يحيى بن زكريا رسول عظيم احتفى به القرآن والأناجيل ويسمى عند المسحيين «يوحنا المعمدان» أى «يوحنا المغتسل» وهو ابن خالة المسيح، ويسبقه فى العمر بستة أشهر، ووالدته «اليصابات» شقيقة حنة أم مريم عليهم السلام، وكانت عابدة متبتلة ومن أهل العزمات فى الإيمان مثل زوجها وشقيقتها، أما والده فهو نبى الله زكريا وكان الرئيس المقدم على أهل الدين فى زمانه، وهو الذى كفل مريم بعد وفاة والدها.
ووالدا يحيى من سلالة الكهانة من أبناء هارون، وكذلك مريم ووالداها عليهم السلام، ولذلك قال القوم لمريم «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا».
وذكر القرآن العظيم معجزة ولادة يحيى مرات، فقد بلغ زكريا وزوجته الكبر عتيا، وكانت اليصابات «أم يحيى» معروفة بأنها عقيم.
ورغم ذلك اشتاق زكريا أن يكون له ولد يرث الصلاح والنبوة، وكان هذا الأمل يتوهج فى نفسه بين الحين والآخر حتى وجد المعجزات تحدث لمريم فدعا ربه بالذرية الطيبة وجاءته البشارة سريعا.
وتقترب معجزة ولادة يحيى من ولادة عيسى عليهما السلام «فقد استغرب زكريا حينما بشره جبريل بولادة يحيى «أنىٰ يكون لى غلام» كما استغربت مريم فقالت «أنىٰ يكون لى غلام» وكلاهما سرد أسبابه، فزكريا قال «قد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر» ومريم ذكرت أسبابها «لم يمسسنى بشر» والإجابة من الملك تكاد تكون متطابقة «كذلك الله يفعل ما يشاء» مع زكريا «كذلك الله يخلق ما يشاء» مع مريم.
زكريا صمت عن الكلام بعد المعجزة «آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» ومريم أوصاها الملك أن تقول «إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» كلاهما أمر بالصمت، فالمعجزة أكبر من أن تقنع العقول، والصمت هو أبلغ رد، وحديث الطفل المعجزة نبى الله عيسى كان أبلغ رد على الذين تعجبوا من ولادة طفل بلا أب وحديثه فى المهد«قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا».
لقد بدأ يحيى وعيسى دعوتيهما فى وقت واحد تقريبا، وإن كان يحيى أسبق فى الدعوة.
مرت الأيام بنبى الله يحيى فوجد الحاكم هيرودس غارقا فى الشهوات والمظالم وقصور الأغنياء مسرحا للخلاعة فقد أدركوا أن المناصب لا تنال إلا بالرشوة والنساء.
تلقى وحى السماء الذى أمره بالعزمات وأخذ الدين بقوة «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا» لم يشغله عن دعوته زوجة ولا بيت ولا ولد، فقد وصفه القرآن «وسيدا وحصورا» كان مثالا للناسك الصارم الذى لا يحابى ولا يتردد، ينذر كثيرا، ويبشر قليلا، لا يهاب أحدا، ولا يخشى بطش حاكم ولا ذى سلطان، لم يترك مظلمة أو شهوة محرمة إلا ونقضها ونقدها.
اجتمع إليه الآلاف وتحدثت الدنيا كلها عنه فتبدل اليأس فى القلوب إلى أمل.
يحيى وعيسى كانا من أهل البر والرحمة وقد خصهما القرآن «بمنحة السلام» فى أحلك اللحظات، وهى الميلاد والوفاة والبعث من الموت، فلو سلم الإنسان فى هذه اللحظات الثلاثة لسلم وغنم فى الدنيا والآخرة.
وقد خص القرآن كلا النبيين بمدح عظيم لم يمنحه لأحد وهى «منحة السلام» فى أحلك اللحظات وأهمها، وهى لحظة الميلاد، لحظة الوفاة، لحظة البعث من الموت، وهى أدق وأشق وأصعب اللحظات التى يمر بها أى إنسان فلو سلم الإنسان فى هذه اللحظات الثلاثة لسلم وغنم فى الدنيا والآخرة، فقد شرف القرآن يحيى بن زكريا «يوحنا المعمدان» بقوله «سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا» وشرف عيسى أيضا بالسلام والسلامة فها هو يهتف وهو فى المهد «والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».
يحيى مهد الطريق لعيسى ابن خالته ورفيق دربه ودعوته وبدأ الدعوة إلى الله وحث الناس على التوبة قبل عيسى، فالأنبياء أشقاء لبعضهم الآخر، أو كما عبر الرسول «صلى الله عليه وسلم» أولاد لعلات، أباهم واحد وأمهاتهم شتى» أصول دعوتهم واحدة، وتفاصيل شرائعهم مختلفة باختلاف أزمانهم وأشخاصهم وأدواء أممهم، لا يعرفون إقصاء بعضهم للآخر، أو الحقد والحسد على بعضهم، ولذلك ذهب عيسى إلى يوحنا ليعمده فى نهر الأردن تواضعا منه وإنكارا لذاته، وحبا فى ابن خالته وتقديرا لعطائه وكفاحه.
رغم التشابه والتقارب الكبير بين عيسى ويحيى ابنى الخالة عليهما السلام إلا أن هناك فرقا بين الرسولين، فيحيى «يوحنا» كان قويا شديدا فى الحق، صارما فى حمل نفسه عليه وأخذ نفسه والناس بعزمات الإيمان، كان ثورة الحق على الباطل وكيف لا وقد أمره الله بذلك «يا يحيى خذ الكتاب بقوة ۖ وآتيناه الحكم صبيا» فصدع بأمر ربه، فأصبح كقذيفة حق على الباطل فجعله زاهقا.
