تنتظر شعوب العالمين العربى والإسلامى من الرئيس أوباما فى خطابه الذى سيلقيه غدا فى القاهرة ما هو أوضح من مجرد حديث منمق حول المصالح المشتركة والاحترام المتبادل كأساس يجمع هذين العالمين والولايات المتحدة.
وتتوقع هذه الشعوب إشارات دالة وأفعالا تؤشر إلى طى صفحة الحروب غير الشرعية والاحتلال والاعتقال التعسفى والتعذيب وهى الانتهاكات الجسيمة التى عانت منها بشكل مباشر هذه الشعوب طوال سبع سنوات ونصف السنة خاض فيها الرئيس السابق بوش حروبا عقائدية افتقدت إلى الشرعية الدولية بعد إرهاب 11 سبتمبر الذى ضرب الولايات المتحدة فى 2001.
الجدل دائر بالولايات المتحدة حول سياسات التعذيب التى مارستها الإدارة السابقة ضد المعتقلين الأجانب فى إطار «الحرب ضد الإرهاب»، وهى السياسات التى أطلقت عليها «أساليب التحقيق المتقدمة». هذا الجدل وإن كان دائرا داخل الولايات المتحدة فهو يهم بالدرجة الأولى العالم الإسلامى وبصفة خاصة الدول المتضررة من هذه الحروب وهى العراق وأفغانستان وباكستان.
فالعراق الذى فقد حوالى مليون فرد «حسب تقديرات غير رسمية» خلال الغزو الأمريكى وما تلاه من سنوات الاحتلال والوجود العسكرى، لديه 15.000 من أبنائه المعتقلين محتجزون فى السجون الأمريكية هناك خارج نطاق الحماية التى يكفلها القانون الدولى لحقوق الإنسان (كما جاء فى تقرير عام 2009 الصادر عن منظمة العفو الدولية). يشير التقرير نفسه إلى وجود حوالى 600 معتقل أفغانى محتجزين فى قاعدة باجرام الجوية التى تديرها الولايات المتحدة فى أفغانستان وتحت ظروف مماثلة دون ضمانات قانونية واضحة. وفى باكستان لا تزال الطائرات بدون طيار Drones العاملة فى المناطق الحدودية المتاخمة لأفغانستان تحصد المدنيين بأعداد أكبر بكثير من عدد قادة تنظيم القاعدة المختبئين هناك.
***
وعود أوباما
مُنى وعد أوباما الانتخابى بإغلاق معسكر جوانتانامو سيئ السمعة بضربة سياسية بعد أن صوت مجلس الشيوخ بـ6 ــ 90 صوتا لحجب التمويل الذى طالب به الرئيس واللازم لإغلاق المعتقل، وذلك حتى يتقدم بخطة توضح كيفية التعامل مع هؤلاء المعتقلين. وفى خطاب لاحق صنف الرئيس أوباما المائتين والأربعين شخصا الموجودين بجوانتانامو إلى خمس فئات. إحدى تلك المجموعات تخص من وصفهم الرئيس بالمعتقلين الذين لا يمكن محاكمتهم (لأن الأدلة المقدمة ضدهم جاءت عن طريق التعذيب) ولكنهم فى نظره «يمثلون خطرا حقيقيا على الشعب الأمريكى».
الحل كما يرى أوباما يكون بإبقائهم فى «احتجاز مطول». وقد ثارت ثائرة المعترضين على ذلك «الاحتجاز المنعى» لأنه كما يقول البعض يتناقض مع مبدأ قانونى أساسى هو أنه «لا يجب أن يحتجز أحدا إذا كان لم يرتكب أى جرم».
الفئة الأخرى التى أثارت حفيظة جماعات حقوق الإنسان، هى التى قال أوباما إنها انتهكت قوانين الحرب وسوف تُقدم للمحاكمة أمام اللجان العسكرية. هنا أيضا تراجع أوباما عن موقفه السابق المعارض لعمل هذه اللجان العسكرية، حينما كان عضوا بمجلس الشيوخ. ويقول المراقبون إن اللجوء إلى اللجان العسكرية ــ المعدلة حيث لن تقبل بأدلة تشوبها شبهة التعذيب ــ يتناقض مع حكم المحكمة الدستورية العليا بالولايات المتحدة التى قالت إن المحاكمات العسكرية للمدنيين هى أمر غير دستورى فى حال وجود قضاء مدنى.
تقول جماعات الضغط الليبرالية إن خطة أوباما الخاصة بتصنيف المعتقلين ما هى إلا عملية «نقل معتقل جوانتانامو إلى مكان جديد مع إعطائه مسمى جديدا»، أى لا تغييرا حقيقيا فى سياسة بوش فى هذا الشأن.
******
تشينى ضد أوباما
لا يرى نائب الرئيس السابق ديك تشينى، أحد كبار مهندسى «إجراءات الاستجواب المتقدمة»، أنها تمثل تعذيبا، ويؤكد أن هذه الإجراءات هى التى وفرت للشعب الأمريكى الحماية من إرهاب تنظيم القاعدة طوال سبع سنوات ونصف السنة.
وقد فتح تشينى النار على سياسات أوباما واصفا إياها بأنها تزيد من مخاطر الإرهاب، وملأ الفضاء الإعلامى ضجة وتخويفا للأمريكيين بما يوحى بأن الإرهاب قادم بسبب سياسات أوباما. وكان أوباما قد أزكى الجدل حول شرعية «أساليب الاستجواب المتقدمة» بإفراجه عن المذكرات السرية لوزارة العدل التى وضعت الإطار القانونى لهذه الإجراءات.
