أتاحت أزمة كورونا فرصة ذهبية أمام الدكتور طارق شوقى، وزير التعليم، لإظهار أهمية المبادئ التى قامت عليها استراتيجية الإصلاح التى أعلنت عنها الوزارة عام 2018، والتى تقوم على إصلاح المناهج وطرق التدريس والتقييم، مع دور محورى لتكنولوجيا المعلومات فى عقد الاختبارات وإتاحة مساحة أمام الطلبة لاختيار المادة التعليمية التى يفضلونها. وقدم بنك المعرفة المصرى الذى دشنته الوزارة عام 2016 مخزنا عامرا بالمواد التعليمية لطلاب المدارس فى جميع المراحل.
وقاد وزير التعليم بنفسه الحملة الإعلامية للتعريف بالتعليم عن بعد، وسجل فيديو مع عدد من المدرسين وطلبة المدارس لشرح منظومة Edmodo التى تتيح مساحة للتفاعل المباشر بين الطلبة وأولياء الأمور والمدرسين، وطرحت الوزارة قنوات تعليمية من المفترض أن تفضى إلى انتفاء الحاجة إلى الدروس الخصوصية.
ولكن ماذا حدث؟
يظهر للمتابع، كما يعلم أولياء الأمور والطلاب، أن الدروس الخصوصية، خاصة فيما يعرف بالـ«سناتر»، أو مراكز الدروس الخصوصية، قد تحولت هى الأخرى، وبمرونة ملفتة، إلى التعليم عن بعد. هذه الحقيقة ظاهرة بوضوح خاصة لدى طلبة الطبقات الوسطى والعليا فى المناطق الحضرية، لا سيما مع المدرسين المشهورين، أو من أطلقت عليهم دراسات التعليم المقارن Comparative Education تعبير «المدرسين النجوم» star teachers، وهم شريحة المدرسين المشهورين بتمكنهم من المنظومة وقدرتهم على التنبؤ بأسئلة امتحانات نهاية العام، ويقومون بالتدريس فى «سناتر» مكتظة بمئات الطلاب فى الحصة الواحدة. ويستخدم مثل هؤلاء المدرسون وغيرهم فى العديد من الدول آليات تسويقية، تكون فى أحيان كثيرة مثارا للسخرية، كأن يطلق بعضهم على نفسه «ديناصور الكيميا» أو«وحش الفيزيا».
ويجد المتابع عديدا من الإبداعات التى طورها المدرسون الخصوصيون لضمان استمرارية العملية التدريسية. على سبيل المثال، نجد موقعا إلكترونيا يقدم منصة للمدرسين المسجلين عليه لتقديم دروسهم الخصوصية عن بعد، بحيث يسجل الطالب لحضور الحصة عن طريق الحصول على «كود» خاص من الموقع لدفع مقابل الحصة عن طريق خدمة «فورى». بينما قام مدرسون آخرون بإنشاء صفحات على فايسبوك أو يوتيوب لإتاحة دروسهم المسجلة، ويتحصلون على المقابل المادى من خلال الإعلانات، خاصة إعلانات يوتيوب، ومن خلال بيع الملازم فى مكتبات يحددها المدرس.
والملفت كذلك أن كثيرا من الطلبة قد اقتفى أثر مدرسيه الخصوصيين إلى ساحات التعليم عن بعد، تاركين بذلك القنوات التى أنشأتها وزارة التعليم وراء ظهورهم. ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية، إلا أنه من الممكن القول أن عدد الطلبة وأولياء الأمور الذين اتخذوا هذا المنحى ليس بالقليل.