تعقب الظلم فى القصور كما تعقبه فى الكهوف، وأصر على تطهير الرءوس مع تنظيف الأقدام، وسعى للقضاء على الإثم كله مهما كلفه ذلك من تضحيات.
كان لا يخشى فى الحق لومة لائم، لا يرجو عطف الناس ولا يخشى مقتهم، قاوم غطرسة الفريسين وكبرهم، ورد على استغلالهم للدين بأكل أموال الناس بالباطل بحجة أنهم من نسل إبراهيم صادما لهم بقول: «إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم» بل هددهم بأن ثمرة الصلاح ستذهب عنهم إن استمروا فى غيهم «كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى فى النار».
كان هيردوس ملكا ظالما، أخذ امرأة شقيقه وتزوجها وهى على ذمة شقيقه، هتف يحيى فى كل مكان ببطلان هذا الزواج ووصفه بالزنا المقنع.
اجتمع رأى هيرودس الملك مع هوى الفريسين الرهبان على القبض على يحيى، هكذا قبض على نبى الله يحيى فحرم البسطاء والصالحون من نور النبوة، وذلك من أجل امرأة وكأنه يكرر قصة جده يوسف رغم اختلاف النهاية.
ذبح الملك هيرودس النبى يحيى وقدم رأسه قربانا لغانية، وهكذا الغانيات تقدم لهن القربات الغالية فى كل العصور على مذبح الشهوات، ذبح يحيى ليجمع الله له شرف الشهادة مع النبوة وليلحق بأبيه العظيم زكريا الذى جمع المرتبتين من قبل.
هكذا لحق يحيى بأبيه زكريا شهيدا، فالأب نشر بالمنشار، والابن ذبح من أجل راقصة، فللراقصات والفاتنات دلال ونفوذ فى كل عصر.
كان لكل من ابنى الخالة العظيمين طريقته فى سوق دعوته إلى الناس، فقد كان عيسى رفيقا رقيقا ليست فيه صرامة وقوة يحيى، وكان يلاين الناس، أما يحيى فقد كان ثورة من أجل الحق وبركانا يغلى بالحمية على الدين والدفاع عنه.
عيسى كان لا يصطدم بالحكام ولا يأمر أتباعه بالتدخل فى شأنهم، وكان يقول لهم «دع ما لقيصر لقيصر وما لله فلله» وأمر أتباعه ومريديه بطاعة الملوك والسلاطين، وعدم الامتناع عن دفع المكوس والضرائب حتى وإن تسربلت بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، لئلا تتعطل دعوتهم بالصدام مع الحكام.
ولكن يحيى حارب الظلم فى القصور كما تعقبه فى الفلوات وأصر على تطهير الرءوس قبل تنظيف الأقدام، وسعى للقضاء على الإثم كله بين العوام والخواص، وكان يستطيع أن ينقذ رأسه بكلمة أو يعدل عن رأى سابق يضر هيرودس وزوجته ولكنه لم يفعل وقدم رأسه طواعية من أجل ترسيخ قيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والصدع بالحق، ممتثلا لقوله تعالى «يا يحيى خذ الكتاب بقوة».
كان عيسى يأكل الطعام الجيد ويرتدى أفخر الثياب ويختلط بالناس جميعا وكأنه طبيب فى مستشفى لن يحوطه إلا المرضى فيصبر ويحلم عليهم حتى يسعد بشفائهم، ولكن يحيى أراد حملهم على الحق حملا، فكان إنذاره أكثر من تبشيره، وتخوفيه أكثر من رجائه.
ولعل الاختلاف بين الرسولين العظيمين كان اختلاف الشخص الذى حمل الرسالة واختلاف الزمان الذى جاء فيه، والمجتمع الذى يريد أن يبلغه رسالته، ورغم ذلك احتار عيسى ويحيى «يوحنا» فى إرضاء البشر.
من تأمل قصة يحيى وعيسى عليهما السلام، سيجد تطابقا بين قصتيهما وقصة الشقيقين الحسن والحسين ابنى على رضى الله عنهم، فيحيى عليه السلام كان أقرب إلى شخصية الحسين الثائرة والصادعة بالحق وكلاهما ذبح، أما عيسى فكان أقرب إلى شخصية الحسن المتسامحة والرقيقة حتى مع العصاة والتاركة للحكام دون دعم أو معارضة.
الحسن تنازل عن الخلافة المستحقة له لمعاوية رأبا للصدع، وجمعا لكلمة الأمة وتقديما لاستقرار الدولة وقوتها على حقه فى السلطة، وقيل إنه دس له السم فعفا عن الذى فعل ذلك ورفض أن يذكر اسمه لأنصاره إيثارا للسلام والوئام ومنعا للحرب مرة أخرى، بل حث الحسين على عدم الخروج وكان فى ذلك يشبه المسيح عليه السلام.
أما الحسين ابن على فقد كان يشبه القذيفة الثائرة على باطل التوريث الذى حول الدولة والخلافة الراشدة إلى الملك العضوض فأبى أن يتنازل عن حقه أو يترك يزيد ليهنأ بالتوريث دون إرادة الأمة ومشورتها، ولحق بجده المصطفى وبنبى الله يحيى «عليهم السلام» وقدم رأسه قربانا للحق كما قدم يحيى، وأبى مثله أن يقول كلمة مداهنة ليزيد مثلما أبى النبى العظيم يحيى أن ينقذ رقبته بكلمة مجاملة أو مداهنة للملك هيرودس وعشيقته، ليلحقا معا بركب الشهداء، سلام على المرسلين والشهداء، وأهل الحق والحقيقة.