يعتمد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى تهديده بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران (المعروف باتفاق ٥+١) بتاريخ ١٢مايو القادم، إذا لم يُضَف اتفاق ملحق يصحح ما يعتبره خللا وثغرات فاضحة لمصلحة إيران فى الاتفاق المشار إليه ــ على ما يعرف باستراتيجية حافة الهاوية. استراتيجية تقوم على فرض التراجع على الطرف الآخر عن موقفه المتمسك بالاتفاقية كما هى، كخيار وحيد تلافيا لترجمة التهديد إلى سياسة تؤدى إلى صدام بأشكال مختلفة.
جملة من المواقف والمعطيات تدل على إننا فى ١٢ مايو القادم سنكون أمام مواجهة استراتيجية حادة ذات تداعيات متعددة ومفتوحة على التصعيد على الأرض وتحديدا فى المسرح السورى، «المسرح المركزى» المشتعل والقابل لمزيد من الاشتعال.
***
أولا: التغيير الذى قام به الرئيس الأمريكى فى إدارته من خلال استبدال كل من ريكس تيلرسون، وزير الخارجية، بمارك بومبيو وهربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومى، بجون بولتون. المسئولان المطرودان من الإدارة كانا ينصحان باحترام الاتفاق، فيما المعينان جديدا هما من أصحاب مدرسة التشدد والمواجهة المفتوحة مع العدو أيا كان هذا العدو، وبالأخص إيران دون أن يحددا بالطبع طبيعة هذه المواجهة.
والمثير للاهتمام فى هذا المجال أن الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأمريكية نصح باستمرار الاتفاق باعتبار أن التخلى عنه سوف يفتح الباب أمام المجهول، إذ كما يقول: «يتعين عند ذلك أن نجد طريقة أخرى للتعامل مع برنامج إيران للأسلحة النووية».
ثانيا: إن محاولة الثلاثى الأوروبى المكون من كل من فرنسا وألمانيا الاتحادية وبريطانيا اللجوء إلى استراتيجية مقايضة تقوم على الطلب من الرئيس الأمريكى عدم الانسحاب من الاتفاق مقابل فرض عقوبات على إيران فى مجال آخر، وهو المجال المتعلق بتطوير إيران لصواريخ باليستية. إن استراتيجية المقايضة هذه لم تستطع أن تتحول إلى سياسة أوروبية إذ إنها لقيت معارضة شديدة من عدد من الدول الأوروبية، منها إيطاليا وإسبانيا والنمسا، التى لا تريد المس بالاتفاق أو اللجوء إلى سياسة تصعيد الموقف مع إيران عبر أحداث ربط، كما تقول هذه الدول، بين الملفات المختلفة التى تشكل مادة الخلاف مع إيران.
ومن المفيد التذكير فى هذا المجال أنه حتى لو نجح هذا المقترح المقدم من الترويكا فإن الإدارة الأمريكية ما كانت لترضى به، إذ إنها ضد سياسة المقايضة وهى تريد إحداث تعديل فى الاتفاق النووى ذاته.
ثالثا: تعتبر إيران أن الاتفاق حتى يستمر، يجب أن تلتزم به جميع الأطراف الموقعة عليه، وبالتالى ستعتبر فى حال الخروج الأمريكى منه، أن الاتفاق صار ساقطا عمليا. وقد تلجأ إيران، ولو بشكل تدرجى وبطىء للخروج من الاتفاق والعودة إلى مسار الخيار النووى العسكرى، حسب نموذج كوريا الشمالية، مما يزيد من التوتر ومخاطر الصدام فى المنطقة.
رابعا: كان مثيرا للاهتمام الاعتراف الإسرائيلى أخيرا بما كان معروفا، وهو إن إسرائيل قامت فى شهر سبتمبر ٢٠٠٧ بتدمير مفاعل الكبر النووى السورى فى صحراء دير الزور، وتوقيت الكشف عن ذلك كان بمثابة رسالة تذكير وتحذير إلى إيران وإلى كل من يعنيه الأمر بالاستراتيجية النووية الإسرائيلية.
