أدت حرب أكتوبر 1973 فى الشرق الأوسط وما أنتجته من حظر عربى على البترول إلى إدراك أوروبا للعلاقة والتأثير المباشر بين أمن واستقرار الشرق الأوسط وبين المصالح الحيوية الأوربية. وقد أدى هذا الإدراك إلى صدور بيان البندقية عام 1980، الذى اعترفت فيه أوروبا لأول مرة بحق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم. ومن هذا التاريخ ظلت أوروبا تتطلع إلى دور فى عملية البحث عن السلام للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى، وإن كان هذا السعى قد ظل محكوما بثلاثة اعتبارات:
1- اعتقاد أوروبا أن الولايات المتحدة باعتبار مكانتها الدولية وعلاقتها بإسرائيل هى القوة القادرة على تحقيق تسوية سليمة.
2- إن الولايات المتحدة لم تكن تشجع دورا أوروبيا مستقلا وفاعلا فى عملية السلام وظلت تنظر إلى أوروبا كمانح وممول للفلسطينيين.
3- إن إسرائيل لم تكن تشجع دورا أوروبيا، بل كانت تعتبر أن أوروبا ليست حساسة للأمن الأوروبى بل ومنحازة للعرب.
وقد ظلت أوروبا تراقب إدارة الولايات المتحدة لعملية السلام، وحيث أدركت أن احتكار الولايات المتحدة لهذه العملية لم يحقق تقدما، ولذلك فإن الحاجة أصبحت ماسة لتوسيع قاعدة الإدارة الدولية لعملية السلام، ومن هنا نشأت عام 2002 ما أصبح يعرف بـ«الرباعية»، التى ضمت الاتحاد الأوروبى، الولايات المتحدة، وروسيا والأمم المتحدة، وإن كانت اجتماعات ولقاءات هذه المجموعة قد رآها الشركاء الآخرون باعتبارها مظلة للدبلوماسية الأمريكية فى عملية السلام.
●●●
وقد تفاءلت دول الاتحاد الأوروبى بما أبداه باراك أوباما منذ البداية بالاهتمام بإعادة إحياء عملية السلام على أساس من مبدأ الدولتين، وكذلك إيقاف بناء المستوطنات فى هذا أصدر الاتحاد الأوروبى فى 15 يوليو 2009 فى اجتماعه فى لوكسمبرج قرارا تبنى فئة مبادئ أوباما، كما عبر عن قلقة العميق من النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية وهدم المنازل وإخلاء الفلسطنين من المناطق الفلسطينية بما فيها القدس وحث الحكومة الإسرائيلية على الوقف الفورى للاستيطان بما فى ذلك القدس. وقد تتالت بعد ذلك، خاصة مع ما تبين من فشل إدارة أوباما فى إقناع نتنياهو بوقف المستوطنات، البيانات التى أكد فيها الاتحاد الأوروبى عدم شرعية المستوطنات وفقا للقانون الدولى، ودعا إلى مد فترة وقف المستوطنات، ودعت كاترين اشتون مفوضية الشئون الخارجية بالاتحاد إسرائيل للرجوع عن قرارها بناء 800 وحدة سكنية فى أحد التجمعات الاستبطانية الكبرى، واعتبرت ذلك تناقضا مع جهود المجتمع الدولى لاستئناف المفاوضات. ومع تجاهل إسرائيل لهذه القرارات والنداءات واستمرارها فى بناء المستوطنات، أدانت الدول الأوروبية فى مجلس الأمن فى ديسمبر 2011 «الاستيطان الإسرائيلى غير الشرعى» ودعت الحكومة الإسرائيلية إلى وقفه فورا، وخصت فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا والبرتغال فى بيان مشترك الحكومة الإسرائيلية على «التراجع عن الخطوات المعلنة أخيرا بشأن وحدات استيطانية جديدة، وأكد البيان الأوروبى ضرورة التواصل إلى حل دائم بما يضمن الأمن لإسرائيل وحلا عادلا للاجئين الفلسطينيين. وقد جاء الرد الإسرائيلى على بيان الدول الأوروبية الأربع حادا، واعتبرت بيانهم تدخلا فى شئون إسرائيل الداخلية وطالبتهم بأن يهتموا بشئونهم. وقد عقب هنرى سيجمان الخبير فى شئون الشرق الأوسط فى مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى إلى القول إن ادعاء إسرائيل بأن الأرض المحتلة فيما بعد حدود 1967 هى شئون «داخلية»، إنما يسمح للحكومات الإسرائيلية أن تفعل ما تشاء دون اعتبار لحقوق الشعب الفلسطينى أو القانون الدولى وأن هذا لم «يعقد» فقط عملية السلام، كما تحب الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تسميه، وإنما حولت عملية السلام إلى مهزلة، الخيار الاستراتيجى للحكومات الإسرائيلية الذى يضع الأرض فوق السلام، ولا تترك أى مجال للشك أن هدف المشروع الإسرائيلى الاستيطانى هو منع الدولة الفلسطينية.