ماذا نتعلم من استمرارية الدروس الخصوصية؟
لا تعد هذه النتيجة بالضرورة من علامات فشل الإصلاح، رغم خيبة الأمل التى يمكن أن تصيب القائمين على إصلاح التعليم. وهذا لعدة أسباب:
أولا، صارت الدروس الخصوصية فى مصر تحتل مكانا رئيسيا بين المؤسسات التعليمية، وهى لدى البعض البديل الوحيد للحصول على الخدمة التعليمية، وهذا بعد عقود من انسحاب الدولة من القيام بدورها ليس فقط كممول للتعليم، وإنما أيضا كمراقب وضابط للمنظومة، ومن الطبيعى أن مؤسسة الدروس الخصوصية التى تحقق أرباحا مليونية سنويا قد تمكنت من تطوير أدوات للحفاظ على استمراريتها فى أوقات الأزمات، وهو ما يطلق عليه فى أدبيات الإدارة العامة Administrative Resilience.
ثانيا، إن إصلاح التعليم عملية مستمرة لا ينجزها قانون واحد. فمثلا، القانون الذى صدر فى الولايات المتحدة عام 2001 وعرف بقانون «عدم ترك طفل خلف الركب» No Child Left Behind Act لم يحقق نتائجه المرجوة، ولكنه أسس لمبدأ مساءلة المدرسين والمدارس عن أداء الطلبة من خلال الاعتماد على اختبارات مركزية، وهى الفكرة التى استمرت فى قوانين لاحقة.
ثالثا، إن اعتماد الطلبة على الدروس الخصوصية لا ينبع فقط من التعليم القائم على التلقين، ولا حتى من المنافسة للحصول على درجات تؤهل للالتحاق بالتعليم الجامعى. بل يعد هذا الاعتماد تعبيرا عن حقيقة لا يمكن إنكارها، وهى أن الطلبة فى حاجة إلى مدرسة، وأن «سناتر» الدروس الخصوصية تقدم محاكاة، وإن كانت ظاهرية ومشوهة، للوظائف التى من المفترض أن تقوم بها المدرسة، ومنها متابعة أداء الطلاب والتوجيه وتقديم الدعم النفسى وإتاحة مساحة لتكوين صداقات. كذلك تمنح الدروس الخصوصية قدرا من الثقة الذى تكتسبه من مؤسسيتها الظاهرية من خلال وجود قواعد للالتحاق بالدروس ومساعدين للمدرس ومتخصصين فى تكنولوجيا المعلومات والشئون المالية.. إلخ. وفى المقابل، غابت المدرسة عن القيام بدورها، كما تأثر مركز وزارة التعليم سلبا نتيجة التذبذب الذى شاب قراراتها خلال أزمة كورونا.
لذا فإن الدرس الرئيسى الذى يجب أن يعيه القائمون على العملية التعليمية من استمرار الدروس الخصوصية فى ظل جائحة كورونا هو أولوية إصلاح نظم الإدارة المدرسية وإحياء دور الأجهزة الرقابية على أداء المدارس فى المحليات، حيث أن استمرار إقبال الطلبة على الدروس الخصوصية رغم وجود بديل حكومى مجانى يعكس حاجة الطلبة إلى التوجيه والمتابعة، وهو ما لا يمكن تقديمه إلكترونيا بشكل مركزى. لذا يجب أن تستمر المدارس والإدارات التعليمية فى التواصل المباشر مع الطلبة وأولياء الأمور لتوجيههم إلى أساليب التعليم البديلة التى توفرها وزارة التعليم، وتقديم الدعم التربوى والنفسى بشكل مستمر، والاعتماد على قواعد بيانات الطلبة لتحقيق هذا الهدف.
إن استراتيجية إصلاح التعليم تهدف إلى تغيير حوافز الطلبة وأولياء الأمور فيما يخص العملية التعليمية، بحيث يصبح الحافز الرئيسى للتعليم هو اكتساب المهارات، وذلك عن طريق تغيير عملية التدريس والتقييم ونظام القبول بالجامعات. ويحتاج إحداث التغيير المطلوب مشاركة وتواصل مستمر مع الطلبة وأولياء الأمور. ورغم الدور النشط الذى تقوم به وزارة التعليم مركزيا، إلا أنه غير كاف لتوصيل أهداف ومناهج وقيم الإصلاح إلى جميع المستويات المحلية.