هذه المذكرة التى كتبها المحامى جون يو قننت استخدام أساليب الإيهام بالغرق والصفع والحرمان من النوم وصولا إلى إمكانية حشر السجين المستجوب مع حشرات داخل صندوق صغير للضغط النفسى عليه ليقر بالمعلومات المطلوبة.
وكان أوباما صرح بأن أسلوب الإيهام بالغرق ما هو إلا «تعذيب» وأصدر أوامره عقب توليه الرئاسة مباشرة بمنع التحقيق مع المعتقلين استنادا إلى آراء وزارة العدل الصادرة ما بين فترة 11 سبتمبر 2001 ويناير 2009. وقد سخر تشينى من سياسات إدارة أوباما بقوله «إن الإدارة الحالية تبدو فخورة وهى تبحث عن إطار وسطى لمواجهة الإرهاب.. ولكن فى الحرب على الإرهاب لا يوجد خط وسط، واتخاذ نصف إجراءات يجعلك عرضة للخطر بنسبة 50٪». وقد انتقد أوباما بدوره سياسات إدارة بوش قائلا: «حكومتنا [السابقة] اتخذت قرارات مبينة على الخوف لا البصيرة، وفى أحيان كثيرة قامت حكومتنا [السابقة] بقضم الحقائق والأدلة لتتواءم مع منهجها العقائدى».
وفى إطار هذا السجال الدائر بين مقتضيات الأمن القومى وضرورة استعادة أمريكا لهيبتها وسلطتها المعنوية المنخفضة من جراء عهد بوش، فقد ظهر أوباما متعثرا وهو يحاول أن يوازن بين مطالبات اليمين والجمهوريين وكذلك المؤسسة العسكرية من ناحية واليسار من ناحية. تراجع عن نيته الكشف عن أربع وأربعين صورة يقال إنها تسجل المزيد من الانتهاكات الجسيمة التى وقعت فى سجن أبوغريب بالعراق منذ عام 2003. وقد نشرت بعض الصحف أن عددا من الصور يصور حالات اغتصاب لمعتقلين عراقيين وواحدة منها تظهر رأس سجين عراقى مسلم حلق شعر رأسه بشكل يظهر صليب عليها.
ويرى المراقبون أن أوباما، الذى يستخدم الآن نفس حجة بوش فى أن نشر هذه الصور قد يعرِّض حياة الجنود الأمريكيين فى العراق وفى أفغانستان للخطر، تعرض لضغوط واضحة من كبار قادة المؤسسة العسكرية العاملين فى العراق وأفغانستان لحجب هذه الصور.
ويقول المراقبون إن آلاف الصور الموجودة والتى تسجل انتهاكات جسيمة حدثت داخل كل السجون الأمريكية بالعراق وأفغانستان وجوانتانامو تدلل على أن التعذيب لم يكن مسئولية «قلة منحرفة» كما كانت تدعى إدارة بوش ولكن كان نتاج سياسة عامة ومذكرات قانونية سيئة السمعة.
أعتقد أن هذا معروف الآن. فلا يكاد يمر أسبوع دون خروج تقرير رسمى أو رأى مسئول سابق يدلل على مدى الانحراف والسقوط الأخلاقى الذى حدث فى عهد بوش. مثال على ذلك التقرير الذى نشرته فى ديسمبر الماضى «لجنة الأجهزة العسكرية» فى مجلس الشيوخ بشأن الانتهاكات ضد المعتقلين لدى الولايات المتحدة فى «إطار الحرب على الإرهاب». وقد خلصت اللجنة إلى أن عددا من كبار مسئولى الحكومة الأمريكية «أعادوا تفسير القانون من أجل إضفاء الطابع القانونى (على أساليب التحقيق المستخدمة)» كما استندوا حسبما ذكر التقرير إلى «تفسيرات معيبة للغاية للقانون الأمريكى والقانون الدولى».
يركزالجدل الدائر حول التعذيب على تأثيرات هذه الممارسات على مكانة الولايات المتحدة والسقوط الأخلاقى الذى وقعت فيه. بمعنى آخر، الجدل يركز على الجانى لا الضحية فى هذه القضية. ويلاحظ الفيلسوف والكاتب الأمريكى نعوم تشومسكى أن هذا الجدل يعبر عن حالة «غيبوبة الذاكرة التاريخية» لدى الشعب الأمريكى وهى الحالة التى ينتج عنها انفصام بين منظومة القيم السامية التى تمثلها الولايات المتحدة وما تقوم به من أفعال مناهضة لتلك القيم. فالتعذيب هو واحد من سلسلة جرائم بشعة ارتكبتها الولايات المتحدة خلال غزو واحتلال العراق وأفغانستان والآن يجرى قتل المدنيين فى باكستان بحجة مقاومة الإرهاب.
ويتساءل كثيرون هل أوباما هو بوش فى ثوب جديد؟.. وهل وهو يدفع بـ68.000 جندى أمريكى خلال هذا العام لإخضاع أفغانستان سيتذكر تحذير سكرتير عام منظمة العفو الدولية إيرين خان، التى قالت فى مناسبة صدور تقرير 2009 عن حالة حقوق الإنسان فى العالم «إن وتيرة العمليات العسكرية تتصاعد فى أفغانستان وباكستان ولكن التداعيات الناجمة من جراء هذا التصعيد على صعيد حقوق الإنسان والحالة الإنسانية هناك يجرى التقليل من أهميتها».