تم التحفظ على د/عبدالعظيم أبو العطا وزير الرى الأسبق فى أواخر عهد السادات لمهاجمته له ولاتفاقية كامب ديفيد بعد أن نما إلى علمه موافقة السادات على بند فى المعاهدة يتضمن توصيل مياه النيل إلى إسرائيل.
أثارت معارضته الشديدة حفيظة السادات فزج به مع هؤلاء المعتقلين الذين أودعوا سجن استقبال طرة، كان د/أبو العطا دمث الأخلاق هادئ الطبع قليل الكلام لم يبد ثورة فى مواجهة إدارة السجن لأنه يعلم أنها لا ناقة لها ولا جمل فيما يجرى خارج الأسوار كما حكى مأمور السجن وقتها العقيد/ محسن السرساوى «مساعد الوزير بالمعاش الآن» والذى كان مشهورا بالحكمة والأناة وحسن المعاملة.
وكان تواضع وخلق د/أبو العطا يجعل السرساوى يخصه وأمثاله بمزيد من رعاية واحترام وعناية أكثر من الشباب المشاغب الذى كان معتقلا معهم وقتها.
كان د/أبو العطا يعانى من أمراض عدة ويتعاطى كمية كبيرة من الأدوية مما استلزم حجزه بمستشفى السجن الذى لم يكن مستعدا لاستقبال وعلاج مثل هذه الحالات الخطيرة، فالمستشفى غير مجهز من ناحية كما أن أطباءه حديثى التخرج.
وجد العقيد السرساوى أن حالة د/أبو العطا ليست على ما يرام وأنه يحتاج لدقة المتابعة لحالته أفهمه أن من حقه أن يطلب طبيبه المعالج له قبل دخوله السجن لمتابعة حالته.
كتب د/أبو العطا طلبا لمصلحة السجون لاستدعاء د/أنور عبدالعزيز الشريف رفع الطلب إلى المصلحة، لم تستجب مصلحة السجون كعادتها فى بطء الاستجابة لمثل هذه الطلبات.
رأى السرساوى أن صحة الرجل تتدهور سريعا ومن واجبه الأخلاقى وضميره المهنى نحو أحد علماء مصر السجناء أن يتصرف معه بروح القانون، فأخذ رقم زوجة د/أبو العطا ومنها أخذ رقم د/الشريف واتصل به، وفى عدة ساعات وصل د/الشريف وتم إثبات حضوره بدفتر أحوال السجن بمعرفة المأمور السرساوى وتم عمل اللازم طبيا وشراء الدواء بمعرفة أسرته.
بعدها بأسبوع تم نقل السياسيين القدامى إلى سجن ملحق مزرعة طرة وهذا السجن يعد من أفضل سجون مصر حتى الآن، ومنهم د/أبو العطا وحسنين هيكل، وفؤاد سراج الدين، وعصمت سيف الدولة ، ود/الؤبراشى وغيرهم مع حفظ الألقاب، وذلك لإبعادهم عن شباب الجماعات الإسلامية وقادتها.
وفى أحد أيام الجمعة، وبعد أن صلى د/أبو العطا صلاتها شعر ببعض الإعياء ثم استلقى على سريره وفارق الحياة مباشرة.
ثار زملاء د/أبو العطا فى السجن ثورة عارمة، وتزعم الثورة د/عصمت سيف الدولة أستاذ القانون والمحامى الشهير ــ وكان نصيرا للحق والحرية بحق ــ وقال ضمن ما قال: إن إدارة السجن متهمة بقتله بالإهمال لعدم استدعاء طبيبه المختص بعلاجه مما يعتبر «قتلا بالترك».
أثار اتهام د/سيف الدولة قلقا واسعا فى وزارة الداخلية وقتها لأن خطاب طلب طبيبه الخاص كان ما زال قيد الفحص ولم يبت فيه حتى لحظة وفاته، إلا أن التصرف النبيل الذى فعله السرساوى وروح القانون التى أحياها باستدعائه طبيبه على مسئوليته الخاصة أنقذ الموقف وبرأ ساحة الداخلية، فقد بادر السرساوى بإظهار الأدلة على استدعاء طبيبه الخاص.
شعرت الرئاسة وقتها بالحرج لأن خبر وفاة د/أبو العطا سبب حرجا لمصر على مستوى الدوائر الغربية والعالمية، ولم ينقذ الموقف سوى المستندات التى قدمها السرساوى فتلقفتها الرئاسة بشكر هذا المأمور الشجاع الذى ما كان ليجرأ أن يخرج هذه الأوراق لولا وفاة الرجل والأزمة التى حدثت، وأحسب أنه لو قال إنه فعل ذلك فى ظروف مختلفة لعوقب أشد العقاب.
حينما يعمل الموظف الرسمى بروح القانون فى الحالات الحرجة والصعبة والتى لا حل لها سوى هذه الروح النبيلة فإنه قد ينقذ الدولة أو الحكومة من موقف عصيب كان يمكن أن تقع فيه، لو كان جامدا صلدا لا روح فيه ولا عقل ولا حكمة ولا روية.
نحن نتعامل مع بشر، وكم ضاع مرضى فى السجون وخارجها بل وفى المستشفيات الكبرى لأن مريضا احتاج إلى شىء بسيط ولكنه ضرورى ولم يجد من يشتريه أو يتطوع أحد لإنقاذه.
