أنا خريج قسم من أفضل ٢٠٠ قسم فى الهندسة المعمارية فى العالم. كان هذا ما سطره المعمارى الشاب ولسبب ما دخلت فى نقاش معه. كان أول ما قلته أن الترتيب كأحسن ١٥٠ ــ ٢٠٠ قسم تعليمى فى العالم ليس إنجازا أصلا. لم أقصد طبعا أن أنتقص من فرحته وفخره وهى فيما أعرف منتشرة بين العديد من خريجى وخريجات هذه الأقسام وأيضا بين الأساتذة ومعاونيهم القائمين على التدريس وأيضا المسئولين عن الإدارة فى تلك الأقسام والكليات والجامعات. عاد فسألنى ما هو الإنجاز إذا (لم أهتم كثيرا لماهية السؤال استفهامى أم استنكارى) وكان ردى أن الترتيب داخل المائة على الأقل هو ما يمكن أن أراه إنجازا ولكن الأهم بالنسبة لى من الترتيب هو أن نرى أثر هذا التعليم فى الشارع.
كثيرا ما سألت طلبتى عما يَرَوْن فى بحار القبح الذى نعيش فيه، ليس فى القاهرة وحدها للأسف ولكن فى العديد من المدن فى مصر شمالا وجنوبا (لم أزر كلا مدن مصر وبالتالى لا أستطيع التعميم). وأصبحت بعض المقررات التى أقوم بتدريسها تكاد أن تكون محاولة لاكتشاف مواطن أو مخابئ الأماكن ذات القيمة وبعض الجمال ولا شك أن بعضها لا يزال يثير الدهشة وأحيانا الانبهار لهذه القدرة العجيبة التى تستطيع بها تلك الأماكن أن تنجو بنفسها فى وسط تلك البحار العمرانية الغريبة التى نعيش فيها. فى تلك المحاولات للبحث عن مواطن الدهشة والجمال صادفت بعضا من البشر لا يقلوا جمالا عن تلك الأماكن المدهشة إن لم يزد. انبهرت لفترة من الزمن ببائع الفول على عربته المجاورة لواحد من الآثار الفريدة فى القاهرة والذى يقع أيضا مقابل مستشفى عام يعالج غالبية الفقراء والعامة. وفى الأسابيع الكثيرة التى مررت فيها بهذا المكان أو شاركت طلبتى بعض من شطائر الفول (لم أفعل إلا بعد ما رأيت من نظافته البادية ليس فقط فى نفسه ولباسه ولكن أيضا فى أدواته). فى أسابيع وأشهر عديدة بل وسنوات حتى لم أره فى يوم غير باسم الوجه على الرغم من أن زبائنه عادة من الفقراء وكبار السن المتطلبين أحيانا. واندهشت من قدرته العجيبة على المحافظة على هذه البهجة البادية عليه والنظافة على الرغم من أنه ولا شك لا يكسب من ذلك العمل إلا ما يساعده على العيش بالكاد.
***
هل يستطيع التعليم المتطور فى الجامعة أيا كان القسم أن يساعد وأن يغير من تلك الأوضاع التى تشهد تجاورا مأساويا لآثار قيمة أنفق عليها الملايين بينما يقبع السكان المجاورون لها فى مكان لا يحقق بالتأكيد شروط الحياة المقبولة لهم؟ ومن خلال أطر واقعية يمكن أن تعمل فى واقعنا.. أى من خلال خطط غير مستوردة لا تنتهى بلوم الناس لأنهم ناقصى الوعى وغير مقدرين للتاريخ والحضارة التى يتهمهم البعض أنهم لا يستحقونها.
