رؤية للريف المتجدد.. التغير المناخى كإطار - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رؤية للريف المتجدد.. التغير المناخى كإطار

نشر فى : الإثنين 2 أغسطس 2021 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 2 أغسطس 2021 - 7:45 م
بالرغم من أن المناطق التاريخية هى التركيز الأساسى للبرنامج الدراسى الذى أعمل به إلا أن اهتماما بما يهم ويؤثر على العمران المصرى فى مستقبله هو ما كان أحد أسباب تساؤلنا عن المدى الذى قد تؤثر به دراسة التغير المناخى عليه. وبدأنا منذ ست سنوات فى البحث عن المنطقة التى يمكننا فيها تلمس ذلك التأثير بصورة أوضح وتوجهنا بناء على خلاصة بعض الدراسات لساحل الدلتا الشمالى الذى تعده بعضها كواحدة من أكثر المناطق عرضة لتلك التأثيرات ليس فى مصر وحدها ولكن على مستوى العالم أيضا. وقدرنا أن التقاء فرع رشيد بالمتوسط قد يكون مكانا ملائما نظرا لكونه مصبا للنهر وأيضا لامتداده التاريخى الكبير.
كانت ومازالت لدينا من الأسئلة ما تحتاج ليس فقط لمن يرد عليها ولكن لمن هو قادر على فك التعقيدات وتوضيح العلم القابع وراءها وكنا محظوظين باكتشاف مركز دراسات التغير المناخى بمركز بحوث المياه التابع لوزارة الرى وكان لمديره فى ذاك الوقت فضل كبير فى تعريفنا بماهية التغير المناخى ونتائجه المحتملة على القطاعات المختلفة فى مصر وخاصة فى شمال الدلتا. وكان المركز بتجهيزاته المتقدمة أحد الأماكن المبهرة لى كما كانت مساعدة الباحثات والباحثين فيه لنا ــ للتعرف على السيناريوهات الممكنة لموقع برج رشيد ومحيطه ــ أثر كبير فى بداية فهم مرتبط بذلك المكان تحديدا. وكانت السيناريوهات المستقبلية المختلفة فيما يخص ارتفاع منسوب البحر وزيادة درجات الحرارة سواء فى سنة 2030 أو 2050 بمثابة مرشد علمى للتفكير والتساؤل عن النتائج المتوقعة لها على الجوانب المختلفة للحياة والأنشطة الاقتصادية التى يقوم بها سكان تلك المنطقة.
***
فى بداية دراستنا كنا مهتمين بأن تكون عملية التنمية العمرانية مراعية للمنطقة التاريخية وتضع السكان المحليين فى القلب. كما كنا مهتمين بمعرفة مقياس وحجم التدخلات المقترحة التى تكون قادرة على التعامل مع التحديات الكبيرة وخاصة تلك التى يجلبها التغير المناخى. وتساءلنا فى هذا الإطار عن مأزق التدخلات الكبرى وتبعاتها مقارنة بإمكان التدخلات صغيرة المقياس. وأخيرا ولأننا كنا مهتمين ليس فقط بما ينبغى أن يكون ولكن بما يمكن عمله على الأرض تساءلنا عن ماهية ونوعية العملية العمرانية التى يمكن إطلاقها فى سياق الأوضاع المحلية المتحدية وضعف قدرات المنظمات الأهلية والصعوبات المتعددة التى تواجه التدخلات الحكومية غالبا.
تعرفنا على تعقيد دراسة التغير المناخى واعتماده ليس فقط على علوم متعددة ولكن حاجته لبيانات كبيرة وأدوات متطورة للغاية للتعامل مع تلك البيانات مثل أجهزة الكمبيوتر «السوبر» لعمل نماذجه. لم تكن هذه المعرفة فقط نافذة على هذا التقدم الكبير فى الدراسات العلمية ولكنها أيضا فتحت لنا أبوابا لا نعرفها. وبدأت الطرق التى سلكناها عبر محاولات فهمنا للتغير المناخى وتأثيره على «برج رشيد» فى تغيير فهمنا للعمران وكيفية التعامل معه. كانت دراسة التغير المناخى هى ما قادتنا للتعرف على نظرية «التركيب أو التعقيد» والتى تتعامل مع الأرض والمنظومات الإيكولوجية والعمرانية المختلفة كمنظومات مركبة لا يمكن فصل جزء منها ودراسته بمعزل تام عن المكونات الأخرى وبدون إدراك للتأثيرات المتبادلة بين الأجزاء المختلفة. وتتبنى تلك النظرية مفهوما كليا للمناطق التى يتم دراستها. أى أن برج رشيد لا يمكن فهمه بمعزل عن إقليمه الطبيعى أى منطقة المصب ككل وأيضا بمعزل عن منظومة النهر التى تمتد حتى عمق أفريقيا كما أنها فى النهاية تتأثر بالمتغيرات التى تحدث فى بقاع قد تكون بعيدة تماما مثل القطب الشمالى. وكان هذا الفهم جوهريا ليس فقط لأنه فتح لنا أبواب عوالم أخرى وأظهر لنا التركيب المذهل وراء تلك البيئات الطبيعية التى نعيش من خيراتها ولكن لأنه أيضا أوضح لنا كم البيانات والمعلومات التى نحتاجها حتى نحسن فهمنا للوضع المحلى وارتباطاته بالسياقات الأخرى حتى يمكننا التفكير بجدية فى كيفية اقتراح استجابات يمكن أن يتبناها المجتمع المحلى ويستطيع بواسطة موارده وقدراته المحلية أساسا من أن يضعها موضع التنفيذ.
