ينتقد جمال حمدان فى مقدمة كتابه «شخصية مصر» تعاملنا مع تاريخنا ونظرتنا لمستقبلنا، وينتقد الجنوح للمغالاة والتطرف إما نحو التهويل أو التهوين الإيجاب أو السلب. وتذكرنا التحديات الكبيرة التى نواجهها الآن بأهمية هذا التعامل الرصين الذى يتطلب الحاجة إلى أرضية المعرفة والبيانات المحققة لا على التصورات المنقوصة والتقدير المبالغ فيه للذات والذى نراه واضحا كلما مرت بنا أحداث أو مناسبات وما يحيط بها من ردود أفعال تجنح فى غالبها للمبالغة.
كنت أناقش زملائى من سنوات قليلة فى مفهومنا عن التاريخ وخاصة فى مدينة القصير، وقلت إننا لا نستطيع فهم تاريخ القصير كمدينة وآثار بدون فهم كيف أثرت وديان القصير وخاصة الوادى القديم ثم وادى العمبجى فى فهم طبيعة العمران الحالية وما تواجهه من تحديات. ما اقترحته وقتها هو فهم التاريخ كاستمرارية وهو مفهوم لا ينفصل فيه الماضى عن الحاضر، ويمكننا من النظر للتاريخ كأداة للتعرف على أصل أو بداية حاضرنا وعلى ذلك يكون فهمه خطوة أولى لفهم حاضرنا وربما أيضا يمكننا من بناء تصور لمستقبلنا.
للأسف لم نتمكن فى هذا العام من مناقشة هذا المفهوم بالعمق الذى تمنيته مع الطالبات والطلبة ولكن فى السنة التالية وفى دراستنا لقرية ميت رهينة الواقعة بالقرب من سقارة كنت قد راكمت بعض المعرفة عن تاريخها وعلاقتها بالنيل. وتساءلنا عما إذا كان الفهم المتصل للزمن فى هذا المكان الذى أسست فيه أول عاصمة موحدة لمصر منذ نحو خمسة آلاف عام يمكن أن يساعدنا فى توجيه تفكيرنا ليكون طويل الأمد. كان اقتراحنا لأداة الوصل بين الأزمنة المختلفة هى إنشاء منصة رقمية تتخذ من متحف ميت رهينة مقرا لموقعها على الشبكة الدولية، وأن يتم من خلالها توثيق رقمى للمعارف والممارسات التقليدية فى نواحِ الحياة المختلفة للمصريين القدماء وخاصة فى إدارة المياه وإنتاج الطعام والتى أشارت العديد من الدراسات لدورها المهم فى تطوير ممارسات محلية مستدامة للحاضر والمستقبل. وتستهدف تلك المنصة تشجيع السكان المحليين على زيادة معارفهم وفهم واكتساب مهارات مفيدة لما يقومون به سواء فى الزراعة أو فى مناحى أخرى للعمل، وأيضا ربطهم بتاريخهم وإتاحة الفرصة لهم لاكتشاف الكنز الأكبر الموجود تحت أقدامهم وهو المعرفة التى تمكنهم وأولادهم من العيش بكرامة والتخطيط لمستقبلهم.
مضينا فى هذا العام خطوة أخرى للأمام ونحن نقوم بدراسة منطقة برج رشيد فى أقصى شمال الدلتا على فرع النيل وقبل بضعة كيلومترات من التقائه مع البحر المتوسط. وحاولنا تطوير مقاربتنا للتاريخ من خلال فحص الإطار الزمنى المتاح به معلومات وبيانات أكثر دقة ويمتد هذا الإطار لأكثر قليلا من مائتى عام؛ حيث يبدأ من الخرائط التى رسمتها الحملة الفرنسية فى ذلك الوقت. ساعدتنا تلك الدراسة فى فهم الموائل الطبيعية التى ضمتها منطقة مصب النيل عند فرع رشيد، كما تسجل الخرائط كيف أنه أثر الفيضان السنوى للنهر على منطقة المصب فيكتسب مساحات سنوية من الأرض نتيجة لتراكم العوالق التى يحملها معه كل عام وخاصة قبل بناء خزان أسوان وكيف تغير ذلك بصورة درامية خاصة بعد بناء السد العالى وانقطاع الفيضان بدءا من العام الثالث والستين من القرن الماضى الذى انتهى بناؤه فى العام السبعين من القرن العشرين.
ساهم ما قام به العديد من سكان المنطقة من تحويل الصحراء الساحلية خاصة فى المنطقة غرب البوصيلى فى إزالة بعض المعالم الطبيعية لمنطقة المصب مثل الكثبان الرملية بالقرب من شاطئ البحر وخاصة فى تسعينيات القرن الماضى. ثم كان أن شقت الدولة الطريق الساحلى عبر المناطق المنزرعة حديثا، كما أنها تقوم أخيرا ببناء مدينة رشيد الجديدة والتى سينجم عنها إزالة جزء كبير من الموائل الطبيعية فى تلك المنطقة. وبمقارنة ذلك بالسيناريو المتوقع لما يمكن أن يحدث فى المسقبل والذى نتج عن استخدام المحاكاة الحاسوبية لتوقعات تأثيرات التغير المناخى فى تلك المنطقة استطعنا أن نحدد بوضوح حجم التحديات المحلية التى تواجه ساكنى المنطقة والبيئة الطبيعية فيها. مكننا ذلك الفهم الأولى من بناء رؤية لما يمكن عمله فى تلك المنطقة لوقف التدهور فى الموائل الطبيعية واستعادة تنوعها الحيوى نظرا لدورها الحاسم فى دعم الحياة لسكان تلك المنطقة، كما مكننا من تطوير فهمنا السابق لنوعية التدخلات المطلوبة للقيام بذلك فى برج رشيد وربما فى مناطق مشابهة فى ساحل شمال الدلتا.
أوضحت لنا هذه البداية التاريخية لاهتمامنا بالمستقبل العديد من النواحى التى لم تكن بهذا الوضوح من قبل كما أنها أتاحت أرضية للفهم. ولتبرير مسارات للمستقبل نأمل أن تكون أكثر استدامة وارتباطا بالمكان. كما أنارت لنا طريقا للمستقبل نستطيع فى إطاره أن نشرك العديد من سكان المنطقة والمهتمين بها أيضا.