لا أقصد بتاتا التقليل من أى إنجاز ولكنى أفهم أن التعليم له هدف فى تطوير إدراك وفهم الإنسان بغرض تحسين الواقع الذى نعيش فيه وبدون ذلك يصبح التعليم ترفا. ويفترض هذا الفهم أن يكون هناك تأثيرا محسوسا على الأماكن الحقيقية والطريقة التى نعيش بها وفيها. وقد يجادل البعض أن هناك معوقات وعراقيل سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكن أليس فى استطاعتنا وضع الخطط والمسارات التى تستطيع التعامل الجاد والخلاق مع تلك المعوقات بدلا من الاكتفاء بالإشارة لغيرنا.
***
الإنجاز لا يأتى إلا مع إسهامات ذات قيمة سواء منها الأبحاث النظرية أو تلك المبنية على تجارب محكمة. ويتساءل المرء كيف يمكن أن يكون للجامعة إنجاز وهى تخصص نحو ستة ملايين جنيه لتمويل أربعة وعشرين مشروعا بحثيا فى مختلف المجالات وسأترك لمن يرغب حساب متوسط تمويل المشروع الواحد الذى من المفترض أن يستمر من سنة إلى سنتين ثم يتخيل نوعية وجودة المنتج البحثى. لا أنكر بالطبع محدودية الموارد المتوافرة للجامعة ولكنى أتذكر عندما كان عميد كلية العمارة من جامعة أوريجون فى ضيافة الجامعة لترأس ورشة عمل نظمناها للفائزين الثلاثة بمسابقة ابتكارات عمرانية وكيف أنه أخبرنى أن له مستشارا ماليا يساعده فى جمع الأموال لتمويل أنشطة الكلية وخاصة من الخريجين السابقين (وأتذكر هذا فى حسرة لأن أحد أغنى أغنياء مصر هو خريج من كليتى ويساهم فى تمويل أنشطة جامعة أجنبية فى مصر ولا أدرى لماذا لم يدعوه مسئولينا وغيره للمساهمة الفعالة فى تمويل جزئى لأنشطة البحث والتعليم). وفى نفس الوقت تقوم الجامعة بكل نشاط بإنشاء فرعا دوليا لها (وكأن الجامعة التى أسست منذ أكثر من مائة وعشرة أعوام ونال بعض خريجيها جائزة نوبل هى من المفترض ألا تكون دولية) وتخيل طبعا مئات الملايين وربما أكثر التى يحتاجها هذا المنشأ الجديد أضف إلى ذلك المجهودات الحثيثة لإنشاء العديد من البرامج الدراسية وكليات متخصصة فى علوم مثل النانو وكأن إنشاء المبنى والبرامج البراقة هو الكفيل بتحقيق هذه «الدولية» المبتغاة. كيف يمكن تحقيق إنجازات سواء فى العلوم والجوانب العملية أو فى الجوانب الأدبية والاجتماعية والإنسانية (وهى لا تقل أهمية للمجتمع) بدون رؤية محددة تبنى من أسفل لأعلى ويتبعها خطط تتحرى الإمكانات وتعالج التحديات. كيف يمكن أن يتحقق إنجاز وزملائنا الصغار يسافرون أو بالأصح يهربون إلى دول الشمال سعيا وراء حياة وعمل أكثر تلبية لتطلعاتهم وعلى الرغم من أنى لا أوافق وكثيرا ما دخلت مع بعضهم فى نقاش عن الحياة فى الخارج وكيف أن التحديات والجبهات الملهمة تتواجد هنا وهى ما يشكل موضوعا للأبحاث والعمل الجاد الذى قد لا يوجد نظير له فى أماكن كثيرة ولكنى أيضا أتفهم طموحاتهم وإحباطاتهم ولا استطيع أن ألومهم كثيرا.
سؤال الإنجاز مهم للغاية خاصة فى الإطار الأكاديمى ولكن هل هذا ممكن فى غياب نقد جاد للذات يمكننا من رؤية ما نقوم به بلا رتوش وهل هو أيضا ممكن فى ظل غياب أطراف عديدة فى المجتمع لها مصلحة حاسمة فى المشاركة فيه لأن البحث والتعليم يستهدف مستقبلنا جميعا؟