كان عنوان دراستنا الأولى فى برج رشيد «مواجهة تهديدات التغير المناخى» لأننا كنا مهتمين بدراسة الكيفية التى يمكن من خلالها توفير حياة مستدامة ومقبولة للسكان وأيضا لأننا قدرنا أن خيار نقل السكان من أماكنهم سواء فى برج رشيد أو فى الأماكن المشابهة له. رأينا هذا البديل فى الغالب ليس عمليا ليس فقط لقلة أو ندرة الأماكن التى يمكن الذهاب إليها ولكن لقوة الارتباط بين الناس وبين الأنشطة المختلفة التى يمارسونها لكسب قوت يومهم والتى تقوم فيه البيئة الطبيعية ومواردها بدور أساسى فى إيجاده واستمراره وهو ما يمكن أن يربك بسهولة أى خطط لنقل الناس. وسعينا بكل جهد لاستكشاف كيف يمكن إذا الاستجابة للآثار المتوقعة للتغير المناخى بالصورة فى إطار الموارد المحلية المحدودة.
***
وبالرغم من أن دراسة التغير المناخى ومواجهته عادة ما تركز على انبعاثات ثانى أكسيد الكربون وبعض الغازات القليلة إلا أننا تعرفنا على رواية أخرى للتغير المناخى ربما تكون أكثر أهمية لنا وتضع تلك الرواية المياه فى جوهرها وترينا كيف أن المياه ودوراتها المركبة واختلال توازن تلك الدورة الآن هى أحد العوامل الرئيسية للعملية التى تؤدى لحدوث التغير المناخى ووجدنا بالطبع أنه فى سياق التعامل مع البيئة والعمران فى مصر يبدو أن التركيز على المياه هو أكثر ملاءمة وأكثر قربا لعقولنا ولفهم الناس فى مجتمعنا.
بدأنا مع تقدم سنين الدراسة نتوسع فى فهم ليس فقط الأبعاد المركبة والإمكانات التى يحملها التعامل مع التغير المناخى ولكن أيضا فى التعرف على الارتباطات الوثيقة للتغير المناخى مع تهديدات أخرى ربما تكون أكبر ولكننا لا نتناولها بالقدر التى تستحقه وخاصة قضية «التنوع الحيوى» ومكننا ذلك من طرح أسئلة أفضل وأكثر تطورا عن حاضر ومستقبل القرية. كما أدركنا أيضا أن التغير المناخى لا يصلح كمدخل فقط لتلك القرى المهددة بالغرق والواقعة فى ساحل الدلتا ولكنه أيضا يصلح لتناول العديد من قرى الريف المصرى على تنوع جغرافيتها.
ما هو جوهرى فى اتخاذ التغير المناخى كمدخل وإطار لدراسة الريف المصرى هو أنه يساعدنا فى الفهم والتعامل معه ككائن حى أجزاؤه مترابطة بصورة لا يمكن تبسيطها أو تفكيكها أو تلخيصها فى مجموعة مكونات سواء كانت أرضا نزرعها أو بيوتا نسكنها أو طرقا نسير عليها. وهذا البناء الحى المترابط والمعقد والذى هو جزء من منظومة حية ذات مستويات متعددة ومتصلة بالمنظومة الكبيرة لكوكب الأرض يتطلب تعاملا ودراسات ومقترحات تتعامل بحساسية مع ذلك البناء الحى لكى تتمكن من استعادة قدرتها على التجدد وتكون قادرة على دعم من يعيش فى ظلها.
ما رأيناه أيضا فى إطار تعاملنا مع هذا التحدى الكبير الذى يواجه البشرية أنه بقدر ما هو يمثل تهديدا وجوديا لنا فإنه أيضا يحمل فرصا ربما تكون استثنائية لفهم أفضل لما حولنا ولإيجاد وسائل للحياة المزدهرة للناس فى ظل إمكانات وموارد محدودة وبصورة مستدامة. هذه الفرصة التى تستنفر عقولنا جميعا وتتحدانا تتطلب ابتكارات عديدة ولكنها تتطلب منا أولا احتراما عميقا لا لبس فيه للبيئة الطبيعية والتزاما بالحفاظ عليها كما تتطلب منا اعتمادا على العلم وتشجيعا للعمل الجماعى العلمى. وتتطلب أيضا احتراما للمجتمع ومعارفه التقليدية وتاريخه الذى يكمن فى بعضه حلول لمستقبلنا. ونستطيع من خلال ذلك الإطار أيضا أن نستعيد قدرتنا على المساهمة فى بناء الحضارة الإنسانية كما كنا دائما.
التعليقات