الاستراتيجية التى تعرف باستراتيجية «القنبلة فى القبو» The Bomb in the basement أو الردع عبر الغموض Deterrence by ambiguity، كألا تعلن إسرائيل عن استراتيجيتها النووية وعن الخطوط الحمر التى قد تدفعها للجوء إلى الخيار النووى فيما لو تم تخطى هذه الخطوط من قبل أعدائها. إنها استراتيجية أقرت بها إسرائيل عام ١٩٦٩ خلال لقاء بين رئيسة الوزراء حينذاك جولدا مائير والرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، قوامها ألا تعلن إسرائيل عن حجم قوتها قوامها ألا تعلن إسرائيل رسميا عن امتلاكها لترسانة نووية على الرغم من أن الجميع يدرك أن إسرائيل تمتلك ٢٠٠ رأس نووى على أقل تقدير. العقيدة النووية الإسرائيلية تقوم على مبدأ امتلاك إسرائيل وحدها للعنصر النووى فى المنطقة، وأن كل محاولة لامتلاك هذا العنصر النووى من قبل أطراف أخرى سترد عليها إسرائيل بشكل استباقى بغية تدميره فى المهد.
وللتذكير، فقد قامت إسرائيل أيضا بتدمير المفاعل النووى العراقى فى شهر يونيو١٩٨١ ضمن سياسة احتكار السلاح النووى فى الشرق الأوسط.
خامسا: إن الأزمة المتوقعة فى ١٢ مايو القادم تأتى عشية لقاء القمة المنتظرة بين الرئيس الأمريكى والزعيم الكورى الشمالى فى نهاية شهر مايو، ولو أنه لم يحدد بعد موعد لهذه القمة. الموقف الأمريكى أو الأزمة التى ستنفجر فى ١٢ مايو تحمل رسالة؛ البعض يراها رسالة سلبية إذ إنها ستشجع كوريا الشمالية على عدم التفاوض مع الولايات المتحدة ومع الآخرين المعنيين، باعتبار أن واشنطن قد تخرج لاحقا عن أى اتفاق يتم التوصل إليه. هذا ما يراه مؤيدو استمرار واشنطن ضمن الاتفاق الراهن مع إيران.
رسالة مناقضة يراها من يدعو الولايات المتحدة ويؤيد موقف ترامب للانسحاب من الاتفاق. وهى بمثابة رسالة مسبقة إلى كوريا الشمالية، قوامها حذار اللعب فى أى موضوع يتعلق باتفاق مستقبلى إذ أن واشنطن لن ترضى بذلك، وقادرة إما أن ترفض قيام هذا الاتفاق أو أن تسقطه لاحقا.
***
فى شرق أوسط يحوى العديد من النقاط المشتعلة والمترابطة وتلك القابلة للاشتعال، وخاصة فى المسرح الاستراتيجى السورى، فإننا سنكون دون شك، أمام احتمال قيام إسرائيل فى مرحلة قادمة فى ظل التوتر الذى سيزداد بعد ١٢ مايو بعملية عسكرية ضد موقع نووى على الأراضى الإيرانية أسوة بما قامت به فى سوريا والعراق، وقد تطلق أزمة ١٢ مايو فى تداعياتها أيضا سباق تسلح نووى فى المنطقة. ذلك كله سيزيد دون شك من حرارة التصعيد عبر الحروب بالوكالة بين إيران من جهة وبين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى على المسرح السورى، وربما بين إسرائيل وإيران بشكل مباشر على المسرح ذاته، مما يبعد أى احتمالات ممكنة، وهى احتمالات بعيدة، لتسوية الوضع السورى أو البدء بمسار التسوية فى سوريا. كما تحمل هذه التداعيات الناتجة عن الحوار الردعى بعد دخول العنصر النووى على الخط، انعكاسات حول احتمال خروج الصراع من المسرح السورى إلى لبنان غربا وربما إلى العراق شرقا.
نهاية، لا بد من التذكير أن مصر كانت قد بادرت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى إلى طرح مبادرة لإقامة شرق أوسط خال من جميع أسلحة الدمار الشامل، والتحقت بها بعد ذلك الدول العربية ودول أخرى، لكن هذه المبادرة لم تجد طريقها إلى التحقيق فى الإطار الدولى المعنى، مادامت إسرائيل تتمتع بحصانة استراتيجية أمريكية مطلقة، خاصة فيما تعتبره أمرا مركزيا فى خدمة أمنها القومى.