حين قال نيل أرمسترونغ جملته الشهيرة أن وصوله إلى القمر هو خطوة صغيرة للإنسان وقفزة هائلة للإنسانية، كان على الأرجح يحاول أن يقلل من معنى أن تكون قدمه هو بنفسه قد وطأت القمر بالمقارنة مع هول حدث أن يصل أي بني آدم إلى ما بعد السحاب. لذا فقد وضع أرمسترونغ نفسه كفرد خلف الإنسان بمعناه الأشمل، أي كل الناس.
•••
في أزمة الكورونا الكونية الحالية، تعود إلى عقلي جملة نيل أرمسترونغ حين أفكر بمتلازمة الإنسان والإنسانية. فبرغم تفاوت الحكومات في سرعة وصرامة إجراءاتها، كما في تفاوت التزام الشعوب والأفراد بالإجراءات، لا شك أن ما يسري على الفرد اليوم يسري أيضا على الإنسانية جمعاء، بمعنى أنني لست وحدي، ولا أنت وحدك، حتى وإن اختلفت قدرتنا على مواجهة المرض واختلفت أدوات تعاملنا معه، سواء المادية أو النفسية أو العاطفية.
•••
تكثر الأسئلة الكبيرة ويفرض الوقت عليّ لحظات تأمل أفكر فيها في أشخاص أعرفهم أو لا أعرفهم. ما حال من هو في المستشفى لأسباب لا تتعلق بالكورونا؟ ما حال من فقد قريبا وعزيزا خلال فترة الحجر؟ ما حال طالب لجوء أمضى السنوات الأخيرة يعيش في الظل حتى يتأكد من قبول البلد الجديد لطلبه؟ ما حال من يدرس في جامعة بعيدة ولا مكان له يعود إليه حين أقفلت الجامعة أبوابها؟ ما حال من أُحب ولا أعرف تاريخ لقائي القادم بهم؟ وماذا سيكون شكل العالم بعد الصدمة الحالية والتي تتطلب إجراءات جلها يعد ترفا كالبقاء في المنازل وخلق مسافة في المجال الحيوي الفردي وتأمين غذاء صحي وغسل اليدين والتعقيم؟
•••
تستوقفني التعليمات الصحية العالمية وسرعة تداولها وكأن تطبيقها أمر طبيعي في أنظمة لا تحمي قطاعات عريضة من الشعوب، فمن يعيش على قوت يومي يجنيه إن خرج من بيته، ومن يعيش مع أفراد عائلة كبيرة في منزل واحد ومن يؤمن احتياجاته كل يوم بحسب ما جناه من قوت، ومن لم تؤمن له الدولة بنية تحتية توفر له الوصول إلى الماء، كيف له أن يطبق إرشادات يتم تناقلها على أنها بديهية؟
•••
في الوقت ذاته يطل علينا بعض من يعيش في أبراج عاجية مغلفة بالذهب ليصرح دون أي شعور بالحرج أن "رأس مال" التواجد في العمل هو واحد بالمئة من الناس الذي لا بأس من التضحية به في سبيل الحفاظ على عجلة الإنتاج، وهى طبعا عجلة يمسك هو، أي ساكن البرج، بجزء كبير منها لا يقوى عقله على الإفلات بها ولا يوجع قلبه أن تدوس العجلة على واحد بالمئة من الناس. فائض هم الناس أصلا عليه وعلى برجه.
•••
في الأزمة الكونية الحالية، قد نلفظ أخيرا من لا يشعر أن ما يطال أي إنسان يطاله، قد نتبرأ ممن لا يرى نفسه كجزء من الإنسان بمعناه الأكبر. تعود إليّ كلمات الشاعر الفارسي العظيم سعدي حين شبه الإنسان بالجسد وقال أن أي ألم يصيب طرفا من أطراف الجسد إنما يؤثر على الجسم كله. تأخذ قصيدة سعدي في قلبي اليوم معنى أكبر، تتحرك يداي وينفتح صدري في محاولة شهيق أعمق، أسحب من أحب معي إلى داخلي فأحميهم هنا من العالم. أغلق عليهم الباب بهدوء وأعود فألفظ مع الزفير رغبة في خنق من ينظر إلينا من البرج العاجي.
•••
يقال إن أفضل علاج للأشرار هو أنفسهم، لذا فلا داعي لتلويث أنفسنا بكرههم أو بمحاولة إيذائهم، فهم نفسهم أذى لأنفسهم. أحاول أن أكرر تلك المقولة في وجه حفنة ممن ينصبون أنفسهم فوق غيرهم ويقررون ما يرونه الأفضل للمصالح الاقتصادية دون أن يكترثوا بالمصلحة الإنسانية وبفرصة إعادة برمجة أجزاء من حياتنا الحديثة وغير المنصفة علنا نأخذ بيد من هم أقل حظ منا وننهض معا كجسد سليم معافى كما وصفه الشاعر الفارسي.
•••
لن يكون العالم بعد كارثة الكورونا كما كان قبلها. لا يمكن أن نسمح بأن يعود كما كان. ربما تنجح الجائحة بما فشلت فيه الاحتجاجات الشعبية ومطالبة الناس بالعدالة الاجتماعية وما يترتب عليها من تغييرات في السياسة وفي الاقتصاد. ربما تنجح الجائحة بخلق كتلة حرجة تفرض التغيير أخيرا وتعتمد على تضامن حقيقي ينتج عنه حلول يصبح فعلا من خلالها كل فرد مسئولا جزئيا عن العالم من حوله، سواء عن الحفاظ على البيئة أو على الصحة العامة أو على نظام اقتصادي يضمن لكل فرد مستوى أدنى من الكرامة.
•••
فبين خطوة نيل أرمسترونغ وجسد سعدي، ها نحن أمام فرصة هائلة لإعادة التفكير بالإنسان الذي نحن جميعا جزء منه، كل واحد وواحدة منا يشكل ذرة مضافة إلى الباقي لتشكل هذا الجسد الكبير الذي نريده معافى. أما من يجلس في البرج العاجي فسوف يقع البرج بمن فيه وقد يجد ساكن البرج نفسه بين الأنقاض يحاول أن ينفض الغبار عن نفسه وينادي على فلان وفلانة ليساعده، فترد عليه فلانة أنه للأسف سوف يبقى وحده. فهو بذلك سوف يكون أسوأ عقاب لنفسه، بينما ننشغل نحن بإعادة ترميم أنفسنا بعد أن تعلمنا درسا في الإنسانية.