وفى ضوء هذا الإدراك الجديد للتحيز الأمريكى، الذى أثار الدول الأوروبية الأربع الأعضاء فى مجلس الأمن ولكى يسقطوا الادعاء أن حكومة نتنياهو ملتزمة بحل الدولتين.
وعقب اجتماع مغلق لمجلس الأمن الذى تلقى فيه أعضاؤه إيجازا حول خطط إسرائيل الجديدة لبناء المستوطنات، التى سوف تستبعد بفعالية دولة فلسطينية من أى جزء من القدس الشرقية، وبذلك تستبعد حل الدولتين، فقد وصفت هذه الدول الأوروبية الأربع مصادرات إسرائيل المستمرة للأرض باعتبارها «رسالة مدمرة» devastating mésage حول نوايا إسرائيل، وقال مسئول أوروبى رفيع «إننا لا نعرف إلى أين تقود هذه الحكومة إسرائيل وما موقفها تجاه عملية السلام»، وهو ما عقب عليه المراقبيين بأنه لغة دبلوماسية للقول «بأننا نعرف إلى أين تقود هذه الحكومة إسرائيل وما هو موقفها فيما يتعلق بعملية السلام، وأنها لا تستطيع أن تعتمد أكثر من هذا على تواطؤنا». وفى 23 ديسمبر 2011 وجه الاتحاد الأوروبى احتجاجا رسميا لإسرائيل على تنفيذ مشروع استيطانى جديد يرمى إلى الربط بين مستوطنة «معاليم ادوميم»، شرق القدس، ومدينة القدس ويفصل فى الوقت نفسه القدس المحتلة عن الضفة الغربية مما يحول دون إمكان التوصل إلى حل نهائى على أساس إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافى وقابلة للحياة.
ومؤاخرا أكد تقرير داخلى أعده دبلوماسيون فى الاتحاد الأوروبى أن الاستيطان والقيود المفروضة على الفلسطينيين فى الضفة الغربية المحتلة يقوض فرص بقاء دولة فلسطينية مقبلة وقال التقرير الذى أعده ممثلا الاتحاد الأوروبى فى القدس ورام الله أن النافذة المفتوحة للتوصل إلى حل الدولتين تغلق حاليا بسبب استمرار توسيع المستوطنات الإسرائيلية والقيود المفروضة على حركة الفلسطينيين فى المنطقة.
(ج) التى تخضع إداريا وأمنيا لإسرائيل.
وهكذا تتالى البيانات والاحتجاجات الأوروبية على السلوك الإسرائيلى الذى يقوض أى جهود حقيقية للسلام، ومما له دلالة كبيرة على كيفية تلقى إسرائيل لهذه البيانات والقرارات الأوروبية تعليق المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية بأنها «بيانات وقرارات أخرى سوف توضع على الرف».
●●●
وهكذا لا يسع أى مراقب موضوعى إلا أن يستخلص أنه إذا كانت أوروبا تريد حقا أن يكون لبياناتها واحتجاجاتها على إسرائيل أى فعالية، فإنها لابد أن تقرن هذا بمواقف من علاقاتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية لإسرائيل، وبشكل يقنع الساسة الإسرائيليين أن مصالحهم فعلا مع أوروبا سوف تتضرر، وأن استمرار سلوكهم فى عدم الاستجابة للمتطلبات الأساسية لعملية السلام، وفى مقدمتها وقف المستوطنات سوف ينعكس على مصالحهم الحيوية. فى هذا السياق، لابد أن نتذكر ما ذكره القس دزموند توتو خلال زيارة له لإسرائيل والأرض الفلسطينية أنه «لولا المقاطعة الاقتصادية لنظام الابارتيد فى جنوب أفريقيا لظل هذا النظام قائما حتى اليوم».