ولولا مرونة اللواء/أحمد رأفت والفريق الذى كان معه ما تمت مبادرة منع العنف التى قامت بها الجماعة الإسلامية، فقد خرق عادات وأعراف بالية كثيرة وحطم أصناما كثيرة من أصنام الروتين، وكان سببا لزيارة ألف معتقل لبيوتهم فى سابقة لم ولن تحدث فى تاريخ مصر، وأدخل الأحوال المدنية إلى السجون لاستخراج البطاقات وفعل كذا.. وكذا.. مما يضيق المقام عن بسطه.
ولولا مرونة ضابط حديث الرتبة ذكى وجرىء وطيب وهو الرائد /علاء فتحي «اللواء حاليا» ما بدأ التفكير جديا فى مبادرة منع العنف فقد عين ضابط لأمن الدولة بسجن ليمان طرة فكان يتحدث إلى قادة الجماعة الإسلامية صباح مساء ويدخل العنبر وحده ويقف مع ثلاثين شخصا يتحاور معهم بالساعات، وأوقف التعذيب والإهانات للمعتقلين الجدد فى السجن، إجراءات بسيطة مرنة لم تكلفه شيئا، فتحت الطريق لحوار معمق أدى فى النهاية إلى أكبر عملية مراجعة فى تاريخ الحركات الإسلامية، الرائد علاء كان نموذجا فذا للضابط الذى يعمل عقله ويفكر فى الأمور الاستراتيجية بدلا من أن يبحث كغيره عن الهوامش والتوافه، لقد بدأت المبادرة بهذا الضابط الشريف وكأنها قطرة مطر تحول إلى نهر عذب.
نحن نتعامل مع بشر مهما كان خطؤهم، فكرهم أو مذهبهم أو رأيهم أو خطهم السياسى، كان السرساوى يقول لنا دائما «أى خطأ يصدر داخل الأسوار الأربعة يمكن مداواته، أما إذا خرج الخطأ خارج هذه الأسوار فلا يمكن مداواته لأنه سيخرج عن سلطتى، أما الأولى فسأعالجها بطريقتى الخاصة».
وكان ضابط آخر جيد يقول «ليست لنا مشكلة مع أهالى السجناء والمعتقلين ولن نعاملهم بسوء حتى لو حدثت مشكلة بيننا وبينكم»، كل هؤلاء وأمثالهم تمتعوا بقدر كبير من المرونة فى وظيفة ضيقة المرونة أصلا والحساب فيها عسير، ولم يستفيدوا شيئا من هذه المرونة سوى الذكر الحسن، ولكنهم حاربوا من أجل أن تكون لهم شخصية مستقلة تميز بين الصواب والخطأ وتدفع الخطأ ما أمكنها ذلك.
وأنا أعتقد أن الموظف المصرى الآن فى كل المجالات فقد كثيرا من حريته ومساحة تصرفه ومرونته، وأن كثيرا من قادة الموظفين أصبحوا يخافون من اتخاذ قرارات صحيحة وسليمة يرونها لأن الأوامر عكس ذلك، وقد يرون التعليمات تعاكس المصلحة الواضحة البينة التى يراها ويعلمها الجميع فيضيع المصلحة ويطبق التوجيهات والأوامر، وأحيانا ييأس قائلا «هى خربانة خربانة» أو إذا اتخرب بيت أبوك خذ منه قالبا.
ولو أن كمسارى القطار تحلى بشىء من المرونة والإنسانية لاكتفى بإنذار البائعين الجائلين لينزلا فى أول محطة يقف عليها القطار، ويكتفى بهذا الجرح والحرج الإنسانى فكسرة النفس أخطر من كسر العظام، إنها أرواح تقهر.
وهذا الشاب القتيل مات ألف مرة قبل أن يمزق القطار جسده مات من الفقر، ومات من الحرج وهو يطأطئ رأسه خجلا أمام الناس، ومات من إهانات رئيس القطار.
ثم ماذا لو دفع له الركاب التذكرة وأنقذوا وزارة النقل ورئيس القطار من الخجل والحرج وأنقذوا الشاب من الموت.
لقد رأيت كثيرا فى سفرى بالقطارات مدى الحرج والجروح الإنسانية العميقة التى يشعر بها من لا يملك حق التذكرة حينما يضبطه الكمسارى وكان بعضهم يشتم أو يضرب هذا الراكب، وكم رأيت فى قطارات الدرجة الدنيا فى القطارات عجائز يتوسلن للكمسارى أن يأخذ تذكرتين فقط من أسرة صعيدية مكونة من خمسة أفراد مسافرة من أقاصى الصعيد للقاهرة للزيارة أو العلاج، والحقيقة أن معظمهم كان يستجيب بود ورفق، لأنه يعيش مثل هذه الظروف، والآن غلب التشدد فحدث ما حدث.
القانون مطلوب لأن هناك فوضى فى دخول الباعة الجائلين للقطارات المكيفة بل والشحاذين، ولكن الاستثناء والرحمة مطلوبة فالشباب المصرى أصبح فقيرا جدا.
ما أحوجنا اليوم لشىء من المرونة وكثير من الرحمة لتكون مظلة لنا فى هذا الهجير الذى نحياه.