى واحد وعشرون عاما وأحاول أن أقلد طبخ أمى فى بيت الطلبة، فيحترق الزيت ويرن جهاز الإنذار من الحريق. ورقة فضية لرائحة عطر فرنسى، يبدو لى أن أساسه مزيج من خشب الصندل ونكهة الفانيليا: عمرى خمسة وعشرون عاما وأشم العطر على معصمى فى أحد المطارات، فأقرر أننى دخلت فى مرحلة النضج. ورقة برتقالية برائحة عادم السيارات، فى صباح محمل بنور الشمس وتلوث الجو، ومحمل بوعد لقاء الرجل الذى أحبه: عمرى ثلاثون عاما والمكان هو القاهرة. وهكذا سوف أستمر برص لحظات التقطها أنفى فخزنها على هيئة روائح، أسترجعها فى كل مرة أقرر فيها أن أعيد النظر فى موقف أو أعيد الفرح لشىء حدث، أو حتى أتصالح مع يوم حاولت مرارا أن أمحوه من حياتى إلا أن رائحته لم تتركنى.
***
حين دخل والدى بالأمس إلى منزلى كعادته مساء كل يوم، اختلطت علىّ التفاصيل وأنا أستقبله عند الباب. رأيته رجلا خمسينيا يعود من عمله فى يوم كأيام كثيرة مرت علينا. وقفت فى المدخل أبحث عن والدى الذى هو جد أطفالى، لكنى رأيت مكانه رجلا لا أحفاد له. أيقنت وقتها أن ثمة ما يعيدنى نحو عشرين عاما إلى الوراء، لكنى لم أضع يدى على السر حتى وضع السر يده علىّ فى اليوم التالى: لقد عاد أبى إلى عطر كان يستخدمه فى زمن سابق وبعيد، زمن ما قبل الحرب وقبل الأحفاد وقبل رائحة علبة الأدوية التى يفتحها يوميا للحفاظ على صحته.
***
الشم أكثر الحواس لؤما وأكثرها قدرة على المباغتة. الشم يخطفنى فى لحظة ويرمينى فى زمن مضى، فأخرج رأسى منه كمن يتخبط ليخرج رأسه من تحت الماء حتى يتنفس. ها أنذا أكاد أغرق فى بحر الذكريات، بينما يأتينى صوت من بعيد ينصحنى بأن أسترخى حتى أتمكن من الشهيق والزفير. يبقى جسدى تحت الماء بينما يخرج رأسى إلى الزمان والمكان القديمين. وهنا، فى منتصف وجهى، يمد أنفى لسانه بعد أن نجح فى سحب البساط من تحتى ككل مرة فأكاد أن أقع. أتخيل الروائح كأفعى الحاوى ترقص على نغم الذكريات، تتمايل على إيقاع أحاسيس صاحبها، فتربت عليه بحنية تارة وترفسه بشدة تارة أخرى.
***
فى الكيس الكبير أحجام وأشكال مختلفة من صابون الغار. أشعر وكأن كل قطعة منها تغفو فى يد جدتى، ثم تستفيق عندما تمسح بها على رأسى برفق. فى الكيس الكبير قرون من الصناعة اليدوية، وحكايات من البيوت العائلية الكبيرة، وأيام بأسرها فى حمامات السوق القديمة. هناك، همس أحد العاملين وهو يصب الزيت الصافى «فى كل صابونة حكاية، وفى كل حكاية طفلة عمرها ست سنوات تستحم مع جدتها التى تغنى لها. فى كل صابونة سيدة تغنى لابنتها «يا شعرات بنتى يا قصاقيص الدهب».